ڤان غوخ من الانحجار إِلى الانتحار (1 من 2)

المأْوى حيث لجأَ ڤان غوخ سنتَين

هنري زغيب*

ليس الحجْر (أَو الانحجار) ناجمًا حتمًا عن ضرورةٍ قَسْرية لتجنُّب وباء أَو جائحة أَو عدوى، بل قد يكون طوعيًّا ناجمًا عن رغبة ذاتية لدافع شخصي. وهو ما جرى للرسام ڤنْسِنْت ڤان غوخ (1853-1890)، برَّره في رسالة إِلى شقيقته الصُغرى وِلْـهِلْمينا: “هذا الحجْر أَقسى عليَّ من النفي، لكنه ضروريٌّ لي كي أَرسم”. فما كان تأْثيرُ هذا الانعزال على ريشته؟

بعد بتْرِهِ أُذْنَه بيدِه في حالة جنون، انعزل 53 أُسبوعًا إِلى الحجْر في مأْوى سان پول دو موزول Saint-Paul-de-Mausole  (أَيَّار/مايو 1889- أيَّار/مايو1890) وكان بعيدًا عن الحياة اليومية وعن الحياة الفنية معًا. فهل ساعدَه هذا الحجْر على العمل؟

داخل سُور المأْوى (كان ديرًا في ضاحية بلدة سان ريمي دو بروڤانس) كانت حياتُه نقيضَ سنتين عاشهُما في پاريس (1886-1888) مع شقيقه الأَصغر تِيُو (مدير غالري بوسُّو وغالادون). كانت پاريس يومها عاصمة الفنون في العالم ومرنى الفنانين الطليعيين، فسهَّل تيو (بحكم مسؤُوليته في الغالري) لشقيقه الأَكبر ڤنْسِنْت عقْد صداقاتٍ مع تولوز لوتريك وديغا وپيسارُّو وسينياك وسورا، ومع غوغان الذي التحق به لاحقًا إِلى البيت الأَصفر (في بلدة آرل). وفي باريس تخلَّى ڤنْسِنْت عن الأَلوان الداكنة التي سادت أَعماله في هولندا، وأَشرقت أَلوان لوحاته كما مناخ الانطباعيين فترتئذٍ.

غرفة ڤان غوخ في المأْوى

الانعزال الكامل

في المأْوى انقطع ڤنْسِنْت كليًا عن العالم الفني. وطوال عام كامل لم يرَ إِلَّا صورةً واحدةً ذكرها في رسائله: صورة والدة الأَباتي العجوز، ووقَف طويلًا يتأَمل لوحة “ارتداد القديس بولس” المعلَّقة في كنيسة المأْوى.

وفي اكتشافٍ حديث قبل أَسابيع لـمرضى ذاك المأْوى أَنْ كان فيه 18 مريضًا ذكَرًا عند وصول ڤان غوخ، وصفَهم في رسائله بــ”رفاق تعاسته”. معظمُهم كانوا مضطربين عقليًّا، ولا أَيٌّ منهم يهتم بالفن.

في هذا الجو الشاحب الحزين، وسْط هذه الجماعة الصغيرة، أَمضى ڤان غوخ أَيامه متنقِّلًا إِلى مكانين فقط: غرفة راهب صغيرة أُعطِيَها ليرسم فيها، وحديقة مسوَّرة كان يخرج إِليها ليرسم في الطبيعة.

وحين مزاجُه هادئ وصحتُه متعافية،  كان أَحيانًا يجتاز بوابة المأْوى بضع ساعاتٍ ليرسم في محيط المأْوى، حيث مشاهدُ جميلة وبساتين زيتون عند سفح تلال أَلـپـيل يستلهم طبيعة پروفانس المثالية للرسم.

“ليلة مرصَّعة بالنجوم” (من لوحاته في المأْوى)

فائدة الحجْر فنِّيًّا

كانت حياة المأْوى قاسية عليه، وغير مرة حاول مغادرته. سوى أَن حياة الانعزال كانت لها عليه منفعة مزدوجة: فصَلَتْه عن حياة التسَكُّع وسْط حلقات پاريس الفنية التي كانت في مطالعه مصدرَ وحي له في تطوُّر عمله حين كان يبحث عن هوية لريشته، إِنما نفعتْه بانكبابه الكامل طوال الوقت على الرسم حين هو في عافية كافية، فلا سُكْرَ في مقهى، ولا اختلاسات ليلية إِلى بيت بغاء. كان الطعام يقدَّم إِلى مرضى المأْوى فلا قلق له على تدبُّر الطعام أَو تحضيره، بل كان يركِّز كل اهتمامه على تأَمُّل الطبيعة بكامل هَيبَتِها ونقْلها حيةً نابضة إِلى لوحاته بأُسوبه الخاص المميَّز الذي اختَطَّه لريشته.

كان مالكًا كامل وقته وكان يعرف ما يريد: أَن يرسم. أَنجزَ 150 لوحة في سنَة الحجْر لم تكن تضربه مفاجأَةُ نوبات صحية أَو نفسية مرتين أَو ثلاثًا في الأُسبوع. ولولا تلك اللوحات الوفيرة التي أَنجزها (بينها رسمان ذاتيَّان هما أَفضل ما رسم لوجهه) لَمَا كان احتمل حياة المأْوى.

في ابتعاده عن أَجواء پاريس امتلَك قدَرًا لذاته. فداخل سُور المأْوى وجدَ لفنه نهجًا خاصًّا بعيدًا عن أَيّ تأْثيرات خارجية عليه من زملائه أَو من ضرورات تجارية. وهذا ما أَتاح له حرية اتخاذ قرارات فنية هي التي طبعت أَعماله ببصمة أُسلوبية نعرفها اليوم ونحبها في تعابير ريشته، ورفعَت أَسعار لوحاته إِلى مبالغ خيالية.

رسم ذاتي (من لوحاته في المأْوى)

قسوة المأْوى ومغادرتُه

في ذاك المأْوى وضع أَروع أَعماله وأَنضجَها رغم التعقيدات الصحية التي كانت تحاصره. في الحديقة وخارج بوابة المأْوى رسَم أَشجار السرو الشاهقة، ووضع لبساتين الزيتون الكثيفة لوحاتٍ رائعة يتهيَّأُ لها منذ اليوم معرض خاص السنة المقبلة (2022) في متحف ڤان غوخ (أَمستردام) وسينتقل بعده إِلى متحف دالاس للفنون.

صورة فوتوغرافية نادرة لڤان غوخ في العشرين (1873)

لكن الحياة في المأْوى راحت تزداد قسوةً عليه. وفي أَيَّار/مايو 1890، قبل أَيام من مغادرته المأْوى كتَب لشقيقه تِيُو: “التضحية بالحرية، والبقاء خارج المجتمع، والاقتصار على العمل الدائم بدون فترات ترفيه، كلُّها عوامل باتت ثقيلةً عليّ”.

بعد أَيام غادر الـمأْوى إِلى قرية أُوڤير (شمالي باريس)، عاش فيها عشرة أَسابيع انتهت بنهاية حياته مأْساويًّا كما سيَظهر في الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى