إِدمونيا لويس: نحاتة رائدة قبل 150 عامًا

إدمونيا لويس : النحَّاتة الرائدة في عصرها

هنري زغيب*

من جذورها الأَفريقية الأَميركية استلهمَت تماثيلها، ومن جذور الأَميركيين الأَصليين الهُنُوديين (الهُنُود الحمر) وهم أَوائل سكان القارة الأَميركية الأَصليين حين بلَغَها كريستوف كولومبُس في نهاية القرن الخامس عشر، وأَخذ أَتباعه ينكِّلون بالسكان الآمنين.

تلك الخيالات الموجعة بقيَت في بال إِدمونيا لُويس (1844-1907) وهي كانت – في عصرها وفي جيلها وفي محيطها – أَوّل نحاتة سمراء البشَرة.

كانت ولادتها في بلدة رانْسِلِر (ولاية نيويورك) بين والدة خياطة من قبيلة الأُوجيبْوِيِّين (قبيلة هندية من سكان أَميركا الأَصليين)، ووالد مزارع من أَصل أَفريقي هاييتيّ. لكنها فقدتْهُما وهي طفلة، فتولَّت تربيتَها عمتُها التي أَنشأَتْها على الأَجواء الأُوجيبْوِيَّة. وحين أَخوها غير الشقيق صموئيل (يكبرها بعشر سنوات) غادر البيتَ ليعيش في سان فرنسيسكو ، بقي يهتم بأُخته ولو عن بُعد، مؤَمِّنًا لها تكاليف المعيشة والتعليم.

موت كليوپاترا

الإِبطاليُّون

سنة 1856 التحقت إِدمونيا بمعهد نيويورك الإِنجيلي المركزي، فارتاحت إِلى بيئة فيه إِبطالية (الدعوة إِلى إِبطال الاسترقاق وإِلى رفْض كل سلوك إِلغائي ضد الآخرين). برغم ذلك، غادرت المعهد بعد ثلاث سنوات لشعورها بالاضطهاد المتواصل.

سنة 1859 نقلها أَخوها إِلى معهد أُوبرلان للفنون (أوهايو)، وفيه مناخ إِبطالي مريح، فنمَّت فيه موهبتها الفنية. وهو كان أَول مؤسسة للتعليم العالي تقبل في صفوفها طلابًا وطالبات من أَصل أَفريقي. مع ذلك كانت إِدمونيا تعاني من بعض سلوك حيالها عنصري تمييزي، فهي بين حفنة من ثلاثين شبيهاتها بين آلاف الطلّاب الأميركيين البِيض.

سنة 1862 (بعد ثلاث سنوات أخرى) مرض اثنان من رفاقها بسبب شراب كانت أَعدَّته لهما فاتهمها الأَطباء بتسميمهما ولو بدون دليل طبي على السم في ذاك الشراب. وذات ليلة، وهي عائدة إِلى غرفتها، تعرَّضت للضرب القاسي واتهمتها أَعيانُ السلطات المحلية بتسميم رفيقيها. أوقفوها وسجنوها. تولى الدفاعَ عنها جون لانغْسْتون (المحامي الوحيد في أُوبرلان من أَصل أَفريقي) وأَثبت براءتها. لكنها بقيت تشعر أَنها وحيدة مستوحدة في الجامعة. وفي السنة ذاتها اتُهمَت زورًا بسرقة أَدوات الرسم من الكلية، لكنها بُرِّئت من جديد لعدم توافر الدليل، إِنما عوقبت بحرمانها من التسجيل للسنة التالية، ومن نيل شهادة نهاية الدروس.

القائد هياواتا

إِلى محترفها الخاص

عندها غادرت إِلى بوسطن سنة 1864 لتبدأَ حياتها الفنية في النحت. ولأَنها بدون شهادة جامعية، أَفادت من صداقة وليام لويد غاريسون (صحافي ضدَّ الاسترقاق) فعرَّفها إِلى فناني محليين، وتحديدًا إِلى النحات إِدوارد براكيت (1818-1908) المتخصص بنحت تماثيل نصفية في الرخام، خصوصًا للإِبطاليين (دعاة التحرر وإبطال العبودية والاسترقاق). درسَت عليه بضعة أَسابيع لكنه حاول استغلالها فافترقت عنه وفتحت محترفها الخاص سنة 1864، وبدأَت تنحت في الرُخام تماثيل نصفية لإِبطاليِّي عصرها ولأَبطال الحرب الأهلية المنتهية حديثًا سنة 1865. وبين أَعمالها فترتئِذٍ نحتت تمثالًا نصفيًّا للضابط الأَميركي روبرت غولد شو (1837-1863) أَحد أَبطال الحرب الأَهلية. اشترتْه أسرته فضمت إِدمونيا ثمنه إِلى مقتصداتها وسافرت إِلى أُوروپـا، غانمة مما كتبته عنها الصحافة الإِبطالية، خصوصًا عن تأثُّرها بالشاعر هنري وادْسْوورث لونغْفِلو (1807-1882)  وتحديدًا قصيدته الشهيرة “نشيد هياواتا”  (1525-1595: قائد هُنوديّ من أَبطال مرحلة ما قبل الاستعمار) والقصيدة مستوحاة من الأَساطير الأُوجيبْوِيَّة.

صانع النصال

روما الواحة الـمُثلى

بعد جولتها الأُوروپية (لندن، پاريس، فلورنسا) استقرَّت سنة 1865 في روما تتعمق في دراسة النحت، غانمةً من دعم أَعلام في الوسط الفني والإِبطالي خصوصًا، فدخلت في حلقة فنانين ونحاتين منفيِّين من بلدانهم.

في روما واجهت إدمونيا عنصرية أَقل مما في الولايات المتحدة، مع أَن هذه  فترتئذ كانت أَلغت العُبُودية والاسترقاق. لكن النحاتة المثابرة بقيت تواصل عملها الفني في روما، وفق الأُسلوب النيو كلاسيكي، منصرفةً إِلى مواضيع ورموز ذات جذور أَفريقية/أَميركية/هُنُودية أَصلية. منها مثلًا تمثالها “أَحرار إِلى الأَبد”  تمثل رجلًا وامرأَة كسرا قيودهما، أَو تمثال “صانع النِصال” تمثل والدًا هُنُوديًّا يدرِّب ابنته على صنع النصال. واشتهرت إِدمونيا في إِيطاليا وخارجها، وحتى في الولايات المتحدة. وبيعت تماثيلها بأَسعار ممتازة، ونظمت معارض كثيرة من أَعمالها في أَميركا وأُوروپا.

سنة 1876 لفتت منحوتُتها الضخمة “موت كليوباترا” زوار المعرض العالمي الكبير في فيلادلفيا. وسنة 1877 نفذت طلب الرئيس الأَميركي السابق أُوليس غرانت (1822-1885، وكان حكم البلاد بين 1869 و1877). أعجبه التمثال فاشتراه بمبلغ كبير.

ولكن النيوكلاسيكة، في الثمانينات قرنَئِذٍ،، بدأت تخبو فراحت تخبو معها شهرة إِدمونيا. لذا حوَّلت أَعمالها إِلى أُسلوب آخر متخذة مواضيعها من أَعلام العهد القديم في الكنيسة الكاثوليكية.

أَحرار إِلى الأَبد

الإِبداع لا ينحصر في زمانه

سنة 1901 انتقلت إِلى لندن ممضيةً فيها آخر سبع سنوات من حياتها، حتى توفيت سنة 1907 عن 63 سنة مغمورة بالنسيان التام.

سوى أَن أَعمالها، وهي تأْسيسيةٌ عصرئذٍ، ما زالت تشهد على ريادتها كنحاتة تحدَّت عصرها كامرأَة فنانة، وقاومت جميع تيارات التعصب والتمييز، لتكون علامة في النحت قبل 150 سنة من اليوم، ما يؤَكِّد أَن الفن يبقى خارج الزمن وفوق تعداد السنوات من قرن إلى قرن.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى