أَلفونسينا سْـتْـرادا رائدة نسائية في سباق الدَرَّاجات

درَّاجتها كسرت الصورة النمطية

هنري زغيب*

في المأْلوف، عُرفًا أَو مصادَفَةً، أَنَّ سباق الدرَّاجات الهوائية إِجمالًا رياضةٌ ذكورية، لِما فيها من مشقَّةِ دَوْسٍ وجُهْد جسَديٍّ يتأَتّى غالبًا للرجال دون النساء. غير أَن الإِيطاليَّة أَلفونْسينا موريني سْترادا (1891-1959) كسَرَت القاعدة قبل 97 سنة حين كانت المرأَة الوحيدة المشاركة في السباق الوطنيّ الكبير سنة 1924، واشتُهرت رائدة نسائية في هذه الرياضة.

في مطالعها اختلطت الكتابات عنها بين واقعي ومتخَيَّل، منذ فاجأَت الجميع بظهورها الأُنثى الوحيدة المشاركة في ثلاثة سباقات كبرى معقودة للرجال.

الثابت أَنها مولودة في كاسْتِلْفرانكو إِميليا (شمالي إِيطاليا) في 16/3/1891، وأَنها نشأَت في أُسرة متواضعة بين 10 صبيان وبنات في منزل والدها أَنطونيو موريني الـمُزارع البسيط وسْط مزرعة للدجاج.

تصلِّح الدرَّاجة في محلِّها

كسْر الصورة النمطية

كانت في العاشرة (1901) حين بادل والدُها طبيبَ القرية درَّاجته الهوائية العتيقة بعشر دجاجات، كي يوصل طلبات الدجاج إِلى أَهل القرية عوَض السير الـمُضني على قدميه. غير أَن تلك الدرَّاجة كانت للفتاة (المسترجلة منذ صباها) أَلفونسينا فاتحة مغامرة ستصبغ كل حياتها. وأَخذت منذئذٍ تجول على الدرَّاجة في طرقات القرية، خصوصًا أَيام الأَحد.

كانت الدرَّاجة عصرئذٍ “آلة الحرية” تستثير النساء برغم تحفُّظات المجتمع وتشدُّده الذكوري، لما في الدرَّاجة من إطلاق الحرية في التنقُّل والاستقلال عن السير كما ربْطًا في حزام الرجل. من هنا عبارة المناضلة الأَميركية سوزان أَنطوني (1820-1906): “الدرَّاجة الهوائية خدَمَت حرية المرأَة أَكثر من أَيِّ عامل آخر في العالم” (1896). وهكذا وَجدت أَلفونسينا في الدرَّاجة فرصةً لكسْر الحواجز ورفْض الصورة النمطية السائدة. لذا لم يطُل رضى والديها على امتطائها الدرَّاجة حتى انتشر في محيطها القريب والبعيد صيتُها أَقرب إِلى الفضيحة حتى لُقِّبت بـــ”ذات التنُّورة الإِبليسية”.

عاكست بعنادٍ إِرادة والدَيها حين قرَّرَت سنة 1904 المشاركة في سباق درَّاجات للذكور. وما هي حتى فازت بالسباق الأَول (وكانت الجائزة خروفًا حيًّا)، فالثاني ثم اشتهرت بمنافستها الرجال في هذه الرياضة. ومع تتالي فوزها وتوسُّع شهرتها، دعاها الاتحاد الإِيطالي لسباق الدرَّاجات إِلى المشاركة سنة 1909 في روسيا بسباق حضَرَه القيصر نقولا الثاني. وسنة 1911 كسرت الرقم القياسي النسائي باجتيارها 37 كلم في ساعة واحدة.

درَّاجتها النارية تعويضًا عن صعوبة الدَوْس

هدية العرس: درَّاجة جديدة

حاول والداها عبثًا إِبعادها عن مقود الدرَّاجة. وحين سنة 1915 تقدَّم للزواج منها العاملُ في التلحيم لويدجي سْتْرادا، رَضِيَا به آملَين أَن يجعلها ترتدع عن رياضتها تلك. غير أَنه، من حبِّه عروسَه، قدَّم لها، هديةَ العرس، درَّاجة جديدة من تركيبه، وأَخذ يدرِّبها على قيادتها.

انتقل العروسان إِلى السكن في ميلانو. وأخذت أَلفونسينا تتدرَّب كل يوم حتى اشتركت في سباقات للذكور شهدتها إِيطاليا وفرنسا واللوكسمبورغ. وسنة 1917 شاركت في سباق لومبارديا الطويل المسافة والمعقَّد الطريق والتعاريج، شارك فيه 54 درَّاجًا وصل منهم 31 وحلَّت أَلفونسينا في المرتبة 29، وشاركت سنة 1918 في السباق ذاته وحلَّت في المرتبة 21.

الأُولى في سباقٍ للرجال

وقعَت وأَكملَت السِباق

سنة 1924 شاركت في السباق الوطني الكبير “دورة إيطاليا” مع 90 درَّاجًا. لكنها سجلَت اسمها “أَلفونسان” (بصيغة الذكَر) فكانت أَول امرأَة شاركت رسميًّا في أَكبر ثلاثة سباقات أُوروپية ذكورية: دورة فرنسا، دورة إِيطاليا، دورة إِسپانيا. وكانت أَول امرأَة تكمل جميع مراحل سباق 1924 فيما عجز عن إِكمالها كثيرون من المتسابقين. وفي ذلك كتب عنها مدير سباق “دورة إِيطاليا” إِميليو كولومبو في “جريدة الرياضة”: “منذ أَول مرحلتَين، اندلعت شهرتها بين متسابقين توقفوا عند المرحلة الثانية وانسحبوا. لكنها أَكملَتْها جميعَها”. سوى أَنها، في المرحلة الثامنة والسبعين، وكانت في ظروف مناخية معقَّدة جدًّا، وقعت وانكسَر مقْود درَّاجتها وجرَحت ركبتها، ومع ذلك أَكملَت حتى خط النهاية ولو من خارج التنافُس، فكانت في المرتبة 30 بين المشاركين التسعين. وبعدما أَثار اشتراكُها (باسم مستعار) جدلًا في صفوف هواة تلك الرياضة، منع مدير الدورة كولومبو مشاركة النساء في ذاك السباق. سوى أَنها لم ترتدع. وشاركت لاحقًا في 37 سباقًا فازت فيها جميعها.

بعد غيابها: درَّاجتها في متحف خاص

من الدَوس إِلى التصليح

توفّي زوجها سنة 1946 وتزوَّجت ثانيةً في ميلانو سنة 1950 درَّاجًا متقاعدًا: كارلو ميسّوري، وأَنشآ معًا محلًّا لتصليح الدرَّاجات وبيعها. لم تعُد تشارك في السباقات، إِذ بلغت الستين، لكنها بقيت تتجوَّل على الدرَّاجة بين بيتها والمحلّ. وترمَّلَت ثانيةً سنة 1957 فأَمضت بقية حياتها وحيدة مستوحدة.

وحين ضَؤُلَت مواردُها المعيشية، وباتت عاجزة عن الدَوس المضْني، باعت مِدالياتٍ ودروعًا كانت ربحَتْها في حياتها، واشترَت درَّاجة نارية لا تحتاج دَوسًا، وعادت تحضر السباقات.

سنة 1959، وكانت في الثامنة والستين،  قادت درَّاجتها النارية لمشاهدة سباق الوديان الثلاثة (تأَسس سنة 1919 ويستمر ثلاثة أَيام في لومبارديا) حتى إِذا عادت منه قالت لحارسة المبنى إِن هذا السباق المثير أَعاد إِليها رغبة المشاركة في سباق الدرَّاجات الهوائية.

هوايتُها القاتلة

قالتها ونفَّذَت. صباح اليوم التالي ركبَت درَّاجتها النارية وتوجَّهت إِلى محلِّها في يوم ماطر جدًّا، لكن الدرَّاجة انقلبَت بها على المنعطف الأَخير قبل بلوغها المحلّ، فوقعَت تحتَها وارتطم رأْسها بالأَرض في صدمة قوية سبَّبت وفاتَها قبل أَمتار من بلوغها المستشفى.

إِن كيدهُنَّ لعظيم؟

… وإِنَّ إِرادتهنَّ لعظيمة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى