الفاتيكان: أَصغَرُ دولةٍ وأَعرَقُ ديبلوماسيةٍ في العالم

يُعتَبر الفاتيكان أصغر دولة في العالم، مساحتها 44 هكتاراً وتقع في العاصمة الإيطالية قرب نهر التيبر. عدد سكانها نحو 800 نسمة 450 منهم فقط يحملون جنسية الدولة. نصف من يحمل جنسية الفاتيكان يعيش في بلدان أخرى لكونهم كرادلة أو أساقفة. لدولة الفاتيكان علمها ولديها سفارات في الخارج وتلفزيون وإذاعة وصحيفة ومواقع تواصل.

توقيع معاهدة لاتران بين الكاردينال بيترو غاسباري وزعيم الفاشية بنيتو موسوليني في روما في العام 1929

السفير يوسف صدقة*

تمتدّ ديبلوماسية الفاتيكان والحضور البابوي في العالم إلى ألف وستمئة سنة. وقد بدأ البابا إرسال القاصد الرسولي (السفير) الى الممالك الايطالية في القرن الخامس عشر، حيث بدأ يظهر مفهوم السفير يتبلور في العصر الحديث. وأرسل ملك فرنسا لويس الحادي عشر، أول سفير لدى الكرسي الرسولي في العام 1463. وبدأ الفاتيكان منذ القرن السادس عشر إرسال سفرائه الى دول العالم، باعتباره “دولة أمّة” (Etat Nation). إستمرّت الديبلوماسية الفاتيكانية، رُغم الازمات الناتجة عن الثورة الفرنسية، ورُغم احتلال نابليون بونابرت روما والاراضي التابعة للبابا. وقد تأكّدت الديبلوماسية البابوية على الصعيد الدولي، في مناسبات عدة: منها معاهدة فيينا في العام 1815، ومعاهدة فيينا في العام 1961 للعلاقات الديبلوماسية والقنصلية، وخلال الفترة من 1870، عام الوحدة الايطالية، إلى 1929، لم يعد يملك البابوات أراضٍ، بعد اختفاء الدول الصغيرة التي كانت تحت رعاية وسلطة البابا.

النظام القانوني لدولة الفاتيكان

في 7 حزيران (يونيو) 1929، إعترفت الحكومة الإيطالية الفاشية بالسيادة المستقلة لمدينة الفاتيكان في معاهدة لاتران حيث يمارس بموجبها البابا السيادة عند انتخابه رئيساً للكنيسة الكاثوليكية ويتمتّع بسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية مطلقة داخل مدينة الفاتيكان، بحسب دائرة المعارف البريطانية.

وقد تم توقيع تلك المعاهدة في عهد الزعيم الفاشي، بنيتو موسوليني، وفيكتور إيمانويل ملك إيطاليا، والبابا بيوس الحادي عشر.

وهناك فارق دقيق بين الكرسي الرسولي ومدينة الفاتيكان:

فالكرسي الرسولي يُمثّل سلطة البابا على الكاثوليك في العالم وعددهم مليار وثلاثمئة مليون نسمة.

اما مدينة الفاتيكان فهي تُمثل أصغر دولة في العالم بمساحةٍ تبلغ 44 هكتاراً، حيث تتواجد الدوائر المختلفة التابعة للبابا، والتي تهتمّ في الحفاظ على التراث الديني والثقافي، وعليه يكون البابا هو الرئيس المدني والديني. ويبلغ عدد سكان دولة الفاتيكان حوالي 800 شخص فقط غالبيتهم من من الكهنة والراهبات، وهناك أيضاً مئات عدة من الأشخاص العاديين الذين يعملون في وظائف السكرتارية والوظائف التجارية والخدمية.

وتمتد الامتيازات الخاصة للفاتيكان خارج الحدود الإقليمية للمدينة لتشمل أكثر من 10 مبانٍ أخرى في روما، فضلاً عن قلعة غاندولفو، المقرّ الصيفي للبابا في منطقة ألبان هيلز.

وقد نصت معاهدة لاتران لعام 1929 في فقرتها الثانية: ” تعترف ايطاليا بسيادة الكرسي الرسولي في المجال الدولي، وذلك بالتوافق مع تقاليد الفاتيكان ومتطلباته الوظيفية في العالم”.

فالكرسي الرسولي يمارس نشاطه، في إطار القانون الدولي بصفتين: صفة القيادة للكاثوليك في العالم، وعندما يعتمد الكرسي الرسولي السفراء، فإنه يعتمدهم بصفته يمثل دولة الفاتيكان، وبصفته يمثل رئاسة الكنيسة الكاثوليكية في العالم.

الإعتراف الدولي للفاتيكان في العالم

يُقيم الفاتيكان علاقات ديبلوماسية مع 185 دولة، وهو عضو مراقب في الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية منذ العام 1964، حيث تتولى سكرتارية الدولة مهام وزارة الخارجية. وقد تخطّى الفاتيكان منذ 1805 التقاليد الكاثوليكية، وأقام علاقات ديبلوماسية مع بروسيا البروتستانية، كما أقام علاقات ديبلوماسية أيضاً مع اليابان في العام 1942.

اما الدول التي لم تعترف بالفاتيكان فهي الصين، السعودية، فييتنام وكوريا الشمالية. إلّا أن البابا بنيديكتوس السادس عشر استقبل الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، وشارك الفاتيكان كعضو مراقب في “المركز الدولي لحوار الأديان والثقافات” الذي أنشأته السعودية في العام 2012 مع النمسا وإسبانيا.

الأكاديمية الديبلوماسية

تأسّست الأكاديمية الحَبرية الكَنَسية، والتي تسمّى أيضاً مدرسة القاصدين الرسوليين، في العام 1700. وتقوم مهمتها على تحضير الكهنة من جميع الجنسيات للوظيفة الديبلوماسية الفاتيكانية. وهي أعرق أكاديمية ديبلوماسية في العالم، حيث على الطالب في الاكاديمية ان يتعلّم 4 لغات أجنبية على الاقل وهي الايطالية، اللاتينية، الانكليزية والفرنسية وغيرها من اللغات، بالإضافة الى المواد الأخرى مثل القانون الدولي، البروتوكول، فن الخطابة، رصد المعلومات وتحليلها، والعلاقات الدولية.

دور الفاتيكان وفق رؤية الباباوات والكرادلة

إعتبر البابا بولس السادس أن أولوّية الفاتيكان هي احترام القوانين في العلاقات الدولية، واحترام حرية الانسان وحرية الشعوب. اما دور الكرسي الرسولي وفق الكاتب “جويل بينوا دونوريو” (Joël-Benoît D’Onorio) مؤلّف كتاب “البابا وحكومة الكنيسة”، فهو المساهمة الفعّالة في تطبيق القانون الدولي، مع التركيز على المسائل الدينية والأخلاقية، بالإضافة إلى أن الوضع القانوني للكرسي الرسولي يؤكد السلطة العليا للكنيسة الكاثوليكية .

أما البابا يوحنا بولس الثاني، الذي كان له حضورٌ مميز على الصعيد العالمي، فقد ركّز فيه على حرية المعتقد، والكرسي الرسولي يعمل لتأمين الحرية الحقيقية للكنيسة الجامعة. وقد اعتبر الكاردينال الفرنسي “جان لوي بيار توران” (Jean-Louis Pierre Tauran) “أن قوة البابا يوحنا بولس الثاني هي في الكلمة، وشخصيته تتماهى مع شخصية نبيٍّ بدون سلاح” .

الديبلوماسية الفاتيكانية في النظام الدولي

في مؤتمر يالطا الذي انعقد في العام 1945، طالب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل رئيس الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين باحترام الحريات الدينية في أوروبا الوسطى التي احتلّها الجيش الأحمر، وهذا مطلب نقله الى المؤتمر البابا بيوس الثاني عشر. أجاب ستالين مُتَهكّماً: ” كما يملك البابا من ألوية مُدرّعة؟”.

اما رئيس وزراء مملكة بروسيا أوتو فون بسمارك، الذي أشرف على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى “الرايخ الألماني الثاني”، فقد اعتبر أن أية ديبلوماسية لا تستند الى السلاح، هي مثل الموسيقى بدون أدواتٍ موسيقية.

من هنا، فإن الديكتاتوريات والانظمة الشمولية لا تعترف في المطلق بقوة البابا المعنوية. فوزير خارجية الفاتيكان في بداية الستينات الكاردينال دومينيكو تارديني، اعتبر أن ديبلوماسية الكرسي الرسولي هي ديبلوماسية مُبتَكَرة ومُربِكة للدول العظمى.

فديبلوماسية الكرسي الرسولي لا تتماهى مع ديبلوماسية الدول ، فهي لا تدافع عن مصالح مادية أو آنية أو جيوستراتيجية، بل تهدف الى حماية الكاثوليك في العالم وقيم العدالة وحقوق الانسان في المجتمع الدولي.

الديبلوماسية الفاتيكانية معروفة بالكفاءة والفعالية والتفاعل مع المجتمعات. والقاصد الرسولي ( السفير) لا يُستدعى إلى الفاتيكان، عندما تسوء الأحوال أسوة بالدول الأخرى. ففي العراق بقي القاصد الرسولي خلال الاعوام 1990 و1991 و2003، وفي بوروندي في العام 2003، وفي سوريا في العام 2011، وتبقى السفارة البابوية هي مصدر المعلومات في المناطق الخطرة عندما تغيب معظم السفارات.

إن هاجس الحياد، الذي يصنع ديبلوماسية الفاتيكان، لا يعني التخلّي عن المسؤولية الدولية والتدخّل لتحقيق الأمن والسلم الدوليين. ففي النزاع الأميركي-الكوبي في العام 1962، تدخّل الكرسي الرسولي لنزع الاحتقان مع الرئيس الأميركي الكاثوليكي جون كينيدي.

كما تدخّل الفاتيكان في النزاع بين الأرجنتين والتشيلي حول الخلاف على قناة “بيغل” (Beagle) بين البلدين، وأسفرت المساعي الحميدة عن اتفاقٍ في العام 1985. وكان للفاتيكان أيضاً دورٌ ريادي في المؤتمرات الدولية، ولا سيما في ” مؤتمر السكان والتنمية ” الذي دعت إليه الأمم المتحدة في مصر في العام 1994، حيث قام بحملة ناجحة ضد الإجهاض…

وقد مارس البابا يوحنا الثالث والعشرين والبابا بولس السادس سياسة “الإنفتاح نحو الشرق” (Ostpolitik)، والتي تتمثّل بإقامة علاقاتٍ مع الأنظمة الشيوعية لحماية المسيحيين من نظام الإلحاد. وقد اعتبر الكاردينال أنجيلو سودانو، سكرتير الدولة في أيام البابا يوحنا بولس الثاني، “أن الكرسي الرسولي يتعاطى مع السلطات  لمحاولة تخفيف الالام التي تُعاني منها الشعوب المقهورة”.

واعتبر البابا بولس السادس “أن الكرسي الرسولي يتمتّع بخبرةٍ في المجال الإنساني تجعل من اولوياته التدخّل في الأمور الدولية وفقاً لمبادئ العدالة والخير العام”.

الدور المحوري للبابا يوحنا بولس الثاني

لعب البابا يوحنا بولس الثاني دوراً محورياً في الانفتاح على الغالبية العظمى من دول العالم ، باستثناء الصين وفييتنام وكوريا الشمالية، وذلك في رحلاته العديدة وتفاعله مع الحشود الشعبية ولقاءاته مع كبار القادة في العالم. واتّخذ مواقف حازمة ضد الحرب في العراق في العام 1993، وشجّع المبادرات الدولية لنزع السلاح . وكانت لزياراته المتتالية الى بولونيا (بولندا) موطن رأسه، الأثر الكبير في انهيار النظام الشيوعي فيها، وقد غيّرت زيارات البابا يوحنا بولس الثاني مجرى التاريخ. واستقبل ميخائيل غورباتشوف في العام 1989 قبل سنتين من انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد أدى سقوط الشيوعية في بولونيا الى انهيار دول حلف وارسو في إطار نظرية الدومينو.

وفي إطار الدفاع عن حقوق الانسان الفليبيني، قام رئيس أساقفة مانيلا الكاردينال “هايمه لاتشيكا سـِن” (Jaime Lachica Sin) بحملةٍ سياسية أجبرت الرئيس الفليبيني فرديناند ماركوس على الرحيل في العام 1996. ثم ما لبث أن قاد حملة سياسية أخرى في العام 2001 ضد الرئيس جوسف استرادا متهماً إياه بالفساد الأمر الذي أطاحه لتحل مكانه نائبة الرئيس كلوريا أرويو.

وخاض البابا يوحنا بولس الثاني أيضاً حملة ضد الحظر الذي فرضته أميركا على كوبا في العام 1998. كما أجرى الكرسي الرسولي مفاوضات طويلة مع تل أبيب أدت إلى اعترافٍ متبادل بين إسرائيل والفاتيكان في العام 1993.

وقد حاول البابا اعطاء “نظامٍ دوليٍّ خاص ” لمدينة القدس، وتابع المسألة اللبنانية منذ انتخابه في العام 1978، عبر الاتصالات الدولية وارسال الموفدين الى بيروت، وقد توّج مساعيه بزيارة لبنان في العام 1997 والتوقيع على وثيقة “الإرشاد الرسولي: رجاءٌ جديدٌ للبنان”.

البابا بيندكتوس السادس عشر

عمل البابا بيندكتوس السادس عشر على التقارب مع الطائفة الأرثوذكسية، ولا سيما مع بطريرك روسيا، كما عمل على تعميق الحوار مع المسلمين وحذّر من تجاوزات العلمانية في اوروبا.

على الصعيد السياسي دافع عن وضع المسيحيين في الشرق الأوسط إثر ثورات “الربيع العربي”. أطلق حواراً مع السلطات الصينية لتأمين الدعم للكاثوليك في الصين الذين لا يَعترف بهم النظام الشيوعي.

البابا فرنسيس

طبع البابا فرنسيس، ولمّا يزال، حبريته بالتحذير من تأثير العولمة في الحريات الأساسية للإنسان. ودعم حقوق اللاجئين في أوروبا والعالم، ودان الإتجار غير المشروع بالاشخاص، ودافع عن المُهمّشين في أوروبا. وحثّ الدول الكبرى على الدفاع عن البيئة والتغيّر المناخي. ودعا في العام 2013 إلى يوم صلاة لمنع العنف في سوريا، وتابع الحوار مع بطريرك القسطنطينية الأرثوذكسي برتلماوس الأول.

وتوّج زيارته إلى كوبا في العام 2016، بلقاء الحوار والتفاهم مع بطريرك عموم روسيا الأرثوذكسي كيريل الأول. كما دعا الى تقديم المساعدات للمسيحيين الذين هُجّروا من العراق، سوريا، مصر، وليبيا، وقد توّج حواره مع شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيّب بالتوقيع على “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” خلال زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة في شباط (فبراير) 2019.

وفي سبيل دفع عملية السلام في الشرق الاوسط، إستقبل في الفاتيكان في العام 2014 الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز.

وقد زار العراق في السادس من آذار (مارس) الفائت وقابل آية الله العظمى علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى، وتمّ اقامة حوار لأول مرة بين المرجعية الكاثوليكية والمرجعية الشيعية في العالم.

أهمية الديبلوماسية الفاتيكانية

إن الهدف الرئيس للكرسي الرسولي هو الدفاع عن مصالح الكنيسة الكاثوليكية، والسعي لدى الدول إلى اعترافها بسلطة روما على تعيين الاساقفة والحفاظ على ممتلكات الكنيسة، وممارسة الحرية الدينية. يضاف الى ذلك الدفاع عن حقوق الانسان والحريات الأساسية، ومواجهة انحراف العلمنة نحو الموافقة على الاجهاض ودعم المثليين، ومخالفة آداب مهنة الطب في مسألة التلاعب بالأجنّة.

إن علاقة الفاتيكان مع المنظمات غير الحكومية، وحضور ممثليها في رعايا الدول، يعطي للفاتيكان دوراً مهمّاً في جمع المعلومات واستثمارها في المفاوضات مع الدول، وفي السعي الى حلّ النزاعات الدولية.

مع ذلك، تبقى مهمّة الفاتيكان صعبة في ظلّ الحملات الاعلامية المُضادة لسياسته من قبل مناصري العولمة، والشركات المتعددة الجنسيات ولا سيما المصدّرة للأسلحة، ومن قبل المنظمات الماسونية والإلحادية. ويصطدم الخطاب الفاتيكاني في بعض الأحيان  مع مصالح الدول الكبرى والإقليمية. في المحصّلة النهائية، فإن خطاب الفاتيكان هو خطاب قيمي معنوي لا يسعى الى مصالح خاصة إنما إلى احترام الحقوق الاساسية للإنسان ومفاهيم العدالة.

ويبقى أنه لإنقاذ لبنان من محنته، وللفت نظر العالم وخصوصاً الولايات المتّحدة وأوروبا، دعا البابا فرنسيس في الأول من تموز (يوليو) الجاري الى يوم التأمّل والصلاة من أجل لبنان، حيث دعا جميع الطوائف المسيحية الى لقاء وصلاة في الفاتيكان، من أجل نهوض لبنان من أزمته الراهنة .

فهل تنجح ديبلوماسية الرجاء والإيمان في إنقاذ لبنان؟

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى