كِبارٌ في ذاكرتي… وديع ض. حداد: سُطُوعٌ لبنانيٌّ في العالم

الدكتور وديع ض.حدَّاد، الخبير اللبناني العالمي في شؤُون التربية والإِنماء، يمضي حاليًّا تقاعُدَه في منتجعه الأَميركي، بعد مسيرة غنيَّة منذ ترَؤُّسه “المركز التربوي للعلوم والرياضيات” لدى الجامعة الأَميركية في بيروت، إِلى تأْسيسه وترؤُّسه “المركز التربوي للبحوث والإِنماء” في بيروت، إِلى أَعلى مسؤُوليات البنك الدولي في واشنطن نائبًا لأَمينه العام، إِلى سفير البنك الدولي في الأُمم المتحدة، إلى مركز مستشار الرئيس اللبناني أَمين الجميل للأَمن القومي، إِلى إِنشائه مؤَسسة تربوية باتت مرجعًا أَوَّلَ بين الدول لشؤُون التربية وأَبحاثها ومخطَّطاتها، وسواها من حقباتٍ مشرِّفةٍ في سيرته الأَكاديمية والعلْمية يفتح سطورَها هنا زميلُنا الشاعر هنري زغيب من حقبات ذكرياته مع الدكتور وديع حداد في هذا المقال الذي كتبَهُ خصِّيصًا لــ”أَسواق العرب”.

… ومع رئيس جمهورية لبنان سليمان فرنجية (إِهدن 1971)

 

هنري زغيب*

خاص “أَسواق العرب”

في شخصه متواضعٌ كالبنفسج، في شخصيته مُكتَنزٌ كالسنابل، في تشخيصه حازمٌ كالحقيقة.

لم أَحدُس، يوم التقيتُه للمرة الأُولى في مكتبه (رئيس المركز التربوي للبحوث والإِنماء – الدكوانة)، أَن يكون لي معه مشوار عُمرٍ ما زال حتى اليوم يتجدَّد كل يوم.

“أَنا صاحب المعالي وأَنت الوزير”

يومها كان لافتًا أَن يتولَّى طُموحُ هذا الشاب الثلاثيني مسؤُوليةً يتهيَّبُها ذوو خبرةٍ ستِّينيَّة.

قبلذاك كانت تشكَّلَت أَول حكومة في عهد الرئيس سليمان فرنجية برئاسة صائب سلام (20/1/1971) وتعيَّن لوزارة التربية الطبيب نجيب أَبو حيدر، وهي ليست من اختصاصه. وحتى يُحصِّن التربية ويُحسِّنها، لجأَ إِلى الجامعة الأَميركية (وكان تخرَّج منها طبيبًا سنة 1948 وزاول تدريس الطب فيها)، سائلًا رئيسها عن خبيرٍ في التربية يتولَّى شؤُونها مُعاونًا، فــ”أَهداه” الرئيس يومها “رئيس المركز التربوي للعلوم والرياضيات” في الجامعة الدكتور وديع ضاهر حداد.

ولدى أَول مقابلة قال له أَبو حيدر: “أَنا أَثق بخبرتك. سأَكون أَنا صاحب المعالي، وتكون أَنت الوزير”.

وما هي حتى تشكَّل عند “صاحب المعالي” ملفٌّ تربوي مُحترِف قدَّمه إِلى رئيس الجمهورية الذي استغرب حِرَفيَّة مُخطَّطٍ تربوي من طبيب. استفهم من وزيره فأَجابه أَن هذا “شغل الدكتور وديع حداد”. وبالحدْس السريع الذي كان للرئيس، طلب أَن يأْتي الدكتور حداد إِلى خلوة بيت الدين ليشرَح فيها رؤْيته التربوية. وما إِن انتهت الخلوة حتى ابتدأَت صداقة بين الحداد والرئيس امتدت إِلى “خلوات” الكفور التي تأَسست منها “الجبهة اللبنانية”.

ومن زيارةٍ إلى أخرى اقترح حداد على الوزير تطوير وزارة التربية من مُجرَّد إِدارة القطاع إِلى إِنشاء مركزٍ تربوي يؤَسس خطةً تربوية مُستدامة مبنيّة على الأَبحاث والخبرات العالمية. عرض الوزيرُ الفكرةَ على رئيس الجمهورية فتلقَّفها وأَعطى الضوءَ الأَخضر: يؤَسّس وديع حداد هذا المركزَ ويكون بمكانة وزير مُطلَق الصلاحية. وتم ذلك وأَسَّس المركز سنة 1972، جامعًا له نخبة أَكاديمية من الاختصاصيين.

من دراسات وديع حداد التربوية في منشورات البنك الدولي

الحلول في الزمن الصعب

هكذا كانت هالة الرجُل بعد سنتَين من التأْسيس حين انتسبتُ إِلى المركز التربوي سنة 1974، وسرعان ما انتقلَت بي العلاقة معه من مسؤُوليتي في “المركز” (رئيس وحدة الإِعلام والتوثيق والعلاقات العامة) إِلى مودَّةٍ ما زالت حتى اليوم بين أَغلى صداقاتي مع كبارٍ من لبنان.

غير أَن تلك الأَجواء الأَكاديمية العالية التي أَسّسها رئيس “المركز” بدأَت تتعكَّر بعد نحو ثلاث سنوات مع اشتداد زمن الرعب الكبير في “حرب السنتين” وصعوبة التنقُّل وإِقفال المدارس. غير أَن الرئيس الثلاثيني لم يرتدع عن مغامرة إِنقاذية، فحوَّل ستوديوهات “تلفزيون لبنان والمشرق” (الحازمية) ورشةً تربوية وأَخذ التلامذة في لبنان يُتابعون دروسهم على الشاشة، وتأسّس “مطبخ” لتلك الوليمة التربوية في جونيه (“التلفزيون التربوي” – مقر دار المعلمين والمعلمات، وهو أَصبح لاحقًا مقر المؤَسسة اللبنانية للإِرسال عند تأْسيسها)، فكانت البرامج تتهيَّأُ فيه وتبثُّها محطة التلفزيون.

لم يكن الوصول سهلًا إِلى الحازمية، فعاجَلَنا الدكتور حداد بالحلِّ الأَنسب: إِقامة دائمة في فندق “البستان” (بيت مري)، وانتقال إِلى ستوديو التلفزيون انحدارًا إِلى وادٍ يفصله عن الحازمية جسْر مُشاة بَنَاه “المركز التربوي” خصيصًا، كان العُبور عليه مغامرة في ذاتها. لكننا كنا نُغامر يوميًّا لإِيماننا بذاك العمل الرسالي الذي زرَعه فيها الدكتور حداد.

ولا أَنسى يوم كنا معًا، هو وأَنا، في الدكوانة نجمع بعض الوثائق لنحملها إِلى ستوديو التلفزيون، حين انهمر علينا رشَقٌ من قنَّاص في أَول الشارع، فتراجعْنا بسرعة عن رصاصة حاذَت مقدمة سيارتي بأَقل من متر. وبقينا ساعاتٍ محجورَين في مدخل المبنى حتى خرجْنا بحماية ملّالة للجيش.

ممثلًا البنك الدولي (في مكانة سفير) لدى الأُمم المتحدة

التجربة الأميركية على أعلى المنابر

اشتدَّت صعوبة الحرب، فتعثَّر الوُصول إلى التلفزيون وغادر الدكتور حداد إِلى الولايات المتحدة لعلاج اضطرَّته إِليه حالة زوجته السيدة هدى. لكن رحلته إِلى أَميركا فتحَت له آفاقًا على حجم موهبته التخطيطية وخبرته التربوية، فانتسَبَ إِلى البنك الدولي وبقي فيه سحابة 17 سنة، تُلقى إِليه أَعلى المسؤُوليات: مديرًا للشؤُون التربوية، نائبًا للأَمين العام، مندوبَ البنك الدولي لدى الأُمم المتحدة وسائر وكالاتها وبرامجها، إِلى مسؤُوليات كبرى على مستويات دولية بين أَميركا وأُوروبا، جعَلَتْه مَرجعًا أَول في شؤُون التربية والتخطيط، فوضع النسخة الأُولى لسياسة البنك الدولي التربوية، وأَشرف على تنفيذ خططها في الكثير من دول العالم.

مترئسًا مؤتمر “التربية للجميع” في جومتيان (تايلندا 1990)

عدنا التقينا هناك

ويكون أَن أُغادِر أَنا أَيضًا إِلى الولايات المتحدة )1984) رئيسًا لتحرير جريدة “الهدى” النيويوركية، فـأُدعى بهذه الصفة إِلى ندواتٍ ومؤْتمراتٍ وأَنشطة تتناول القضية اللبنانية فيما لبنان يتخبّط بين مرحلة صعبة ومرحلة أَصعب. وهناك عُدتُ أَلتقي الدكتور حداد صديقًا لم تُباعِدْني عنه المسافة قبل سفَري وبعد سفَره، وغالبًا ما كان الخطيبَ الأَبرز في الأَنشطة الأَميركية عن لبنان، لصوابية نظرته الموضوعية إِلى القضية اللبنانية من خبرته المهنية لدى أَكبر المحافل الأَميركية السياسية والاقتصادية.

ولأَن إِخلاصه للصداقة علامتُه، كان أَول الحاضرين إِلى أُمسيتي الشعرية في قاعة “صندوق النقد الدولي” (واشنطن: 25/7/1991)، برغم انهماكه يومئذٍ في مواعيد مشروعٍ كبير للبنك الدولي.

الرئيس الأَميركي رونالد ريغان مستقبِلًا في البيت الأَبيض الرئيس أَمين الجميل يرافقه الدكتور وديع حداد

جومتيان منعطف تربوي

إنطلاقًا من خبرته في البنك الدولي قاد جهودًا عالمية انبثقَت عنها حركة “التربية للجميع”، من ثمارها تنظيمُهُ في جومتيان (تايلندا: 5 إِلى 9/3/1990) مؤْتمرًا تربويًّا عالميًّا (155 دولة مشاركِة، 315 بعثة، 5 رؤَساء دُول، 106 وزراء) ترأَّسه الدكتور حداد وأَطلق منه رُؤًى تربوية وإِنمائية ما زالت حتى اليوم في التداول والتطبيق. ومن تجربتي الإِعلامية والصحافية معه منذ أَيام بيروت، أَوكل إِليَّ تغطية صحافية مُحدَّدة لذاك المؤْتمر العالمي الكبير.

وزير خارجية أَميركا جورج شولتز مستضيفًا في بيته الرئيس أَمين الجميل والدكتور وديع حداد

معاون رئيس لبنان

سوى أَن لبنان لم يَغِب عن اهتماماته تَوَازيًا مع مسؤُولياته الأَميركية الكبرى. فحين اختاره رئيس لبنان أَمين الجميل مستشاره الأَول للأَمن القومي (1982-1984) عاد إِلى بيروت، وكان معاونَ رئيس الجمهورية، يحضر جميع جلسات مجلس الوزراء كأَيِّ وزيرٍ في الحكومة. وكان يرافق الرئيسَ في زياراته الخارجية الرسمية، واشترك سنة 1983 في مؤْتَمَرَي الحوار الوطني في جنيف ولوزان.

ومن تجربته تلك شكَّل فصولَ كتابه الشهير “لبنان: سياسات الأَبواب الدوَّارة”  (Lebanon: The Politics Of Revolving Doors) (منشورات پريغر – نيويورك 1985).

كتابُهُ المرجع: “لبنان – سياسات الأَبواب الدوَّارة” (نيويورك 1985)

إِنشاؤُهُ مؤَسّستَه الخاصة

بعد تقاعُده (1998) أَنشأَ مؤَسسته الخاصة “Knowledge Enterprise”، فكانت منارةً دولية كبرى للتخطيط التربوي رعاها الدكتور حداد بدقَّة الخبير وَجَلَد المُراقِب الصارم.

ومن إِنجازاته في هذه المؤَسسة:

  • تطوير موادّ تربوية، والإِشراف على ندواتٍ حول تصميم استراتيجيات تربوية لدولٍ عدة، بينها الأَرجنتين والأُردن وجزر الباسيفيك وباكستان والفيليبين وتايلندا، وتوجيهات لوزراء التربية في الدول العربية وجزُر الباسيفيك الجنوبية، وتدريب مسؤُولين في البنك الدولي على مشاريع تربوية جديدة.
  • تصميم وإِدارة برنامج إِلكتروني على شبكة الإِنترنت تُوَجِّه واضعي السياسات التربوية إِلى تجهيز وسائط تكنولوجية تَرفُد الأَهداف التربوية.
  • التصميم والإِشراف على مشروع وطني جماعي في أَميركا اللاتينية طوَّر رقْميًّا مواد العلوم والرياضيات في المدارس الثانوية.
  • تَوَلِّي مسؤُولية مستشار المدير العام للأُونسكو في الشؤُون التربوية، ما كرَّسه مرجعًا أَول للتنمية البشرية.
شهادة تقدير له لدى إِنجاز دراسة التطوير الشامل للتعليم في “مجلس التعاون الخليجي” (2003)

صداقة نصف قرن

تلك ومضاتٌ من مسيرتي، صداقةً ومهنيًّا، مع هذا الكبير من لبنان، منذ نحو نصف قرن حتى اليوم.

أَقول فيه الكثير بَعد، ولا تنتهي الذكريات مع صديق أَعتزُّ معه بعلاقتنا الوثقى.

وما زلتُ كلما أُهاتفُه إِلى منتجعه الأَميركي، أَلمس فيه ما لمستُه منذ انطباعي الأَول قبل 47 سنة: متواضعٌ كالبنفسج، مُكتَنزٌ كالسنابل، حازمٌ كالحقيقة.

ويكون أَنني اليوم أَنسُج ذكرياتي معه على شاشة “أَسواق العرب”، ويكون له الفضل في تعرُّفي إِلى ناشرها الصديق كابي طبراني. فهو ذات يوم من 1974 هاتفَني إِلى مكتبي في “المركز التربوي” يطلب موعدًا مع رئيس المركز الدكتور وديع حداد لحديثٍ معه في مجلة “الحوادث” التي كان كابي من أَبرز صحافييها. وكان لقاؤُه ذاك في باب الرئيس بابًا فتحه لي كابي إِلى “الحوادث” أَمضيتُ فيها أَربع سنوات خصيبة من مسيرتي الصحافية.

إِنها صفحة مُضيئة من حياتي، يتوسّطها الصديق كابي وهو يَنشر اليوم في موقعه سطورًا منها عن صداقة غالية ما زلتُ أَنعم بها مع الدكتور وديع حداد… كبيرًا ساطعًا في ذاكرة لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى