دورُ الدول الصغرى على الساحة الدوليّة: النموذجُ القطري والكويتي

فيما ترى الغالبية في العالم أن النزاعات والأزمات الدولية لا يُمكن حلّها إلّا عبر تدخّل الدول الكبرى أو المتوسطة الحجم، فإن الواقع في بعض الأحيان يدحض هذا الرأي، إذ أن دولاً صغيرة عدة كان لها دورٌ كبير ومهم في هذا المجال كما يُظهر التقرير التالي.

أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح: كان أمير القوة الناعمة.

السفير يوسف صَدَقة*

ينصبُّ التركيز في الساحة الدولية عادةً على الدول الكبرى والدول المتوسطة بالنسبة إلى صياغة وتنفيذ وتسوية الأزمات الدولية. وبالمقابل، فإنه لا يمكن تجاهل دور الدول الصُغرى في عملية التوسّط لحلِّ النزاعات الإقليمية، خصوصاً تلك التي تختزن تجارب تاريخية وتتمتع بإشعاعٍ ثقافي وحضاري ومالي في محيطها الإقليمي، ما يخوّلها التدخل عبر الديبلوماسية الوقائية في المسائل المهمة، رغم إمكاناتها المحدودة. فقد تقدمت جزيرة مالطا (316 كلم2) في العام 1960 من الأمم المتحدة بطلبٍ من أجل تعميم مفهوم، وتبنّي قاع البحر والمناطق الأخرى، باعتباره “التراث المشترك للإنسانية”. وقد تبنّى هذا المبدأ مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار في العام 1982. أما الجزائر، فقد تولّت قيادة مجموعة الـ77 من أجل انتشار نظامٍ اقتصادي عالمي جديد في العام 1970.

وفي إفريقيا، نجحت أوغندا في مكافحة السيدا على مستوى القارة. وفي أميركا الوسطى، ركّزت كوستاريكا على تبنّي مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.

أما مجموعة “الدول–الجزيرة” الـ38، فقد ثبّتت موقعها على الصعيد الدولي، في توحيد المواقف حول مسألة ” تغير المناخ العالمي”.

أما ما يمنح الدول الصغيرة الحضور على الساحة الدولية أيضاً، فهو الانضمام إلى الاتفاقيات المُتعدّدة الأطراف، والتي تُمكّنها من الحدّ من سيطرة القوى الكبرى.

يتبيّن من مراقبة دور الدول الصغيرة في الحَوكمة العالمية كيف أنّ الديبلوماسية المتعددة الأطراف (المنظمات الدولية) قادرة، على الحدّ من معادلة القوة في سبيل خدمة الشعوب والمجموعات الإثنية المختلفة.

فالكويت الدولة العضو في الأمم المتحدة، قامت بدور رياديّ كبير في تحريك مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية لمواجهة الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990. وبالمقابل، فإنّ ديبلوماسية جورجيا لم تكن ناجحة وفعّالة في مواجهة الاجتياح الروسي في العام 2008، على إثر محاولة جورجيا استعادة أبخازيا.

على صعيدٍ آخر، فإنّ البلدان الصغيرة تملك فرصاً قليلة في إعلاء صوتها في المنظمات الاقتصادية الدولية. ففي منظمة التجارة العالمية (WTO)، هناك 1200 اجتماع رسمي وغير رسمي في السنة، مما يحدّ من حضور الدول الصغيرة غالبية الاجتماعات، نظراً إلى ضعف إمكاناتها المادية والبشرية. وقد دعم كل من منظمة التجارة العالمية ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على تأمين مركز عالمي للتجارة يؤمّن الخبرة التقنية لكوادر الدول النامية وأسلوب وفن المفاوضات والمعلومات الاقتصادية.

تعمد الدول الصغيرة إلى المساومة مع الدول الكبرى لاكتساب منافع اقتصادية، ففي حرب الخليج مثلاً، طلبت الدول الصغيرة الأعضاء في مجلس الأمن الدولي مساعدات من الولايات المتحدة مقابل تأييد القرار الدولي بتحرير الكويت. وقد نالت كلٌّ من مصر وماليزيا مساعدات اقتصادية أميركية لدعمهما القرار، وتمّ حجب المساعدات عن اليمن لعدم دعمها الحرب.

إنّ مشاركة الدول الصغيرة في ” شبكة الحوكمة العالمية” (Network of Global Governance)، تؤمّن لها سياسة خارجية فاعلة، وتُعزّز دورها على الصعيد الدولي. إنّ استراتيجية الدول الصغيرة في إنشاء أسواق اقتصادية تمثّل دوراً مُهمّاً في تفعيل الديبلوماسية المتعددة الأطراف. أما ماليزيا التي ترأّست قمة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي في العام 2003، فقد أخذت دوراً ريادياً في الأمم المتحدة في تلك الفترة، مما منحها دوراً مهماً على الساحة الدولية. وأضحت دولة متوسطة، بسبب ديبلوماسيتها الخلّاقة والفاعلة والمتماسكة بقيادة رئيس الوزراء مهاتير محمد.

وهناك من جهة أخرى، دول ضعيفة تحوّلت في النظام الدولي إلى دول فاشلة، ومنها الصومال، دولة الكونغو الديموقراطية، أفغانستان، سيراليون…

والسؤال الذي يفرض طرحه: كيف يُمكن إعادة هذه الدول إلى النظام الدولي؟ فالمطلوب ليس أن تحقق الدولة سيادتها على ترابها الوطني فقط، ولكن أن تكون قادرة على تطبيق التزاماتها الدولية.

الديبلوماسية الناعمة

تمتاز الدول الصغرى بقدرة ديبلوماسية مُتميِّزة على التدخّل في وقف النزاعات. فقد عرّف الدكتور جوزف ناي، الأستاذ في جامعة هارفرد في العام 1995 “القوة الناعمة” بقدرة أمّة مُعيَّنة على التأثير في أممٍ أخرى، والتأثير في خيارات سياستها الخارجية، وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي، والمنظومة الحضارية والمؤسساتية التي تختزنها، وهي تعتمد على الديبلوماسية لحلّ النزاعات بدل التعويل على التهديد والإكراه.

وتتجلى مبادئ “القوة الناعمة” أيضاً في زيادة الإنفاق على الإدارات المدنية، سواء على صعيد الخدمات أو الاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الدورية والطارئة للدول المحتاجة، والمساهمة في دعم التنمية في دول العالم الثالث.

ويأتي الإعلام كناقلٍ حيّ للقوة الناعمة أو وعاء لاحتواءِ مفاهيم وأنشطة القوة الناعمة، وقد لعبت الفضائيات دوراً مؤثّراً في الترويج للقوة الناعمة.

أما الكاتب الأميركي توماس هنريكسون (2005)، فقد اعتبر أنّ هناك نماذج مُعيّنة من الاستراتيجيات، توظفها الدول الصغيرة، لكسب التأييد على الساحة الدولية. فالدولة تبني قدراتها الوطنية، لتُعزّز ديبلوماسيتها العامة على الساحة الدولية. ونأخذ في هذا السياق نموذجين على سبيل المثال لا الحصر، وهما قطر والكويت.

قطر

نصّ الدستور القطري، في مادته السادسة: “تقوم السياسة الخارجية للدولة على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليين من طريق تشجيع فضّ النزاعات الدولية، بالطرق السلمية ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها…”.

هذا وقد عملت الديبلوماسية القطرية، في إطار القوة الناعمة عبر تبنّي دور الوسيط في الصراعات الإقليمية، وتعزيز الدور على الساحة الدولية. فقد استضافت مؤتمرات دولية كثيرة، بحيث ترأّست في العام 1995 القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن، واستضافت في العام 2001 مؤتمر منظمة التجارة في العالم، كما استضافت في العام 2005 القمة الثانية لمجموعة الـ77.

على صعيدٍ آخر، نشطت قطر في المجال الإنساني حيث أمّنت المساعدة إلى المحتاجين بعيداً من أيِّ حواجز دينية أو عرقية أو إثنية ومنهم ضحايا الحروب الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، منكوبو تسونامي في آسيا، زلزال اليابان في العام 2011 أو تأمين السفن لآلاف المهاجرين بسبب النزاع المسلّح في ليبيا في العام 2014. أما مجال الوساطات وحلّ النزاعات فقد توسّطت الدوحة في العديد من الملفات والقضايا الشائكة، باذلةً جهوداً ديبلوماسية وسياسية حثيثة على المستويات الإقليمية والدولية لتقريب وجهات النظر بين الدول والفصائل والكيانات لإيجاد حلول مستدامة للنزاعات والخلافات. هذا وتتحرك وساطة الإمارة عادةً بطلبٍ من الأطراف المعنية وأصحاب المصلحة أو بمبادرة من الإمارة من أجل المحافظة على الأمن والسلم الدوليين، مُستفيدةً من إمكاناتها الديبلوماسية والمالية وعلاقاتها مع الأطراف المختلفة.

هذا ونذكر في هذا السياق أبرز الوساطات التي عملت عليها قطر منذ العام 2008، على سبيل المثال لا الحصر:

الكويت

إعتمدت الكويت منذ استقلالها في العام 1961 على سياسة الحياد الإيجابي، حيث كانت أول دولة في الخليج تُقيم علاقات ديبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي. ورُغم حجم الكويت وإمكانات البلاد البشرية والعسكرية المحدودة، نجحت في أن تنشئ لنفسها صورة إيجابية وتحظى على الصعيد الدولي بالقبول والاحترام، الأمر الذي سمح لها كي تلعب دور الوسيط في أكثر من صراع. ويساهم في تعزيز هذا الدور علاقتها الجيدة مع دول الخليج، وعلاقتها المستقرة مع إيران. ويُعتبر الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصبّاح، إحدى الشخصيات المحورية والمتمرّسة في السياسة الخارجية، وقد أمضى عقوداً كديبلوماسي وسيط رسّخها على المعادلة الذهبية: “الديبلوماسية السياسية”، “الدبلوماسية الاقتصادية”، “الدبلوماسية الإنسانية”. (كان وزيراً للخارجية في الكويت من 1963 حتى 2003).

لعبت الديبلوماسية الكويتية دوراً محورياً في حلّ الخلافات الإقليمية والدولية بين الأطراف المتنازعة، مرتكزةً على سياسة الحياد والتوازن. وقد لعب الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية دوراً كبيراً في تفعيل الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسة الكويت الخارجية وقد أنشأه الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد.

كما تسعى الديبلوماسية الكويتية الخارجية إلى إبراز الدور الإنساني لدولة الكويت عبر تقديم المساعدات الإنسانية للدول المنكوبة والفقيرة.

سنورد في هذا السياق دور الديبلوماسية الكويتية في حلّ النزاعات على سبيل المثال لا الحصر:

وعليه، فإنّ النظام الدولي الجديد الذي يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، سيكون فرصة جديدة للدول الصغرى لكي تؤمّن حضورها على الساحة الدولية. فقد مضى الزمن الذي يحدّد قوة الدولة بعدد الصواريخ والطائرات، فقوة الدولة هي قدرتها أيضاً على تأمين رفاهية شعبها في الحكم الديموقراطي والحوكمة الرشيدة ووتأمين العدالة الإجتماعية.

Exit mobile version