إعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن يهزُّ العلاقات الأميركية – التركية

أشعل اعتراف الرئيس الأميركي جو بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن، قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، ردَّ فعلٍ تركياً شديد اللهجة، وهو أمر قد يؤثر في زيادة تردّي العلاقات الأميركية – التركية المُتردّية أصلاً.

الرئيسان جو بايدن ورجب طيّب أردوغان: الثاني حانق من الأول لإعلانه الأخير عن الإبادة الجماعية للأرمن

ميشال مظلوم*

خرج رجلٌ غير معروف، لكنه مؤثِّرٌ في العلاقات الأميركية-التركية، من سجنٍ في كاليفورنيا في الشهر الفائت من دون ضجّةٍ تُذكَر.

في كانون الثاني (يناير) 1982، إقترب هاري ساسونيان وشريكه من سيارة القنصل التركي العام كمال أريكان في إحدى ضواحي لوس أنجلِيس وأطلق النار عليه وأرداه قتيلاً. لم يكن مضى وقت طويل على استخدام رونالد ريغان، لأول مرة لرئيس أميركي، “تعبير إبادة جماعية” لوصف مقتل حوالي 1.5 مليون أرمني في شرق الأناضول قبل، وأثناء، وبعد الحرب العالمية الأولى. قال في خطاب ألقاه في نيسان (أبريل) 1981: “مثل الإبادة الجماعية للأرمن من قبل، يجب ألّا تُنسى دروس الهولوكوست أبداً”.

لكن يُعتَقَد أن اغتيال ساسونيان لأريكان أقنع ريغان بأن تركيا والولايات المتحدة كانتا في جانب واحد ومعاً في الحرب ضد الإرهاب. هذه الواقعة، إلى جانب الدعم التركي في الحرب الباردة، دفعاه إلى توثيق علاقة واشنطن مع أنقرة، التي تقبل القول بمقتل العديد من الأرمن قبل قرن من الزمان، لكنها تجادل بأن هذه الوفيات حدثت وسط ضباب الحرب ولا تُشكّل إبادة جماعية. وتقديراً للحاجة إلى علاقات قوية بين أميركا وتركيا، وضع ريغان جانباً عبارة الإبادة الجماعية، وتبعه في ذلك كل الرؤساء الذين جاؤوا بعده. حتى الآن.

“نتذكّر أرواح كل الذين ماتوا في الإبادة الجماعية للأرمن في العهد العثماني ونُعيد التزامنا بمنع حدوث مثل هذه الفظائع مرة أخرى”، قال الرئيس جو بايدن يوم السبت الفائت، في الذكرى 106 لتلك الواقعة الأليمة.

بايدن هو أول رئيس أميركي منذ 40 عاماً يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن. مثل باراك أوباما، الذي شغل منصب نائب الرئيس له، وعد بايدن خلال الحملة الانتخابية بأنه بمجرد توليه منصبه، سيعترف بالإبادة الجماعية للأرمن. لكن خلال السنوات الثماني التي قضاها كرئيس، لم ينفّذ أوباما ذلك مُطلقاً، رُغم أنه احتاج إلى أربعة أيام فقط لتطبيق وصف الإبادة الجماعية على اضطهاد “داعش” لليزيديين. والآن اتّخذ بايدن تلك الخطوة الأخيرة.

كانت هذه الخطوة مُتوَقَّعة على نطاقٍ واسع، وتتوافق مع تحوّلٍ عالمي. الأدلّة التاريخية، المُستندة والقائمة على العمل الذي قامت به الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، تؤيد وجهة النظر الأرمنية، بأن الأرمن واجهوا حملة إبادة مُتعَمَّدة من آخر زمرة حاكمة للإمبراطورية العثمانية، والمعروفة باسم تركيا الفتاة أو الأتراك الشباب أو جمعية الإتحاد والترقّي. أجمعت الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية على تصنيفها بالإبادة الجماعية، وقد جادل عدد من المؤرخين، في السنوات الأخيرة، بأن الحملة العثمانية التي دامت ثلاثة عقود لم تستهدف الأرمن فحسب، بل استهدفت جميع المسيحيين في المنطقة، بمن فيهم اليونانيون والآشوريون، ما أسفر عن مقتل 3 ملايين في المجموع.

إعترف البرلمان الأوروبي بمذبحة الأرمن كإبادة جماعية في خمس مناسبات مختلفة. أقر البرلمان الهولندي ما لا يقل عن أربعة “قرارات بشأن الإبادة الجماعية” للأرمن، كما فعل الكونغرس الأميركي، بالإضافة إلى إقرار وزارة الخارجية الأميركية لمحكمة العدل الدولية في العام 1951. هناك 32 دولة، بما فيها 11 من حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، اعترفت بأنها إبادة جماعية.

مثل هذه التحرّكات تُحبط حملات الضغط الباهظة التي تمارسها تركيا، وبالتالي تدفع أنقرة إلى الرفض ورد الفعل، والإعلان أن الاعترافات “لا قيمة لها وباطلة”، والتنديد بـ”عصابة شريرة تتشكّل ضدنا”. قبل بضع سنوات، دفع الموقف التركي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى إدانة أحد أكثر الشخصيات احتراماً في العالم، البابا فرنسيس. لقد اتّخذت تركيا، في السنوات الأخيرة، مُنعَطفاً استبدادياً داخلياً مع تبنّي سياسة خارجية مستقلة جداً، ما أحبط شركاءها الغربيين. إن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن قد يبعث برسالة مفادها أن أنقرة قد تجاوزت الخط الأحمر.

علاوة على ذلك، جعل بايدن من الليبرالية القوية المحور المركزي لسياسته الخارجية، بغض النظر عن التكلفة الديبلوماسية. في الأسابيع الأخيرة، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “قاتل” وانضم إلى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا في وضع مسؤولين وكيانات صينية على القائمة السوداء. حقيقة أن بايدن أمضى ثلاثة أشهر في المنصب قبل التحدث إلى نظيره التركي عبر الهاتف – ثم أمضى جزءاً من محادثتهما الأولى يوم الجمعة الفائت يخبر أردوغان أنه سيعترف بالإبادة الجماعية للأرمن- يعطينا فكرة عن المرتبة التي يُصنّف فيها الرئيس الأميركي العلاقات مع تركيا.

الواقع أنه بسبب عدد كبير من الخلافات الجارية توترت العلاقات الثنائية بين البلدين لدرجة أن الاعتراف الأخير هو مجرد ملفٍ آخر على النار. هناك شراء أنقرة لدفاعات صاروخية روسية الصنع، وسجن عدد لا يحصى من الصحافيين والشخصيات السياسية والانسحاب من اتفاقية اسطنبول، واحتمال تسليم المشتبه به الرئيس في تركيا من الولايات المتحدة في الانقلاب الفاشل في العام 2016، والغرامة التي تلوح في الأفق على بنك خلق الذي تديره الدولة في تركيا- والقائمة تطول وتطول.

مع انخفاض العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا إلى هذا الحدّ، ما مقدار الضرر الذي يمكن أن يُحدثه هذا الأمر حقاً؟ ليس خارج نطاق الاحتمالات أن ينتهي اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية بأن يكون القشّة التي قصمت ظهر البعير، لكن هذا البعير أظهر قوة جبل “أطلس”، ويبدو أنه من السخف الشك في الأمر الآن.

في الأيام المقبلة، من المرجح أن تسمح وسائل الإعلام الموالية للحكومة في تركيا بأن تتصاعد معاداة أميركا، وسيصدر كبار المسؤولين بيان إدانة تلو الآخر وقد تنتقم أنقرة، ربما بفرض عقوبات أو إجبار الجيش الأميركي على الخروج من قاعدة إنجرليك الجوية. ليس من المحتمل أن يؤدي أيّ من هذا إلى حل ما هو بالفعل زواج مضطرب للغاية.

فلماذا تصرّ تركيا على موقفها؟ قد تخشى الحكومة من أن الاعتراف سيًحفّز طلبات الأرمن للحصول على أراضٍ وتعويضات، على الرغم من أن احتمال أن تحظى مثل هذه الطلبات بقبول واسع بعيد. القضية الأكثر احتمالاً هي أن الاعتراف بدور جمعية الإتحاد والترقي في الإبادة الجماعية يشبه اعتراف المرء بأن جدّه كان نازياً.

قاتل العديد من “الأتراك الشباب” في الحرب من أجل الاستقلال وتقلّدوا مناصب رئيسة في أوائل الجمهورية بعد أن أسسها مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923. وقال المؤرخ تانر أكام في العام 2013: “بالنسبة إلينا لمواجهة تاريخنا ونقبل حقيقة الإبادة الجماعية للأرمن، يعني أن نتصارع مع هويتنا كأتراك”.

هذا الأمر سيجعلهم بشراً. البريطانيون والفرنسيون لديهم الهند والجزائر على التوالي. يعيش الأميركيون مع أهوال العبودية والقضاء على القبائل الأصلية. الألمان لديهم الهولوكوست، وجنوب أفريقيا لديها التمييز العنصري “أبارتهايد” وما إلى ذلك. من جهتها تسعى تركيا للإنضمام إلى نادي الدول المتقدمة والمتحضرة، لكنها تظل واحدة من القلّة التي تواصل إنكار التاريخ.

من شأن الاعتراف التركي أن يُقلّل من احتمالية ارتكاب جرائم شبيهة بالإبادة الجماعية اليوم، ومن المُرجّح أن يؤدي إلى تجديد العلاقات مع أرمينيا وتعزيز سمعة أنقرة الدولية. ولن تكون هذه النقطة غير مألوفة تماماً بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، ويحكم البلاد منذ ما يقرب من 20 عاماً. في العام 2005، سُمِحَ لجامعة “بيلجي” في اسطنبول بعقد أول مؤتمر في البلاد حول الأرمن العثمانيين.

في السنوات التي تلت ذلك، بدأ المؤرخون مثل “أكام” الإعتراف بالإبادة الجماعية في كتب شعبية، بينما ناقشت مقالات الرأي والمقالات الإخبارية هذه القضية بصراحة. في يوم الذكرى في العام 2014، اتخذ أردوغان خطوة غير مسبوقة، حيث نقل تعازيه لأحفاد الأرمن الذين قُتلوا.

في العام التالي، استؤنف العنف بين الدولة والمسلحين الأكراد، ما أدى إلى صعود القوميين المتطرفين الذين لم يتحمّلوا أبداً أي إهانة للفخر التركي، ناهيك عن الاعتراف بالإبادة الجماعية. عاجلاً أم آجلاً، من المرجح أن تقر أنقرة وتتحمل بعض المسؤولية. حتى ذلك الحين، ستبقى بقعة مؤلمة، جرحاً مفتوحاً مُتقيّحاً يترك تركيا في قلق دائم من الوخز والضغط الأجنبي.

في العام 1984، حُكم على ساسونيان بالسجن المؤبد من دون إطلاق سراح، حيث قال المدعون إنه استهدف الديبلوماسي التركي بدافع الانتقام من الإبادة الجماعية للأرمن. لكن في العام 2002 –في العام الذي تولّى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا- أسقط المُدّعون هذا العنصر من القضية مقابل اعتذار ساسونيان والاعتراف بذنبه. وقد جعله هذا مؤهلاً للإفراج المشروط، الذي حصل عليه في آذار (مارس)، في محاولته الرابعة.

بعد ما يقرب من 40 عاماً من هجومه الوقح الذي أقنع ريغان بأن تركيا والولايات المتحدة تقاتلان العدو نفسه، فإن ساسونيان رجل حرٌ والإبادة الجماعية للأرمن مُعترَفٌ بها في جميع أنحاء العالم. في غضون ذلك، تُقاتل القوات الأميركية “داعش”،  مع غض تركيا الطرف عن الأمر في البداية، بالشراكة مع المسلحين الأكراد السوريين الذين تعتبرهم تركيا إرهابيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى