ثورة بايدن الإقتصادية هي “أميركا أوّلاً” مع عَقل

يبدو أن ثورة دونالد ترامب الاقتصادية “أميركا أوّلاً” ما زالت حيّة وفي حالةٍ جيدة – وهي مستمرة في أيدٍ أمينة أكثر قدرة وأكثر ذكاءً.

الرئيس جو بايدن: ورث “أميركا أولاً” وجعلها أكثر ذكاءً وبدأ تنفيذها…

إدوارد ألدِن*

لو لم يكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عاجزاً عن الحكم، وشاعراً بالتهديد من قبل موظفيه في الخدمة المدنية، فربما فعلت إدارته ما فعله خليفته، الرئيس جو بايدن، في الأسبوع الفائت: وضع مُخطّط لسياسة “أميركا أوّلاً” الاقتصادية التي ترمي عقوداً من سياسة التعاون الدولية الليبرالية إلى مزبلة التاريخ.

من خلال تقرير البيت الأبيض الأخير المؤلف من 250 صفحة حول “مرونة سلسلة التوريد”، وموافقة مجلس الشيوخ الأميركي على مشروع قانون بقيمة 250 مليار دولار للتنافس مع الصين الصاعدة، تُحاول إدارة بايدن إطلاق الولايات المتحدة على مسارٍ جديدٍ نحو إعادة بناء الذات والكفاءة الاقتصادية، وبدء الابتكار، ونشر الفوائد الاقتصادية على نطاق أوسع بين الأميركيين.  لقد وعد ترامب في خطابه الأول كرئيس بـ”إزالة الصدأ من حزام الصدأ والدخول في ثورة صناعية جديدة”، ثم لم يُنجز شيئاً من هذا القبيل. يبدو أن  بايدن قد يُطلقُ ويقود تلك الثورة.

يُركّز تقرير البيت الأبيض الجديد ظاهرياً على أمن سلسلة التوريد في أربع تقنيات: أشباه الموصلات (semiconductors)، والبطاريات الحديثة المُتقدّمة، والمعادن الحسّاسة المهمة، والمستحضرات الصيدلانية. لكن الوثيقة تُقدّم أيضاً نقداً بعيد المدى للعقود العديدة الماضية من السياسة الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة، مُجادِلَةً أن كلاً من الحكومة والقطاع الخاص “أعطى الأولوية للكفاءة والتكاليف المُنخَفِضة على الأمن والاستدامة والمرونة”. وهي تدعو إلى إعادةِ توجيهٍ أساسية مع مجموعة طموحة من الأهداف: تنشيط التصنيع في الولايات المتحدة، وتسريع نشر التقنيات الخضراء، وتحسين أمن التوريد والمرونة في القطاعات الحيوية، وخلق وظائف نقابية جديدة، والحدّ من عدم المساواة الاقتصادية والعرقية، ونشر الثروة  إقليمياً عبر الولايات المتحدة.

إن تشريع مجلس الشيوخ – قانون الابتكار والمُنافسة الأميركي – هو الخطوة الأولى في وضع بعض هذه الأفكار موضع التنفيذ. والجدير بالذكر أن مشروع القانون يشمل 52 مليار دولار من الإعانات التي تهدف إلى إعادة تصنيع أشباه الموصلات المُتطوّرة، وهو مجالٌ تُهيمن عليه الآن تايوان وكوريا الجنوبية، ومبلغاً أكثر تواضعاً لطرح النطاق العريض اللاسلكي (البرودباند) للإنترنت. كما يُوجّه المليارات إلى الأبحاث الجديدة في وزارة الطاقة الأميركية ووكالة ناسا والوكالات الأخرى حول التقنيات الجديدة مثل الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي وحَوسَبة الكَمّ، ويُوسِّع التمويل للتعليم العلمي والتقني. يخصص مشروع القانون أيضاً 10 مليارات دولار لإنشاء مراكز تقنية إقليمية جديدة في الولايات، ومن المرجح أن يكون العديد منها في ولايات الغرب الأوسط الصناعية حيث كان أداء ترامب جيداً في العام 2016. ومن المثير للدهشة في عصر الجمود، أن مشروع القانون حظي بدعم كبير من الحزبين، حيث فاز بأصوات 19 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين كانوا مدفوعين إلى حد كبير بالتهديد الاقتصادي والأمني ​​المتزايد من الصين. في حين أن مشروع القانون لا يزال يتعيّن تمريره في مجلس النواب، يبدو من المؤكد أنه سيهبط على مكتب بايدن قريباً.

لفهمٍ كاملٍ للثورة بالنسبة إلى الأولويات الاقتصادية التي بدأها ترامب ويُنفّذها بايدن الآن، ينبغي الأخذ في الاعتبار ما حدث من قبل. منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية في العام 1995، كانت الولايات المتحدة مُلتزمة بشدّة بالاقتراح القائل بأن الحكومة ليست لديها مصلحة في إخبار الشركات أين تُمارس أعمالها. تتطلّب قواعد النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي -القائم على مبدأ عدم التمييز- أن ترفع الحكومات أيديها إلى حدٍّ كبير حيث تُقرّر الشركات أين في العالم تستثمر وتصنع وتبيع سلعها وخدماتها. إن السياسات التي شوّهت تلك القرارات الاقتصادية القائمة على السوق -مثل التعريفات والحصص والإعانات الحكومية- كان يجب إلغاؤها إلى أقصى حدٍّ ممكن. كان العصر الاقتصادي الليبرالي ناجحاً بشكلٍ هائل من نواحٍ كثيرة. فقد ارتفعت التجارة العالمية، وشهدت البلدان النامية، التي وفّرت جاذبية الأجور المُنخفضة وأسواقاً سريعة النمو، ارتفاع حصتها في فطيرة الاقتصاد العالمي بشكلٍ ملحوظ لأول مرة منذ أن قفز الغرب إلى الأمام مع الثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر. نجا مئات الملايين من الآسيويين والأفارقة والأميركيين اللاتينيين أخيراً من الفقر.

لكن ترامب فاز بالبيت الأبيض جزئياً بسبب تأكيده وقوله للناخبين أن العالم الليبرالي كان صفقة خام للأميركيين. وقال إن “النُخَب العالمية” التي تفاوضت على هذه الترتيبات باعت الأميركيين العاديين، وقدّمت مكاسب غير مُتوَقَّعة للصين، التي تجاهلت في كثيرٍ من الأحيان قواعد منظمة التجارة العالمية. كان لدى ترامب الكثير من “العَلَف”: لقد ساهمت “صدمة الصين” في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والأزمة المالية لعام 2008-2009 في فقدان ملايين الوظائف في التصنيع في الولايات المتحدة وتركت العديد من الأميركيين أفقر وأقل أماناً بعد ما يقرب من عقد من الزمان. وعد ترامب باستعادة وظائف التصنيع في الولايات المتحدة واتخاذ إجراءات صارمة ضد الغشّ من قبل الصين. لكن عدم ثقته العميقة بالخبراء الحكوميين ترك إدارته مع قلّة من القادرين على تصوّر أو تنفيذ مثل هذه الأجندة الطموحة. كانت الإنجازات الرئيسة الوحيدة لترامب هي التخفيض الضريبي الضخم على الشركات الذي لم يفعل شيئاً لإعادة الاستثمار التجاري إلى الولايات المتحدة، وحرب التعريفات المُطوَّلة مع الصين التي أضرّت في الغالب صغار المُصنّعين والمُستهلكين الأميركيين ولم تفعل شيئاً يُذكَر لتغيير السلوك الصيني.

يُشارك فريق بايدن العديد من قناعات ترامب بشأن الحاجة إلى استعادة التصنيع في الولايات المتحدة والوقوف بشكلٍ أكثر فعالية في مواجهة الصين. ولكن بدلاً من التخفيضات الضريبية للشركات والحرب التجارية المُلتهبة، فقد طوّر هذا الفريق برنامجاً مُفصَّلاً ودقيقاً لبناءِ نوعٍ مُختلف من الاقتصاد. نقاطُ البداية هي الصين وأزمة كوفيد-19. تعتقد الإدارة أن كلاهما أظهر خطر الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية التي تُسيطر عليها الشركات متعددة الجنسيات وحملة أسهمها للحصول على المدخلات الحيوية. في أضيق شكل، يُمكن اعتبار العديد من وصفات التقرير –تخزين الأدوية والسلع الأخرى، وتقليل الاعتماد على الصين للعناصر الأرضية النادرة والمدخلات المهمة الأخرى، والاستثمار في البحث والتطوير للبطاريات المتقدمة– على أنها تخطيطٌ حكيم في عصرٍ أصبحت اضطرابات سلسلة التوريد أكثر شيوعاً.

لكن التقرير يذهب إلى أبعد من ذلك النقد الضيّق، حيث يُجادل بأن النموذج الأميركي للرأسمالية الذي تمّ تطويره في عصر إلغاء القيود والتجارة الحرّة ضارٌ بالأميركيين. يقول موجز البيت الأبيض: “الممارسات التجارية غير العادلة من قبل الدول المنافسة والقطاع الخاص وإعطاء الأولوية للسياسة العامة للعمالة مُنخفضة التكلفة، والإنتاج في الوقت المناسب، والدمج، وتركيز القطاع الخاص على العوائد قصيرة الأجل على الاستثمار طويل الأجل أفرغ القاعدة الصناعية الأميركية، وسحب الابتكار من الولايات المتحدة، وخنق نمو الأجور والإنتاجية”. ويدعو المخطط إلى إعادة بناء القدرة الصناعية الأميركية باستخدام المُشتريات الحكومية على أساس “اشترِ الصناعات والمواد الأميركية”، والإعانات، والحوافز الأخرى لإعادة الإنتاج والشركات إلى البلاد. كما تدعو إلى تطبيق عضلات تنظيمية لتشجيع نوعٍ مُختلف من الرأسمالية – نوعٌ يمنح الأمن والمرونة على الكفاءة، وقوة عاملة عالية الأجر على الأجر المنخفض، والحفاظ على البيئة على استغلال الموارد الطبيعية، وسلاسل التوريد المحلية على العالمية.

المخاطر في هذا النهج الجديد كبيرة. تتمثّل إحدى مزايا النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي في أن الحكومات تُركّز على وضع القواعد، وليس إملاء النتائج. ومع ذلك، بمرور الوقت، طغت الاستثناءات –من الإعانات الأوروبية التي أدّت إلى بناء كونسورتيوم “إيرباص”، إلى السياسات الصناعية الصينية من أعلى إلى أسفل، إلى عمليات الإنقاذ الخاصة بصناعة السيارات والقطاع المالي في الولايات المتحدة– على القواعد. والتحديات الناشئة مثل تغيّر المناخ والأوبئة الأقل استجابة لحلول القطاع الخاص؛ بدون حوافز أو عقوبات حكومية، ستُقلّل الشركات من الاستثمار في معالجة المشكلات التي تتطلب تكاليف خاصة قصيرة الأجل لتحقيق مكاسب عامة طويلة الأجل. ولكن كلّما زادت مشاركة الحكومة في إدارة الاقتصاد بهذه الطريقة، أصبحت أكثر عرضةً للضغط من الصناعات التي تسعى إلى الحصول على الأفضلية، وزادت مخاطر القيام بمراهنات كبيرة بأموال دافعي الضرائب التي تؤدي إلى نتائج متواضعة ومشاريع “أفيال بيضاء”. يُظهر التاريخ أيضاً أن السياسات الصناعية تميل إلى تفضيل الشركات الراسخة ذات العلاقات الجيدة على حساب الشركات الصغيرة والشركات الناشئة.

يتمثّل الخطر المألوف الثاني في أن مثل هذه القومية الاقتصادية تنقلب إلى أنواعٍ من سياسات “إفقار الجار” التجارية والتي كانت مُدَمِّرة للغاية في الثلاثينات الفائتة. ويخشى النقاد الذين لا يرون ضوء النهار على التجارة بين بايدن وترامب من هذه النتيجة. لكن التقرير يعترف بشكلٍ واضح باعتماد الولايات المتحدة على الآخرين ويدعو أميركا “للعمل مع الحلفاء والشركاء لتأمين الإمدادات من السلع الأساسية التي لن نصنعها بكميات كافية محلّياً”. وتحث الإدارة الأميركية على إنشاء منتدى عالمي بين “الحلفاء والشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة” –ولا حاجة هنا إلى الصين– لتطوير مناهج جماعية لمرونة سلسلة التوريد. كانت إعادة بناء تحالف الديموقراطيات لتحدّي الصين على رأس جدول أعمال بايدن في اجتماعات قمة مجموعة السبع والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الأسبوع الفائت. بل إن التقرير صاغ مُصطَلحاً جديداً – “تكوين صداقات” – لوصف كيفية عمل واشنطن مع الحلفاء لتحسين القدرة التصنيعية وتقليل الاعتماد على الصين. يُشير التاريخ الطويل للمناوشات التجارية مع حلفاء الولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان إلى أن هذا لن يكون سهلاً ، لكن التفضيل التجاري والاستثماري الصريح للدول الصديقة أمرٌ جديد – وقد يساعد واشنطن وبروكسل وطوكيو على فتح صفحة جديدة.

أمّا الخطر الأكبر فيتمثّل في أن إعادة التوجيه الدراماتيكية للرأسمالية الأميركية يُمكن أن تؤدّي إلى قدرٍ أقل من الابتكار والديناميكية التي لا تزال مَوضِعَ حسد الكثيرين في العالم. من السهل أن ننسى أن الاقتصاد الأميركي الأقل عولمة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ترك الولايات المتحدة مع نقاط ضعف تنافسية هائلة. عندما بدأ اليابانيون في الستينات والسبعينات االفائتة الاستيلاء والهيمنة على صناعةٍ تلو أخرى – من أجهزة التلفزيون إلى الصلب إلى السيارات – أشار النقاد مباشرة إلى تقاعس الشركات الأميركية التي لم تكن معتادة على التجارة والمنافسة العالمية. وخلصت لجنة الإنتاجية الصناعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام 1989 إلى أن: “إرث هذه السنوات من الاكتفاء الذاتي هو اقتصادٌ غير مُجَهَّز للمنافسة في الأسواق العالمية أو استغلال الابتكارات الأجنبية”.

كانت العَولَمة هي المُنقذ. الشركات الأميركية مثل شركة “دَلّ” ( Dell) لصناعة الكمبيوتر كانت هي الرائدة في إنشاء سلاسل التوريد العالمية في الوقت المناسب والتي دمجت الإنتاج بالكامل في الاقتصادات النامية مثل الصين، حيث ساعدها ظهور تقنيات المعلومات الجديدة التي خفّفت من التحدّي المُتمثّل في تنسيق العمليات والموظفين و المُوَرِّدين في جميع أنحاء العالم. وقد أطلقت سوزان بيرغر، الباحثة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على هذا إسم “نموذج الإنتاج المُرَكّب”، حيث تم تقسيم التصنيع بشكل متزايد إلى مكوّناته لزيادة كفاءة التكلفة إلى أقصى حد. تم اعتماد هذا النموذج العالمي في وقت لاحق من قبل معظم الشركات الأميركية الكبرى، من مصادر شركة “أبل” (Apple) العالمية والإنتاج النهائي في الصين إلى استخدام شركة “كوالكوم” (Qualcomm) للمُصنّعين في تايوان وكوريا الجنوبية لإنتاج الرقائق الدقيقة الأكثر تقدّماً في العالم.

بالنسبة إلى الشركات الأميركية، فإن النتائج تتحدث عن نفسها: في القرن الحادي والعشرين، إستمرت حصة الولايات المتحدة في أكبر 100 شركة في العالم من حيث القيمة السوقية للأسهم في الارتفاع حتى في مواجهة الصين سريعة النمو. تُعدُّ الولايات المتحدة الآن موطناً لـ 60 في المئة من أكبر الشركات في العالم، بينما شهدت أوروبا –التي اتبعت نموذج الرأسمالية الأكثر شمولاً والأقل توجّهاً نحو المساهمين المُتصوَّر في خطة بايدن– انخفاض حصّتها إلى النصف.

لا يزال تنفيذ النموذج الجديد قيد التنفيذ. يُعارض الجمهوريون الذين أيّدوا مشروع قانون الصين العديد من العناصر الأخرى لخطة بايدن لإعادة البناء بشكل أفضل، مثل زيادة الإنفاق على البنية التحتية وشبكة الأمان الاجتماعي. من المؤكد أن الشركات الأميركية ستقاوم إذا كانت القائمة الجديدة تتضمّن ضرائب أعلى، كما يُريدُ بايدن، وقوانين أكثر صرامة. لكن الثورة التي بدأها ترامب ما زالت حية وفي حالة جيدة – ومستمرة في أيدٍ أمينة أكثر قدرةً وأكثر ذكاءً.

  • إدوارد ألدِن هو كاتب عمود في “فورين بوليسي”، وأستاذ زائر بارز في جامعة ويسترن واشنطن، وزميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب “الفشل في التكيّف: كيف تخلّف الأميركيون في الاقتصاد العالمي”. يمكن متابعته عبر تويتر على: edwardalden@
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى