أداة موسكو الديبلوماسية الجديدة

بعد مبادرة أستانا، ها هي روسيا  تقدم مع تركيا وقطر مبادرة ثلاثية بشأن سوريا، لكن هل تنجح هذه المبادرة حيث فشلت كل سابقاتها؟

الرئيسان فلاديمير بوتين وبشار الأسد: الأول يفعل كل ما في وسعه لإعادة الشرعية الإقليمية والدولية للثاني

يزيد صايغ*

في 11 آذار (مارس)، أعلن وزراء خارجية روسيا وتركيا وقطر إطلاق “عملية تشاور ثلاثية جديدة” للمساعدة على تحقيق “حلٍّ سياسي دائم في سوريا”. وجدّد بيانهم المشترك التأكيد على المبادئ المعيارية التي يوجد إجماعٌ دولي عليها لإنهاء الصراع السوري. ولم تُضف الأطراف شيئاً جديداً صريحاً، سواءً في شكلِ طرائق سياسية أو عملية.

أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الإطار الثلاثي الأطراف سيُكمِل عملية أستانا التي انطلقت في كانون الثاني (يناير) 2017 بدلاً من استبدالها — أو استبدال مسار مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي واللجنة الدستورية السورية التي تم إنشاؤها لاحقاً. على مسارٍ مليء أصلاً بالمبادرات الديبلوماسية، والعديد منها مات والبعض الآخر في غرفة العناية الفائقة، ما هو الغرض من أخرى، خصوصاً وأنها تفتقر إلى التفاصيل؟ ولماذا الآن؟

إن تحليل البيان المشترك والردود التي قدمها وزراء الخارجية الثلاثة في مؤتمرهم الصحافي الرسمي في العاصمة القطرية الدوحة لا يُلقي سوى القليل من الضوء.  لقد أكدوا التزامهم الجماعي بوحدة أراضي سوريا وإطار التسوية السلمية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254 وبيان جنيف لعام 2012، كما أكدوا دعمهم لمكافحة الإرهاب وجهود اللجنة الدستورية والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، والعمل على زيادة المساعدات الإنسانية، ومواجهة جائحة كوفيد -19، والمساعدة على عودة اللاجئين والنازحين داخلياً، وتأمين إطلاق سراح المعتقلين – وخصوصاً النساء والأطفال وكبار السن.

كل هذا كان كلاماً مُصاغاً بعناية تماماً. كانت ترويكا أستانا –روسيا وتركيا وإيران—جدّدت إلتزامها بالعديد من المبادئ الأساسية نفسها قبل أسابيع فقط. حقيقة أن الترويكا أصدرت هذا التجديد بعد جلسة فاشلة للجنة الدستورية –التي تم إطلاقها في كانون الثاني (يناير) 2018 وتتألف من 150 ممثلاً عن المعارضة السورية والحكومة والمجتمع المدني– تؤكد على ركود الديبلوماسية الدولية.

إذن ما الذي تريده روسيا من المنصّة المشتركة الجديدة؟ ما الذي تُقدّمه هذه ولا تُقدّمه المحادثات الثنائية أو المساعي الديبلوماسية الروتينية؟ كما هو الحال في السياسات السوفياتية في حقبة الحرب الباردة، يُمكن استخلاص الكثير مَن الذي ظهر في التشكيلة الرسمية ومَن الذي تمّ استبعاده: مع وجود إيران في ثلاثية أستانا، فإن إدراج قطر في المبادرة الثلاثية أمرٌ مهم. وهنا، فإن الهدف الروسي المُحتَمل هو تخفيف المعارضة ضد نظام الأسد في المنطقة وتوسيع الدعم الخليجي لإعادة الحكومة السورية إلى جامعة الدول العربية، بانياً على الدعوات الأخيرة التي أطلقتها الإمارات العربية المتحدة للقيام بذلك.

إلى جانب الحدّ من الوضع السياسي والديبلوماسي المنبوذ لنظام الأسد، يكاد يكون من المؤكد أن الهدف الرئيس لروسيا هو تحسين وصول سوريا إلى الأسواق الخارجية، والسلع المطلوبة، والائتمان. كان هذا الأمر هدفاً مهمّاً خلال العامين أو الثلاثة أعوام الماضية، حيث أطلقت موسكو خلالها دعوات للحصول على تمويل دولي لإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم. وقد أدّى التدهور السريع للأوضاع في مناطق سيطرة النظام والإنهيار الشديد في قيمة الليرة السورية إلى زيادة الحاجة الملحّة إلى التخفيف. ومع ذلك، تفتقر روسيا إلى الوسائل اللازمة لتمويل إعادة الإعمار الاقتصادي والتعافي، وقد فشلت في حشد الدعم الغربي لمبادراتها. في الواقع، لا يوجد أي احتمال لتخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية على النظام، كما اشتكى لافروف عندما أعلن عن المبادرة الجديدة في الدوحة. لذلك من المنطقي للغاية اتخاذ إجراءات في منطقة الخليج، التي كانت تاريخياً مصدراً رئيساً للمساعدة المالية والإستثمار وسوقاً للصادرات والعمالة السورية. هناك أيضاً شهية لإعادة تأهيل نظام الأسد بدأت تتجلّى بشكل متزايد في الآونة الأخيرة.

كان من الممكن أن يكون التحوّل الروسي إلى قطر بلا طائل، بل قد يأتي بنتائج عكسية، لولا استعادة العلاقات الديبلوماسية بين الإمارة ومنافسيها في مجلس التعاون الخليجي في 5 كانون الثاني (يناير) الماضي. وحتى الآن، فإن هذه المصالحة ما زالت رمزية أكثر من كونها جوهرية، في حين أن العلاقات المُحسّنة بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية مع تركيا هي في أحسن الأحوال وليدة. لكن إدخال قطر وتركيا، وهما الفاعلان الإقليميان الوحيدان اللذان لا يزالان مُلتزمَين صراحةً بالمعارضة السورية، في مبادرة تهدف إلى إنقاذ نظام الأسد يستغل نافذة الفرصة ويجعل من السهل توسيع الدعم الخليجي لإعادة التأهيل السياسي والاقتصادي لهذا الأخير. مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية السورية (بعد أسابيع)، قد تحسب روسيا أيضاً أن أي شيء يُضفي الشرعية على حكم بشار الأسد سيُوفّر غطاءً مُفيداً لتحسين العلاقات مع الخليج.

بطبيعة الحال، عندما يتعلق الأمر بدول مجلس التعاون الخليجي، فإن الكثير يتوقّف على ما إذا كان هناك دور لإيران وما هو وهل يلائمها. لا تُعارض المملكة العربية السعودية استعادة العلاقات مع الحكومة السورية، وقد انخرطت بنشاط مع روسيا بشأن سوريا، لكنها تريد أيضاً أن يُقلّل الأسد ويُخفِّض علاقاته مع إيران فى المقابل. من جهتها رحّبت الخارجية الإيرانية بالبيان الثلاثي الصادر في الدوحة، واصفةً إياه بأنه “مبادرة لمساعدة مسيرة أستانا”. وهذا أمرٌ مُثيرٌ للسخرية، حيث يبدو أن هذه العملية في حالة تدهور نهائي. وثبت عدم فاعليتها في استباق التوغل التركي في شمال شرق سوريا في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 أو المواجهة الواسعة النطاق في شباط (فبراير) 2020 بين مراقبي الهدنة الأتراك المُنتشرين في محافظة إدلب السورية والقوات الموالية للأسد، التي دعمتها الطائرات الروسية جزئياً خلالها.

تم تقليص عملية أستانا إلى مداولات بطيئة للغاية في اللجنة الدستورية، التي اجتمعت وجهاً لوجه خمس مرات فقط منذ العام 2018. وعاكساً ذلك والقيود المفروضة على دورها، أبلغ المبعوث الخاص للأمم المتحدة غير بيدرسن مجلس الأمن في 9 شباط (فبراير) بأنه لا “المسار الدستوري أو أي مسار آخر” في عملية السلام “سوف يمضي قُدماً حقاً” في ضوء الغياب المستمر للثقة والإرادة السياسية للتوصّل إلى حلٍّ وسط.

لكن عملية أستانا المُتعثّرة تكشف الكثير عن النهج الروسي والتفكير الذي ربما يكمن وراء المبادرة الثلاثية الجديدة. من ناحية، توفر المبادرة أداة ديبلوماسية إضافية في يد روسيا بدلاً من أن تُمثّل بديلاً من أستانا. من ناحية أخرى، من المرجح أن يسير الأمر بالطريقة عينها: إطار أستانا لم يمنع قوات النظام من استعادة ثلاث من أصل أريع “مناطق خفض التصعيد” التي أنشأتها أستانا في كانون الثاني (يناير) 2017. وبالطريقة نفسها، ستسمح مبادرة الدوحة لروسيا ونظام الأسد جني المكاسب من دون تحقيق تغيير سياسي حقيقي في سوريا.

  • يزيد صايغ هو زميل أول في مركز مالكولم إتش كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يقود برنامج العلاقات المدنية العسكرية في الدول العربية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @SayighYezid

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى