لماذا فتحت دولة الإمارات باب التجنّس الآن؟

أعلنت دولة الإمارات أخيراً على لسان نائب الرئيس ورئيس الحكومة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تعديل قانون الجنسية بهدف جذب المواهب والمستثمرين الأجانب. ولكن لماذا كسرت الإمارات مُحرّمات التجنّس الآن؟

جواز السفر الإماراتي: سيكون للنخبة فقط من الأجانب.

عمّار الحلّاق*

لعقودٍ، عرفت دولة الإمارات العربية المتحدة الازدهار والانتعاش الإقتصادي بفضل قدرتها على جذب المواهب من الخارج. في 30 كانون الثاني (يناير) 2021، أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي، على موقع تويتر تعديل القانون الذي يهدف إلى جذب الأجانب والاحتفاظ بهم عبر السماحِ لمجموعةٍ مختارة من الوافدين بأن يصبحوا مواطنين إماراتيين دون التنازل عن جنسيتهم الأصلية.

على الرغم من أن الإعلان احتلّ عناوين الصحف، إلّا أن الجدل حَول منحِ الجنسية لمجموعةٍ مُختارة من المغتربين ذوي المهارات العالية ليس جديداً. في العام 2013، كسر الشيخ سلطان سعود القاسمي، المُعلّق السياسي الإماراتي البارز والعضو في الأسرة الحاكمة في إمارة الشارقة، “محرّمات الجنسية” من خلال الترويج للفكرة القائلة بأن السماح لغير المواطنين بالحصول على الجنسية الإماراتية من شأنه أن يُشجّع الاستيعاب الثقافي، ويُعزّز القاعدة الضريبية، ويدعم شيخوخة السكان المتزايدة، والمساعدة على تنويع اقتصاد الإمارات قبل بدء حقبة ما بعد النفط.

لماذا الآن؟

قانون عرض الجنسية هو أحدث مظهر من مظاهر السياسة، الذي تمّ سنّه للوافدين الباحثين عن إقامة طويلة الأمد في الإمارات العربية المتحدة. على سبيل المثال، يُوفّر برنامج التأشيرة الذهبية إقامةً لمدة 10 سنين قابلة للتجديد للمستثمرين ورجال الأعمال والرؤساء التنفيذيين والعلماء والطلاب المُتميِّزين الذين يستوفون مُتطلباتٍ مُحدَّدة. في حين أثبتت التأشيرة الذهبية في البداية أنها ناجحة في توفير قدرٍ أكبر من الاستقرار لأولئك الذين يسعون إلى بناء وظائف طويلة الأجل في الإمارات بعد طرحها في العام 2019، فقد أبرزت جائحة كوفيد-19 حدودها الجوهرية. مع زيادة القيود على التنقّل وتدهور الأوضاع الاقتصادية، أدّى عدم وجود شبكة أمان اجتماعي للوافدين إلى إجبارِ العديد من العمال والموظفين الذين قد يستفيدون من البرنامج على مغادرة البلاد. وجد تقرير حديث لوكالة التصنيف الإئتماني “ستاندرد أند بورز” (Standard & Poor’s) أنه بسبب التداعيات الاقتصادية للوباء والانخفاض المُصاحب في أسعار النفط، إنخفض عدد سكان منطقة الخليج بنسبة تزيد قليلاً عن 4٪ في فترة عامٍ واحد (من كانون الثاني (يناير) إلى كانون الأول (ديسمبر) 2020) ، بشكلٍ أساسي نتيجة عودة المهاجرين إلى بلدانهم. إنخفض عدد سكان دبي بنسبة 8.4٪ في العام 2020، وهو أكبر انخفاض في منطقة الخليج. يُعزى هذا عموماً إلى ركود العام الفائت، ما أدّى إلى ارتفاع أعداد البطالة، وبالتالي أجبر العديد من الوافدين الذين ترتبط تأشيرات إقامتهم بوظائفهم على العودة إلى ديارهم. كما تقوم حكومات دول مجلس التعاون الخليجي بشكل متزايد بتنفيذ سياسات التوطين لتعزيز مشاركة المواطنين في القطاع الخاص، ولا سيما من خلال الإجراءات التي تحدّ من توظيف الوافدين. وتشير توقعات ستاندرد أند بورز إلى أن عدد المغتربين في المنطقة سيستمر في الانخفاض، حتى لو عاد البعض بمجرد انتعاش الاقتصاد.

بالنظر إلى أن الأجانب يُشكّلون 90٪ من سكان الإمارات، فإن شبح الهجرة الجماعية للعمال والموظفين يُشكّل مصدر قلق كبير. إن توقيت إعلان قانون الجنسية، كما يشير روهان أدفاني، كبير مساعدي السياسة في “مؤسسة سانتشوري” (Century Foundation)، “مُرتَبطٌ إلى حدٍّ ما بالتوقعات الاقتصادية والسياسية غير المؤكدة للاقتصاد العالمي”، ويرتبط بشكل خاص بالتزام الدولة “الاحتفاظ بالعمالة ذات المهارات العالية في الإمارات وعدم المعاناة من احتمال انتشار هجرة الأدمغة في أعقاب الوباء”. قد لا يكون عرض منح الجنسية “وسيلة للحفاظ على العمالة الماهرة في الدولة” فحسب، بل قد يكون أيضاً أداة لإبقائهم “مُستهلكين ومُستثمرين”.

هذه الحاجة إلى المستثمرين باتت مُلحّة بشكل كبير راهناً. لقد بذلت دولة الإمارات قدراً كبيراً من الجهد والمال في برنامج التلقيح ضد فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) بهدف تسريع الانتعاش الاقتصادي. جزءٌ من هذا التعافي يشمل جعل البلاد آمنة لعودة العمال والموظفين الأجانب. وما يزيد الضغط على أبو ظبي هي المنافسة مع دول الخليج الأخرى. وضعت المملكة العربية السعودية والإمارات سياسات تنويعٍ اقتصادي على مسارات مُماثلة، لا سيما في ما يتعلق بمشاريع التكنولوجيا الفائقة، وبدء الأعمال التجارية (الشركات الناشئة)، والسياحة. يُشير جيم كراين، من “معهد بايكر للسياسة العامة”، إلى أن “اندفاع التنويع” أدّى إلى بيئة “تشتعل فيها المنافسة على المواهب الأجنبية”. قال كراين إن مبادرة المواطنة في الإمارات قد تُمثّل محاولة لخلق “طبقةٍ من النخب المدنية المُتعلّمة التي يمكنها دفع القطاع الخاص إلى التفوّق في الأداء على مثيلاتها في البلدان المجاورة”.

نظرة المُغتربين

تندرج مبادرة المواطنة ضمن سرد التسامح والتعددية الثقافية الذي أصبح إحدى السمات المُميّزة للخطاب العام لدولة الإمارات في السنوات الأخيرة. لقد عزّزت البلاد مُجتمعاً أكثر صداقة مع المهاجرين، وسلّطت الضوء على مساهمات المغتربين والمهاجرين في بناء الدولة والتنمية الاقتصادية، جزئياً استجابة لانتقاداتٍ من الدول الغربية والمنظمات غير الحكومية. قالت الدكتورة “ناتالي كوتش”، من كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة في جامعة سيراكيوز في ولاية نيويورك، إن الخطوة لا ينبغي أن يُنظَر إليها على أنها مفاجأة بل “باعتبارها امتداداً منطقياً لجهود الحكومة الإماراتية لتشجيع الأفراد أصحاب الثروات العالية للإستثمار والإقامة في دولة الإمارات”.

على الرغم من قشرة التسامح للمبادرة، تلفت “كوتش” الانتباه إلى انتقائية المبادرة. قالت: “من الواضح أنها تستهدف النُخَب وليس الأشخاص العاديين الذين يُقيمون في الإمارات منذ أجيال”. وتؤكد “نيها فورا”، عالمة الأنثروبولوجيا في كلية لافاييت ومؤلفة كتاب “مواطنون مستحيلون: الشتات الهندي في دبي”، على الطبيعة النخبوية للمبادرة. “إنها لا تزال تُفضّل المواطنة الاقتصادية على أشكال الانتماء الأخرى، وسوف تؤثر فقط في النخبة من المهاجرين، الذين لديهم بالفعل امتيازات قائمة على الثروة”. إن المبادرة تترك بلا إجابة قضية “حول دوام الأطفال غير المواطنين الذين ولدوا ونشأوا في الخليج”. هذا الشعور بعدم اليقين، وفقاً لجايمس ساتر، خبير الهجرة والمواطنة في جامعة مالطا، يرجع إلى أن “اتخاذ القرار يجري بشكلٍ تعسّفي وإلى جهازٍ أمني مُتطفل [الذي] سيبقى دائماً في أذهان السكان أنفسهم وأذهان أطفالهم. بدورها، ستحتفظ الإمارات العربية المتحدة أيضاً بالحق في سحب الجنسية من المواطنين غير المرغوب فيهم، وقد قامت فعلياً ببناء آلية لا تجعل أي شخص عديم الجنسية فجأة”.

النقد من الداخل

تُعتَبَر مسألة الجنسية حسّاسة ليس فقط بين الجاليات المُغتربة، ولكن أيضاً داخل المجتمع الإماراتي. مثلما تنقسم القوى العاملة في دولة الإمارات إلى حدٍّ كبير على أسس وطنية وإثنية وعرقية، هناك أنواعٌ مُختلفة من المواطنة للمواطنين. الفئة الأولى هي “مواطن إماراتي كامل”، وتتألف من أولئك القادرين على تتبع نِسَبَهُم إلى العائلات الأصلية التي كوّنت الدولة في وقت تأسيسها ومن يملكون دفتر عائلة أي “خلاصة القيد”. الفئة الثانية تتألف من أولئك الذين أصبحوا مواطنين من طريق الزواج، وتنطبق بشكل أساس على الأجنبيات المتزوجات من رجالٍ إماراتيين. الفئة الثالثة تشمل أولئك الذين حصلوا على الجنسية من طريق التجنّس. هناك أيضاً سكان محليون يحملون جواز سفر لكنهم لا يمتلكون خلاصة القيد أو البدون من سكان الإمارات والذين لا يمتلكون جواز سفر ولا خلاصة القيد. يجوز منح حاملي جوازات السفر لمَن ليسوا مواطنين كاملين بعض أو كل المزايا من قبل كل إمارة يقيمون فيها، ولكن هذا ليس مضموناً بأي حال من الأحوال. إن سرد “المواطنة الحصرية” الإماراتية أمرٌ بالغ الأهمية ليس فقط في الحفاظ على المواطنة الموالية، ولكن أيضاً في إضفاء الشرعية على الدولة باعتبارها الحامي النهائي للسكان الوطنيين.

قد تؤدي مبادرة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الجديدة أيضاً إلى دعوةٍ لإصلاح قوانين الجنسية الحالية للإماراتيين. كما أشارت الشيخة جواهر القاسمي، زوجة حاكم الشارقة، في تغريدة على تويتر، على الرغم من أن المرأة الإماراتية قادرة على نقل الجنسية لأبنائها إذا تزوّجت من أجنبي، يتعيّن على هؤلاء الأطفال التقدّم بطلبٍ للحصول على الجنسية الإماراتية عند بلوغهم ال18 عاماً، مع عدم ضمان نتيجة الطلب. يتناقض هذا مع الرجال الإماراتيين المتزوّجين من أجنبية، والذين يمكنهم نقل الجنسية إلى أطفالهم بسهولة. ونظراً إلى معدلات الطلاق المرتفعة نسبياً بين المواطنين، وانخفاض معدل المواليد، وصغر حجم الأسرة بشكل متزايد، فإن الحفاظ على التماسك الاجتماعي واستقرار الأسرة يُمثّل أولوية لحكومة الإمارات. لذلك من المرجح أن يتم قياس تنفيذ مبادرة المواطنة الجديدة، وتحديدها، والسيطرة عليها، من أجل الحفاظ على النسيج الاجتماعي الإماراتي.

هناك مصدر قلق آخر بشأن مبادرة الجنسية، وهو أنه نظراً إلى أن دولة الإمارات تُقدّم خدمات رعاية اجتماعية ومزايا اجتماعية سخيّة جداً للإماراتيين، فإن زيادة عدد المواطنين قد يُمثّل عبئاً مالياً على النظام. ومع ذلك، كما يشير ماركو فالنتا، من قسم الخدمة الاجتماعية في الجامعة النروجية للعلوم والتكنولوجيا، “أولئك الذين يكتسبون الجنسية هم أشخاص لديهم مهارات وموارد. تُعلّمنا التجارب من البلدان الأخرى أن إشراك السكان بالموارد ورأس المال البشري لا يُشكّل عبئاً على نظام الرفاهية”.

قوانين جديدة وطرق قديمة

على الرغم من إمكانية الحصول على الجنسية الإماراتية الآن من قبل المغتربين، فلن يتم اعتبار الجميع مؤهّلين، وستكون العملية صعبة حتى بالنسبة إلى مجموعة النخبة من المستثمرين والعلماء والمهندسين والفنانين الأثرياء المستهدفين في المبادرة. لا يضمن استيفاء شروط الأهلية تلقائياً منح الجنسية الإماراتية، والقرار النهائي يعود إلى الحكومة المركزية حصرياً. ستُعهَد عملية فحص المواطنين المستقبليين إلى حد كبير إلى قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية، والتي ستُقيّم ما إذا كان المرشح قد أظهر “ولاءً” للإمارات مع القليل من الشفافية حول كيفية تحديد ذلك. على عكس البلدان الأخرى، حيث يساعد المحامون المتخصّصون الأفراد خلال عملية التجنّس، لا يوجد محامون في الإمارات يعملون في مجال اكتساب الجنسية.

يبدو أن السلطة التقديرية المطلقة للحاكم في منح الجنسية تؤكد من جديد وجهة النظر العامة التي تتبنّاها حكومات دول مجلس التعاون الخليجي بأن الجنسية هي تنازل من جانب واحد من قبل الملك أو الأمير لرعاياه. في هذا الإطار، ليست حقاً ممنوحاً للأفراد، ولكنها هدية، أو كما تصرّ زهرة بَبَر، “إمتيازٌ يُمنَح لعددٍ قليل”. أياً كان النظام الذي تم إنشاؤه لمبادرة المواطنة الجديدة هذه (على سبيل المثال، نظام الحصص أو غيره من الترتيبات المؤسسية)، ما هو مؤكد هو أن هذا الجهد، على حدّ تعبير أدفاني، “جزء من عملية أوسع للمركزية، والتي تحدث غالباً في أثناء الأزمات”.

لذلك فإن إصلاح المواطنة في الإمارات هو أقل ثورية مما قد يبدو للوهلة الأولى. وهو يتناسب مع السرد الإماراتي للتسامح الذي ترعاه الدولة ويؤكّد استمرار اتجاهين يميزان الخطاب السياسي لدولة الإمارات: منح الجنسية باعتباره امتيازاً أحادي الجانب من أعلى إلى أسفل، قائماً على “الترشّيح الحكومي” والتطور والنجاح الاقتصادي للمواطنين الإماراتيين كأولوية للدولة، مع تمديد الجنسية لفئة معينة من المغتربين فقط للحفاظ على هذا النظام.

لا بدّ أن يواجه المسؤولون الإماراتيون تحديات كبيرة في الموازنة بين الحاجة إلى جذب المغتربين لدفع عجلة التنمية والتنويع الاقتصادي مع الحفاظ على المكانة المرتفعة والحصرية للمواطنين الإماراتيين، الذين يعارضون بشدة أي تعديل تنازلي. على الرغم من أن هناك مَن لا يتّفق مع مبادرة المواطنة الجديدة، كما يشير كراين، فإن “سلبيات الحفاظ على دبي كمدينة مؤقتة أسوأ بكثير”.

  • عمّار الحلّاق هو مراسل “أسواق العرب” في “أبو ظبي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى