لكِنَّه آثرَ الصَمت

عبد الرازق أحمد الشاعر*

كان في الصف الأول حين أحس بضربات قلبه تتلاحق كلّما مرّت بقربه، أو أتى أحدٌ على ذكرِها. وكان يُمعِنُ النظرَ في شعرها الكستنائي ويتمنّى من أعماقِ قلبه أن تكون له. كاد يُحلّق في سماواتِ النشوة لمجرّد أن طلبت منه دفتره الخاص لتنقل منه بعض الواجبات ذات صباح. كان يتمنّى لو يستطيع إخبارها بحقيقةِ مشاعره، لكنّه آثر الصمت حتى لا يخسرها للأبد.

وفي الصف الثاني، توطّدت أواصر الصداقة بينهما، حتى وأنها أسرّت إليه بقسوة أبيها معها، وفظاظته التي لا تُحتَمل. كان يُهدهد مشاعرها، وينظر إلى شعرها الكستنائي ويتمنّى في أعماق قلبه أن يضمّها وأن يُربّت على كتفيها وأن يقص عليها حكايةَ عاشقٍ لا تُشرِقُ شمسه إلّا من بين جفونها، لكنه آثر الصمت خشية أن يفقدها كصديقة.

وفي الصف الثالث، حكت له ببراءتها المعهودة كيف نَشَبَ الوَجدُ أظفاره في قلبها، وكيف أنها بدأت تقع في حبِّ شابٍ في الفرقة الرابعة ظلّ يُلاحِقها أشهراً حتى أسلمت له قيادها. ظلَّ ينظر إلى شعرها الكستنائي، والدموع تتلألأ في عينيه. كان يريد أن يصرخ فيها ويُصارحها بأن هناك شاباً لم يعرف من النساء غيرها، وأنه مُستعِدٌّ لفقد عينيه وأهله والناس أجمعين شريطة أن تكون له، لكنه آثر الصمت ليحتفظ بصداقتها.

وحين أنهَت عامها الرابع، جاءته على استحياء لتُسلّمه بطاقة دعوة لحضور زفافها الوشيك. ظلَّ ينظر إلى مِعطفِ تخرّجها، وإلى شعرها الكستنائي، وشعر أن الحياة تخرج من بين جنبيه، وأن الدنيا صارت أشدّ ظُلمة من وشاحها. كان يريد أن يُمزّقَ بطاقة الدعوة ويُلقيها في وجهها ويطأها بقدميه، وأن يبوح لها بحقيقة مشاعره، لكنه كالعادة آثر الصمت.

ويوم زفافها، لم يرفع صاحبنا عينيه عن شعرها الكستنائي والتاج الذي يُزيِّنُ رأسها، لكن شيئاً من وساوسه القديمة لم تتحرّك هذه المرة. وآثر أن يكون دخوله سريعاً وخروجه آمناً. وحين كان في الطريق إلى بيته أدرك أنه كان يُحبّها أكثر مما كان يتوقّع وفوق ما كانت تُحب.

وبعد خمسة أعوام لم يرها خلالها مرة واحدة، عَلِمَ أنها مريضة جداً وأنها تُريدُ رؤيته. هَروَلَ صاحبنا إلى المشفى ليلقي نظرة وداع على الفتاة التي لن تُشرقَ شمسه بعد رحيلها أبداً. لكنها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، ناولته بيد راجفة دفتر مُذكّراتها الجامعية. وحين عاد صاحبنا إلى غرفته وقد أغلقت السماوات أبوابها في وجهه فجأة بدون رحمة، جلس إلى طاولته العارية، وفتح دفترها القديم ليقرأ: “كم وددتُ أن أُخبِره بحقيقةِ مشاعري نحوه … كنتُ أريدُ أن أضمّه إلى صدري، وأن أَصرخ في وجهه بأنني لا أُريده صديقاً لي … كنتُ أريد أن أحكي له عن فتاةٍ كانت مُستعِدّة للتخلّي عن كلِّ شيء على أن تكون معه، لكنني آثَرتُ الصمت”.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى