فيديرالية الحزب المقنّعة

راشد فايد*

هل تذكرون احتلال وسط بيروت لنحو سنتين؟ وهل تتذكرون تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لفترة مماثلة، وأطول، وهل تغفل الذاكرة “غزوة” بيروت في 7 أيار (مايو) 2008، التي نفذها تحالف “8 آذار”، وقد سبقها نَصب أكثر من 600 خيمة حول مقر رئاسة الحكومة من 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2006 إلى 21 أيار (مايو) 2008، أي لمدة 18 شهرًا انتهت بتوقيع “اتفاق الدوحة”؟ وهل تنسون تعطيل تشكيل الحكومات لأشهر “كرمال الصهر”؟

أدّى الاعتصام، الذي إفتتح زمن الغطاء الماروني لـ”حزب الله”، إلى شلل تام في وسط بيروت، وإقفال عشرات المؤسسات التجارية وصرف موظفيها وهم بالآلاف. وقدر إجمالي الخسائر في التجارة، حينها، بنحو 10 ملايين دولار يومياً. وفي كل مرة تُعطل الجماعات نفسها، حليفة نظام الأسد وايران، الحياة العامة، تتكبد الخزينة والإقتصاد الوطني مليارات الدولارات (هل ستخضع للتدقيق الجنائي؟)، من دون أن يرف جفن من يرون المقاومة فعل سلاح، ولو دمر البلاد، وليس في النجاح الإقتصادي والنقدي والتجاري، والثقافي، والوجوه الأخرى للإنتصار الإنساني؟

لتأبيد سيطرته على “البيئة” إياها، نجح زعيمها في تقويض مؤسسات الدولة الأم، وفرض اقتصاداً موازٍياً، وأخيراً، دورة دولار مغلقة لا تتخطى حدود الضاحية، فيدفع لأزلامه بالدولار الأميركي، ويلزمهم، عندما يحتاجون إلى العملة الوطنية، بتحويله لدى صرّافين تابعين له. ينطوي الأمر على انعزال مالي إقتصادي، وخلق دورة مالية محصورة، عدا تسريب الدواء والمنتجات الإيرانية، كأن الفيديرالية تبدأ لدى الحزب من هنا.

كل ذلك تحت أنف الرئيس القوي الذي لا يتغيّر ما في نفسه: شهوة السلطة المطلقة، ولو استلزمت تشويه الحقائق والمسلمات. فمواقف الجنرال من تشكيل الحكومة المرتقبة يذكر بلعبة العرائس الروسية الشهيرة: كلما استخرجت لعبة وجدت في داخلها أخرى. لذا ينقلنا من الثلث المعطل، إلى الـ24 وزيراً، فالتدقيق الجنائي، وغدا “اللقاء السني التشاوري”، وإحياء كتلة أرسلان، إلى أن يقتنع جبران باسيل بأن الرئاسة ليست من نصيبه.

والجنرال على موقفه، واللبنانيون يعرفون “إنجازات” عناده. والمشكلة أنهم يعرفونه أكثر مما يظن، ويعرفون أنه لا يتردد في المقامرة بحيواتهم، وقد أثبت لهم ذلك منذ الحكومة العسكرية الجهيضة إلى رئاسة العهد البائس، وبينهما زعمه البقاء في قصر بعبدا حتى خروج آخر عسكري لبناني منه. فالعقدة أن كل الهزائم السياسية وغير السياسية تنتهي باقتناعه أن “صموده” ربح الرهان، واستراتيجيته الإنتحارية منتصرة دائماً. وها هو اليوم رهانه على تحريف الطائف ينتهي إلى تمسكه به في خطابه الأخير.

يقول المثل السائر” ليتك لم تزْن، ولم تتصدّقي”، ولولا أنه أكثر من وعوده بالإصلاح والتغيير، لما فجع الناس بهزال العهد، وبلاويه في السياسة والإقتصاد والتجارة والنقد، ولما لاحظ أحد فصاماً يجعل البعض يتحدث عن المثل العليا ولا يتردد في تبنّي المثالب الدنيا، كما وأد قلب بيروت، ومعاندة مصالح الناس، وتهشيم الدستور مرة بـ”أنا أو لا أحد”، ومرات كرمى للصهر.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى