القدسُ هي جوهرُ القضية الفلسطينية

كابي طبراني*

الضراوةُ المُتزايدة للهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة وسط الهجمات الصاروخية المستمرة من قبل “حماس” تجاوزت إلى حدٍّ كبير الأزمة الأصلية التي تسبّبت في اندلاعها على بعد 50 ميلاً في القدس الشرقية التي تحتلّها إسرائيل. بدأت الأزمة الحالية في وقت سابق من هذا الشهر بمظاهرات فلسطينية ضد الطرد الوشيك لحوالي ثماني عشرة عائلة في حي الشيخ جرّاح من أجل وضع المستوطنين الإسرائيليين في مكانهم. عملياتُ الطرد هي جزءٌ من جهدٍ أوسع من قبل جماعات المستوطنين المتطرفين والسلطات الإسرائيلية لاستهداف منازل عشرات العائلات الفلسطينية. قوبل المتظاهرون الفلسطينيون باستعراضٍ مُكثّف للقوة من قبل قوات الأمن الإسرائيلية التي ردّت بالغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص المطاط والضرب، ما أدى إلى إصابة المئات. مع انتشار الاحتجاجات إلى أجزاءٍ أخرى من المدينة، زادت حملة القمع الإسرائيلية العنيفة، بما فيها المداهمات الليلية التي شنتها القوات الإسرائيلية على الحرم القدسي، إضافة إلى نزول آلاف المتظاهرين اليهود اليمينيين إلى البلدة القديمة إحياءً لذكرى يوم القدس.

قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، اتّخذ الرئيس دونالد ترامب خطوة غير قانونية وأحادية الجانب بالاعتراف بالقدس عاصمةً مُوَحَّدة لإسرائيل. من خلال قيامه بذلك، أعلن هو وكبار مساعديه بأن الولايات المتحدة قد رفعت القدس عن طاولة المفاوضات. وعلى حدّ تعبير ترامب: لا داعي للحديث عن ذلك بعد الآن! لكن أحداث الأيام القليلة الماضية أكّدت حقيقةً واحدة واضحة لا جدال فيها: إن القدس هي قلب القضية الفلسطينية وبالتالي الصراع العربي-الإسرائيلي.

ما يحدث في القدس الشرقية والمدينة القديمة هو محاولة مُتعَمَّدة من قبل المؤسسات السياسية والدينية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لتغيير الوضع الراهن وفرضِ واقعٍ جديد. ينقسم المخطط الشرير إلى شقّين: أحدهما يسعى إلى تقويض التفاهم طويل الأمد حول مكانة المسجد الأقصى كمكانٍ مُخصص للمُصلّين المسلمين فقط، بينما يسعى الآخر إلى الشروع في الإخلاء القسري لسكان القدس الشرقية الفلسطينيين. المُخطّطان مُترابطان وكلاهما يُمثّل خَطَراً واضحاً وقائماً على وضعٍ مُهتَز أصلاً في الأراضي المقدسة.

منذ بداية شهر رمضان، سعت السلطات الإسرائيلية إلى استفزاز السكان العرب في القدس الشرقية ومضايقتهم، والذين يُشكّلون حوالي 330 ألف شخص ما يصل إلى 60 في المئة من إجمالي السكان. يحمل السكان العرب بطاقة الهوية الإسرائيلية لكنهم لا يُعتَبَرون مواطنين في إسرائيل. كانت الفكرة دائماً هي إجبار السكان العرب على مغادرة المدينة من خلال فرض ضرائب باهظة، وحرمانهم من تصاريح البناء وهدم المنازل والمصادرة غير القانونية للأراضي والمنازل. وقد توسّعت الموافقات على بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية بنسبة 60 في المئة منذ أن أصبح ترامب رئيساً للولايات المتحدة في العام 2017. وحتى في ذلك الوقت، وقف صمود السكان العرب في المدينة في طريق قلب التوازن الديموغرافي لصالح اليهود.

هكذا، ومن هذا المنطلق، كانت الأزمة الأخيرة في حي الشيخ جراح العربي في القدس الشرقية. لقد لجأت الجماعات الاستعمارية اليهودية إلى المحاكم الإسرائيلية في محاولةٍ للمُطالبة بملكية أراضٍ في الشيخ جراح، موطن لأكثر من 300 أسرة. على مدى عقود، قاتل السكان العرب في المحاكم الإسرائيلية لإثبات مطالبهم المشروعة بمنازلهم. كان من المقرر أن تحكم المحكمة الإسرائيلية العليا في الأسبوع الفائت في مصير ست عائلات عربية وممتلكاتها في الشيخ جرّاح. صمود السكان ورد الفعل الدولي ضد مثل هذا الانتهاك المباشر للقانون الدولي واتفاقات جنيف أخّر هذا القرار حتى الآن.

الحُكم لصالح المستوطنين سيُشكّل سابقة خطيرة. سوف يُجبِر الفلسطينيين على إخلاء منازلهم – جريمة حرب – ويفتح الطريق أمام عمليات إخلاء أخرى في أحياء القدس الشرقية الأخرى. بموجب قانون إسرائيلي عنصري، يُمكن لليهود المطالبة بممتلكاتٍ بزعمٍ أنهم كانوا يملكونها قبل العام 1948 في القدس الشرقية بينما لا يمكن للعرب التمتّع بالحق عينه  في ما يتعلق بالممتلكات في القدس الغربية أو حتى داخل ما يُسمى بالخط الأخضر.

ومنذ العام 1967، ألغت إسرائيل حقوق الإقامة لأكثر من 14,000 فلسطيني مقدسي، وحدث أكثر من نصف هذه الإلغاءات منذ العام 2006. وفي الوقت عينه، يعيش حوالي 80 في المئة من الفلسطينيين في القدس تحت خط الفقر.

الحقيقة بالنسبة إلى الفلسطينيين أن القدس الشرقية لا تزال أرضاً مُحتلّة تماماً مثل الضفة الغربية وقطاع غزة. في قضية الشيخ جراح، قدمت السلطات الأردنية وثائق تُثبت ملكية الفلسطينيين لمنازلهم منذ العام 1956، عندما كانت القدس الشرقية تحت الحكم الأردني.

تحوّل الهجوم الصارخ من قبل الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين اليهود المسلحين على السكان المدنيين في الشيخ جراح إلى كارثة علاقات عامة لإسرائيل. لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في فضح الفظائع الإسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين العُزَّل؛ ما أدّى إلى دعمٍ غير مسبوق من قبل أعضاءٍ رئيسيين في مجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة. كما أن صوراً ومقاطع فيديو لفلسطينيين في الحي يتعرّضون للهجوم والاعتقال من قبل الشرطة الإسرائيلية أجبرت الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة واللجنة الرباعية الدولية وحتى الدول العربية التي أقامت علاقات أخيراً مع إسرائيل، على إصدار بياناتٍ تُندّد بمحاولات إخلاء السكان بالقوة.

أما بالنسبة إلى الأقصى، فمنذ العام 1969 حاولت حشود من اليهود اقتحام المسجد بالقوة تحت حماية القوات الإسرائيلية. ما حدث يوم الاثنين الفائت والأيام التي سبقته، عندما أطلق جنود الاحتلال النار وألقوا قنابل الصوت وقنابل الغاز المُسيل للدموع على المصلّين المسلميين داخل المسجد، صَدَمَ العالم.

طوال فترة حكم بنيامين نتنياهو الطويلة كرئيس للوزراء، حاولت إسرائيل تغيير الوضع الراهن في الأقصى. بموجب اتفاق السلام لعام 1994، للأردن دور وصاية خاص على المسجد الأقصى من خلال الوقف. لكن اليهود المتطرفين يريدون الوصول إلى المسجد الذي يسمّونه جبل الهيكل، ويطالبون علانية بتدمير المسجد. وقد صدّ الأردن مثل هذه التحركات في الماضي لكنه يحتاج إلى دعم دولي لمنع إسرائيل من فرض واقع جديد سيؤدي بالتأكيد إلى إراقة دماء.

حاول نتنياهو المُحاصَر الضغط من أجل هجوم كبير لتهويد القدس الشرقية في محاولة لاسترضاء المستوطنين. لكن الرأي العام العالمي انقلب على إسرائيل. هذا ليس كافياً؛ يُمكن لطرفٍ واحد فقط أن يتدخّل ويوقف هذه المغامرة الخطيرة وغير المسؤولة وهو جو بايدن. عدم القيام بذلك سيجلب كارثة أخرى عشية ذكرى النكبة الفلسطينية.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف ستة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى