عُمان: هل تُعجّل الإحتجاجات والجائحة بإصلاحاتٍ اقتصادية جوهرية؟

أكّدت احتجاجات العُمانيين الباحثين عن عمل ضرورة الإسراع في إجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية، ولا سيما أن الجائحة أفرزت ضغوطاً كبيرة لإجراءاتٍ قاسية لإنعاش الاقتصاد ضمن خطة متوسطة المدى.

أسواق عُمان: أثّرت فيها الجائحة

فاطمة العريمي*

في الأسبوع الأخير من شهر أيار (مايو) 2021، شهد عدد من ولايات سلطنة عُمان احتجاجات وتجمّعات، أغلبها سلمي، لها مطلب رئيس واحد وهو التوظيف، ونتج عنها أوامر سلطانية بالإسراع في إجراءات التوظيف وحزمة لدعم التشغيل في القطاع الخاص بالتحديد. وكانت هذه الاحتجاجات هي الأولى بهذا الحجم منذ العام 2011، والتي جاءت لتعكس حالة الضيق التي أفرزتها الضغوط الاقتصادية المختلفة.

من جانب آخر، فإن تزامن الجائحة مع عهد جديد من الحكم في السلطنة يجعل من العام 2020 بداية مرحلة التحوّل وفرصة لإعادة التوازن بين الحكومة وعلاقتها بالقطاع الخاص والمجتمع المدني: مؤسسات وأفراد.

ولأنّ الحكومة بحاجة ماسة إلى ما يمتلكه القطاع الخاص من موارد للاستثمار وتعظيم الاقتصاد، فهي مُطالَبة بتقديم تنازلات وضمانات أوسع لهذا القطاع الذي يُتَوَقع منه حمل عبء التوظيف، والاستثمار والتنويع الاقتصادي، وأن تكون مستعدة لتقديم أضعاف ما كانت تقدمه من تسهيلات، وأن تكبح جماح الشركات الحكومية التي توسّعت خلال العقد الفائت ضمن حزمة إصلاحات اقتصادية، ومن ضمنها الإصلاح المالي الذي كان الدافع الأساس لبدء العمل على خطة التوازن المالي متوسطة المدى في أيلول (سبتمبر) 2019. وأُلقِيَ على عاتقِ الخطة مهمة التخلص من تحدّياتٍ تراكمت خلال الخطة الخمسية التاسعة، مثل توسّع الجهاز الإداري بالتزامن مع الظروف الصحّية التي كان يمر بها السلطان قابوس.

بدأت الجائحة تأثيراتها المباشرة على اقتصاد السلطنة مع نهاية الربع الأول من العام 2020، وغيرت سرعة خطة التوازن الإقتصادي متوسطة المدى التي عرضت للمرة الأولى على السلطان هيثم بن طارق في شباط (فبراير). ومع ظهور الجائحة، كان على الخطة الجديدة أن تحمل أيضاً وزر تداعيات كورونا، وأن تمتصّها بالتوازي مع التخلّص من أوزار الماضي.

وأوجدت الجائحة الفرصة المواتية لتحقيق بعض المكاسب؛ ففي خطابه في مناسبة اليوم الوطني الخمسين للسلطنة، قال السلطان هيثم بن طارق أن الأزمة الناتجة عن الظروف الاقتصادية والجائحة “سَرَّعَت من وتيرةِ التحوّلِ إلى العملِ الرقميِّ وتوظيفِ التقنيةِ، في مجالاتِ العملِ الحكوميِّ والخاص، على نحوٍ لم يكنْ لِيَجِدَ الاستعدادَ اللازمَ، والاستجابةَ المناسبةَ، التي وجَدَهَا في هذهِ الظروف”.

كما نتج عنها المباركة السلطانية لمقترح سبق أن طُرِحَ على الحكومة مرتين لكن قوبل بالرفض، قبل أن يقرّه السلطان الجديد في بداية الربع الثاني من 2020 بالموافقة على إزاحة مصروفات قطاع النفط والغاز من الموازنة الحكومية إلى كيانٍ تجاري جديد يعمل بأُسسٍ استثمارية لتمويل المصروفات، وصدور مرسوم سلطاني بتأسيس شركة تنمية طاقة عُمان في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.

وبفضل الأزمة التي عمقتها الجائحة، قضت خطة التوازن “المعتمدة” بالتسريع في تطبيق ضريبة الدخل على أصحاب الدخل المرتفع لتكون في العام 2022 عِوَضاً عن خطة تطبيقها المقترحة سابقاً لتكون في 2023. وتتوقع الخطة بعد التعجيل في تطبيق الضريبة المذكورة أن تبلغ إيرادات الحكومة في العام الأول 122 مليون ريال عُماني (317 مليون دولار أميركي)، مع مقترح لتوسيع شريحة الخاضعين لها في العام التالي بما يرفع إيراداتها إلى 450 مليون ريال عُماني (1.17 مليار دولار أميركي).

وبدلاً من توقعات “توازن” للفترة 2021-2024 –قبل احتساب تأثيرات الجائحة– بأن يخفض العجز المالي من 1.7 مليار ريال عُماني (4.5 مليارات دولار أميركي) إلى نصف مليار ريال (1.3 مليار دولار)، تم تعديل الخطة لتُخفّض من عجزٍ مُتوَقَّع من 3.2 مليارات ريال (8 مليارات دولار) إلى نصف مليار ريال عُماني. ووفقاً للخطة قبل التعديل، تم تقدير سعر النفط في موازنات الأعوام من 2021 إلى 2024 عند 60 دولاراً للبرميل، لكن اتخذت الحكومة مساراً أكثر تحفّظاً مع تعديل السعر عند 45-50 دولار خلال الفترة ذاتها.

وفي الوقت الذي كانت تأثيرات الجائحة تتسلّل إلى أوصال الاقتصاد وتستنزف سيولة القطاع الخاص، ومعنويات القطاع العام، ووظائف الأفراد شهراً تلو الآخر، كانت الإجراءات مُستَمرّة في وقف امتيازات كبار مسؤولي الدولة، وفي إحالة ذوي الخدمة الطويلة في القطاع الحكومي إلى التقاعد الإلزامي، وإلغاء المجالس التي توسّعت، ودمج وزارات تداخلت أو تقاربت اختصاصاتها، وإعادة النظر في العقود الحكومية.

لكن الإجراءات التي أدخلت بنود الإنفاق الحكومي في برنامج حمية قاس، أثرت سلباً في انسياب الأموال التي كانت تصل إلى عجلة اقتصاد القطاع الخاص بشكلٍ عام، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، بسبب تأجيل أو إيقاف مشاريع حكومية. واتّسعت الدائرة لتشمل الحِرَفيين والعاملين لحسابهم الخاص، بسبب الإجراءات الاحترازية لاحتواء الجائحة وما تضمّنته من إغلاق مُتكرّر للأنشطة الاقتصادية، الأمر الذي وضع الدولة أمام تحدي الموازنة: بين الحاجة المُلحّة لعدم التوسّع في الإنفاق الحكومي، وواقع اعتماد الاقتصاد العُماني على هذا الإنفاق.

وهنا كانت الحاجة إلى توازنٍ من نوعٍ آخر: بين ضرورة خفض إنفاق الحكومة وتعزيز الإيرادات من جانب، ومدّ نظام الحماية الاجتماعية لامتصاص جزءٍ من تداعيات الأزمة التي أفرزت شحّاً في الوظائف ورفعت عدد الباحثين عن عمل، وتزامن ذلك مع الرفع التدريجي لدعم خدمتَي الكهرباء والمياه ودخول ضريبة القيمة المضافة حيز التنفيذ خلال العام الجاري.

ونتيجة لذلك تم الإعلان عن خطة التحفيز الإقتصادي في آذار (مارس) 2021 التي تَمنَح الحكومة من خلالها تسهيلات ضريبية وبنكية، وإجراءات تفضيلية للمستثمرين –الذين تتجاوز استثماراتهم مليون دولار أميركي- في القطاعات المستهدفة للتنويع الاقتصادي في الخطة الخمسية الحالية.

ولكن تبقى تحديات ملف الأمان الاجتماعي المُرتبط بالتوظيف، فرُغم الوعود الحكومية المُرتبطة بالتوظيف وتوفير فرص للتدريب أو التأهيل أو العمل، إلّا أن واقع البيانات الرسمية يعكس ارتفاع معدل الباحثين عن عمل كمؤشر إلى حراكٍ اقتصادي مُتباطئ. ومع رغبة الحكومة في ترشيق الهيكل الإداري، فإن عدد العُمانيين في القطاع العام المدني في انخفاض، ولن تتجه الحكومة لتعيين أو إحلال العُمانيين في الوظائف الحكومية إلّا للضرورة القصوى مع تعويلها على القطاع الخاص لخلق فرص العمل.

ومن جانب آخر، فأنه من المُبكر ملاحظة تأثير خطة التحفيز الإقتصادي، التي تم اعتمادها في آذار (مارس) 2021، أو مبادرات الحماية الإجتماعية التي تم إعلانها في نيسان (أبريل)، في الاقتصاد بشكلٍ عام وفي سوق العمل بشكلٍ خاص.

حَوكمة الأداء والنزاهة

في خطابه الثاني للشعب، تحدث السلطان هيثم عن “حَوكمة الأداء والنزاهة والمُساءلة والمُحاسبة” عند حديثه عن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وتحديث التشريعات، حيث يُعَدُّ ملف محاربة الفساد أحد التحديات الأبرز والأكثر صعوبة في التعامل معها. ففي الوقت الذي يُلاحَظ أن السلطان الحالي يستعين على قضاء حوائج البلاد بالكتمان؛ يربط المجتمع المُحاسبة بالإشهار وهو الأمر الذي يخلق جدلا بشأن التعامل مع ملف المُساءلة والمُحاسبة.

ولكي تكتمل مرحلة التغيير وَجُبَ تصحيح العلاقة بين أطراف الدولة من حكومة وقطاع خاص ومجتمع مدني. فالقطاع الخاص لا يرغب بأن تكتفي الحكومة بأخذ رأيه في جلسات وحلقات عمل، وتُقَدَّم للإعلام، باسم الشراكة؛ بل أن يجد تلك الآراء جزءاً من القوانين والتشريعات والقرارات التي تسنّها الحكومة. في العام 2016، أطلقت الحكومة برنامج تعزيز التنويع الاقتصادي، وجمعت شريحة واسعة من ممثلي القطاع الخاص لتفصيل احتياجات نمو الاقتصاد ضمن سلسلة مختبرات مكثفة، لكن حالة الأمل والتفاؤل التي انتشى بها المشاركون في رسم مبادرات التنويع بدأت تخبو سريعاً مع عدم تنفيذ أغلب ما تم طرحه على طاولات المناقشات.

على الصعيد المُجتَمعي، ومع تقديم أشكالٍ أكثر من الضرائب إلى المنظومة الاقتصادية للسلطنة، وتحوّل الفرد في المجتمع إلى مساهمٍ في تمويل موازنة الدولة بوصفه مُستفيداً من الخدمة والمنتوج، تتزايد المطالبات المجتمعية سواء من الأفراد أو مؤسسات المجتمع المدني لإشراكٍ أوسع في عملية صنع القرار، حيث أن إشراك المجتمع في رسم السياسات يُعزّز دور الطبقة المتوسطة والمجتمع المدني كجماعةِ ضغطٍ على صنّاع القرار.

وتأتي الحاجة إلى إعادة تقييم هذه العلاقة بين أطراف الدولة مع الشكل الجديد للعلاقة التي يرسمها السلطان الجديد بينه وبين الحكومة والشعب، والتي تقوم على أن يحمل الجميع عبء الأوضاع الصعبة ضمن علاقة تكافلية لا اتكالية على “الأب”.

خلاصة القول، ما تراكم لعقودٍ من تذبذبٍ في الثقة بين الأطراف الثلاثة: الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وما حدّده كلُّ طرفٍ من توقّعات لما ينبغي ان تقوم به الأطراف الأخرى، يجعل السنوات القليلة المقبلة صعبة التنبؤ. ففي ظل الوضع الراهن يبدو الاقتصاد كالمصاب بفيروس كوفيد-19، إما أن يتعافى ويحظى بالشفاء أو أن تتدهور صحته.

  • فاطمة العريمي هي صحافية عُمانية، وهي المديرة التنفيذية لشركة المركز الإعلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى