القضاء على القضاء

رشيد درباس*

إن العدالة ليست عدالة ميزان وعدالة تكافؤ أو عدالة صيارفة ووازني ذهب، بل عدالة عاقلة واضحة صافية، أحكامها قابلة للتنفيذ قريبة من منابعها. (يوسف جبران)

ليست الحالة القضائية المُفجعة ظاهرة سوريالية مُستغرَبة، بل هي في حقيقتها طبيعية جدًّا، لكنَّ مفاعيلها تأخّرت وقتًا ما، لأنها طوال سني الأزمة كانت تنفق من مدّخرات مهابتها ورصيد تقاليدها الموروثة التي صمدت حتى اجتاحها الوباء السياسي المتفشي.

ويفرضُ عليَّ الإنصاف أن أكبح جماح استغرابي ودهشتي واشمئزازي مما يجري، إذ لا ينبغي لي أن أقيسَ الأمور بالمقياس ذاته الذي كنت أتبعه أيام كانت العدالة محروسة بوقارها وقضاتها ومحاميها، فذلك زمان تآكل بفعل التهتّك العام الذي أصاب بنية الدولة عبر سنواتٍ طوال، وبحكم الفراغ الذي تمدّد في المؤسسات، فاستوطنته القوى السياسية الهجينة، ثم عملت على توسيعه، لأن الذي لا يملك مشروعًا للسلطة سوى رغبته في التسلط، لن يجد ما هو أنسب من الفراغ يتلو عليه خطابه العقيم مُستمتعًا بعد ذلك بالإنصات إلى صدى الصوت، يحسبه تصفيقًا وتهليلًا من جماهير استغنت عن لقمتها وعيشها الكريم بِطَلَّة هؤلاء الزعماء عليها وهم يعدونها بجنّة كجنّة عدن، مؤجلة لما بعد الكفن.

وعلى ذلك فإنني في هذه الأسطر، أخرج من التقاليد التي رُبّيت عليها، وأتنصّل من المقارنات بين ما كان وصار، ومن ذكرياتي مع مَن رحلوا أو تقاعدوا من الأفذاذ علمًا وكرامة، وأتواضع في نظرتي فأضع مرفق القضاء بمحاذاة مرفق الكهرباء وسواه من المرافق الحيوية.

ففي بداية القرن الماضي ولَّد “الرأسماليون الجشعون” الكهرباءَ من مساقط المياه، وجرّوها إلى البيوت التي استعاضت عن القناديل البخيلة الضوء بالمصابيح الجزيلة الكرم؛ فلما استشعر الرأسماليون إياهم أنَّ انحدار الشلالات لن يكفي لتلبية الطلب على السلعة الجديدة، استوردوا المولّدات الحرارية على قاعدة أنه لا ينبغي للنور أن ينقطع  ولو لدقائق. لكن الحركات المطلبية احتجت على “جشع” هؤلاء فقامت الدولة بتأميم المرفق حتى حوّلته إلى محطة مؤقتة للعودة إلى “ضي القناديل”، فذلكم أكثر رومانسية على حد تعبير عبد الحليم حافظ.

أما الجامعة اللبنانية فاستطاعت برسولية مؤسّسيها والأساتذة، ورغبة الأجيال المتوسطة والفقيرة في التعلّم، أن تُنافس الأميركية واليسوعية وتُقدّم للدولة أهم قادتها وكوادرها، لكننا عُدنا فوجدناها فروعًا مُشتّتة بين الطوائف والمذاهب، وأصبح عدد “البرفسورية” فيها يكاد يفوق عدد أساتذة هارفرد والسوربون وكيمبردج معًا، فيما يرتع كثير من الطلاب في نعيم الجهالة، ما خلا بعض الكليات التي ما زال القيمون عليها صامدين في وجه العبث ومحاولات تسليع العلم.

مرفق القضاء إذًا، هو آخر معاقل الصمود، لكن أسواره المُتشقّقة بدأت تُنذر بسقوط آخر خطوط الدفاع عن الدولة، فالسلطة التنفيذية التي دأبت على إهمال صيانة مؤسساتها، قطعت الهواء عن العدالة وكمَّتْ جهازها التنفسي بعدما كان أهل السياسة قد لجأوا قبلًا إلى تشكيلات قضائية استتباعية تؤشر إلى نزوعٍ وطيدٍ لديهم نحو الدولة البوليسية التي تستعمل القضاء مَخلبًا لحماية استبدادها؛ فإذا همَّ قاضٍ بعصيانِ تلك الاستباحة سلطوا مرؤوسيه لكي يتمرّدوا عليه ويملأوا الشاشات بخطابات تدّعي الطهرانية وتُعَرِّضُ بالأشخاص الذين يمنعهم موجب التحفظ من الانغماس في ملاسناتٍ قبيحة لا يفوز فيها إلّا من امتلك جدارة البذاءة والتهتّك، فإن دلَّ هذا على شيء، فإنما هو استعادة للطريقة الفضلى في تدمير المؤسسات وذلك بكسر التراتبية وإنشاء العلاقات المباشرة مع مختلف الدرجات، في سلوكٍ مُتعَمَّد يفضي إلى الازدراء بالقيادات، واحتقار قراراتها.

إن الأنظمة الدكتاتورية تُداري عوراتها بادعائها التمسّك بالوسائل الديموقراطية، كالاستفتاءات الوراثية ذات الصفة الأبدية، والبرلمانات الشبيهة بمسارح الدُمى؛ فإذا ضاقت ذرعًا باحتجاجٍ أو تململٍ او انتقادٍ أنشأت قوانينها القمعية وأمرت قضاتها بتطبيقها للتنكيل بالمواطنين؛ لكنَّ ما يجري في لبنان نمطٌ جديد يقوم على تخصيص قاضٍ لكلِّ غرض، بما يسمح للفوضى أن تختار قضاتها من خارج الصلاحيات النوعية والمكانية، حتى ليدَّعي هؤلاء صلاحية كونية، وحتّى لتتفشّى فيهم لوثة استنساخ تجربة الأيادي النظيفة الإيطالية، فيسقطونها عليهم من غير جدارة أو استحقاق، في مؤشرٍ إلى شبقٍ سلطوي مُستَولَد من خواء ثقافي وقانوني، واهتزاز في البنيتين النفسية والشخصية.

من هنا تبدو مشاهد المداهمات المُدجّجةِ بالجماهير اقتحامًا للشاشات والصحف لا للمكاتب والأماكن، وتكسيرُ الأقفال كسرًا لمهابة القيادة القضائية بإظهارها عاجزة عن التصرف، وهذا ما قد يؤدي إلى تسرّب في منظومة العدالة وما قد يُشجّع على مزيدٍ من الاستباحة والاستهتار بمفاعيل الأحكام والقرارات وبقوّتها التنفيذية المحلّية والأجنبية، وما يفقد القيادة القضائية سلطتها وقدرتها على حماية قراراتها، مع ما يستتبع ذلك من ضررٍ جسيمٍ على الوطن كلّه.

وإن كان من كلمةٍ تُقال في هذا الصدد، فلوزير العدل الذي ينبغي له أن يتمتّع بمواصفات ضمير الدولة البالغ الحساسية، الصارم المعايير، المُنفَتح الأفق، فيضع نصب مهامه تحديث بنية العدالة لتُجاري العصر، بأن يبني لها قصرًا في الوجدان العام، أفخمَ من الأبهاء الواسعة، وأقوى من أعمدة الرخام الجليلة الأبَّهة وأكثر مهابة من الأقواس وما تزخرفت به من أقوال مأثورة. وما زال هذا الأمر مُتَيسّراً لأن المادة الخام لا تزال موجودة يلزمها الصقل بالتجربة وسعة الثقافة، وبالاتزان النفسي والعقلي، وببرامج للقضاة المتدرّجين في معهد الدروس القضائية لا تتوقّف عند إعادة تدريس القانون الذي تعلموه من قبل، بل تتعدّى ذلك إلى جبل القاضي بالشعور الإنساني والإحساس العميق بالعدالة والثقافة المعرفية والإنسانية حتى تحل النزاهة عند استعمال النصوص والغوصِ إلى أغوارها، محل العنجهية المريضة والسطحية العلمية والزعم العقيم بالنظافة الكاذبة الملوّثة بدخان السيجار الفخم ورائحته المزعجة.

هذه الفوضى المُنَظَّمة المُترامية في أرجاء السياسة والاستحقاقات الدستورية، التي دمّرت القطاع المصرفي، واختلطت بالكوفيد والجراد والمبادرات المُستهلَكة، تجهدُ الآن في وضع اليد على النظام الشمسي لأنه سيحل قريبًا محل النظام الكهربائي المُتهالك، مُطمئنَّةً إلى أن حاملة الميزان عاصبة العينين، فقدت اطمئنانها إلى نفسها وميزانها وكرامتها ذات التاريخ العريق، بعدما امتلأت أثوابها الموشاة بالرمادي والأحمر وجلود الأرانب (والتعبير ليوسف جبران) بالثقوب الكاشفة عن العورات والدالة على أسوإ التوقعات.

في ظل هذه المشاهد التي تعجز الأبصار عن متابعتها والبصائر عن توقّعها، نسمع نغمةً تُبشّرنا بعودة مُعادلة (س-س)، فيظنّ حَسَنو النية أن “سهيلًا” سيشهر سينه كالسيف، مُستعينًا بسين “سعد” المغمّدة في “البركان”، ليحبطا معًا تلك المهزلة الإجرامية التي تستهدف الهيكل عملًا بشعار مارون عبود “افعل الواجب ولا تخشَ العواقب” لكنهم ينتبهون سريعًا إلى أن زمان الحمم يخبو ويُدركون أن المنصّة المُعوَّل عليها  تنخرها القوارض، وأن معركة (غ-ع) ضد  (غ-ع) – أي غسان وغادة- يسودها الغبار، وأنها تسير إلى أرجحية خطرة ترعاها  بعون الله، العين الثالثة ذات الظل العالي.

كذلك، إذا توهّم من أدركتهم غفلة الصالحين أن عودة معادلة (س-س) تعني تقاربًا بين ناسك معراب وساكن الوسط، أو بين أحدهما أو كليهما وكتائب السين السامية، وأن المتضررين من خطة الفوضى سيهرعون إلى الاستظلال بمبادرة البطريرك الراعي لوقف الزحف المُدمِّر، فهؤلاء المتوهّمون سرعان ما سيعودون إلى اجترار خيبتهم الوطنية، مغمورين بالأسى.

ربما جاءت معادلة (س- س-س) أي سعد وسنيورة وسلام، في “ميقاتها” الصحيح، ولكنها تحرز حتى الآن موقع المتراس الذي لا بدّ له أن يتحوّل إلى منصة انطلاق نحو النتائج “النجيبة”؛ أما السين السين الأصلية المشهورة فرغبةٌ واهمة في إحياء المعادلة السورية السعودية لإدارة الشؤون اللبنانية، وتلك لم تُفْضِ إلّا إلى كوارثَ كان الغدر برفيق الحريري أبرزها، رُغم ما أخذته إحدى السينين من ضمانات زميلتها القريبة. ومن البداهة أن أي تقارب سوري سعودي، ليس للبنان في جدول أعماله الراهن سوى مكان هامشي، بعد خروج النظام السوري مُنتصرًا مهزومًا معًا، وتلاشي الثقل السعودي في لبنان حتى أصبح “بخاريًّا”، وقد فعل الرُّمان فعله فينا، بحيث لم تعد القلوب السورية السعودية (مليانة) فدفع لبنان غاليًا ثمن الرمانة التي تفوق تفاحة حواء أثرًا وهولًا.

إن المطبخ اللبناني مليء “بالشيفية” ولكن المثل الفرنسي يقول: “إذا انتحرت آخر دجاجة في العالم، فسيتبعها فورًا أمهر الطباخين”. وها نحن نرى الدجاج ينتحر أو يهاجر، ولم تتبقَّ إلا “الديوك وحدها”، وهي تصيح ولا  تبيض، فلماذا تبحثون عن طعامكم في المبادرات الأجنبية والزيارات الرعوية، وتهملون تقليدًا لبنانيًّا عريقًا، هو تقليد “المساكبة بين الجيران”، فعندذاك تكون وليمة كريمة وطنية من حواضر البيوت، لا مانع بعدها من استعمال بعض المطيّبات والأفاويه من بلاد المهجر.

إن الخوارزمية السياسية تدخلنا إلى متاهات متناسلة من المعادلات،  وتنقلنا من العالم الحقيقي إلى عالمٍ افتراضي، علماً أن حرف السين في كتابة الرياضيات عند العرب يعني x، أي المجهول، ولا أظن أن من ذكرت يريدون قيادتنا إلى المجهول، علماً أن لكل حرف معناه وصوفيته كما يقول ابن عربي، فحذار حذار من الوصول إلى معادلة ج-ب، أي غيابة الجب الذي ألقوا فيه “بيوسف الحسن” عليه السلام.

  • رشيد درباس، وزير لبنانيسابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى