الفسادُ المُنَظّم، مشكلةٌ قديمة وذهنية متأصلة

يُعتَبَرُ الفساد آفة العصر لأنه متغلغل في شرايين كل دول العالم، ولكن بدرجات مختلفة ومتفاوتة. ومن أبرز أشكاله إستغلال المنصب ونهب المال العام والتهرّب الضريبي والرشوة والمحسوبية. ويُعَدُّ الفساد أحد أبرز عوائق القضاء على الفقر في الدول العربية وخصوصاً لبنان.

الفساد في العالم يُكلّف حوالي تريليوني دولار سنوياً، حسب صندوق النقد الدولي

 

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

من المُسلّم به أن ظاهرة الفساد ليست جديدة على المجتمعات البشرية، وهي ظاهرة عرفتها وتعرفها حالياً دولٌ ومجتمعات كثيرة، ويُعاني بعض هذه المجتمعات من آثارها السلبية المُدَمّرة. والفساد حسب أبسط تعريفاته هو أخذ المال العام وجعله خاصاً، أو هو التسبّب بهدر المال العام، أو الإستفادة من الوظيفة العامة للفائدة الشخصية أو لفائدة جماعةٍ مُعيَّنة. وأشكال الفساد عديدة يُمكن اختصارها في: الرشوة، الإبتزاز، سرقة الأموال العامة، إنتهاك القوانين ومخالفتها، قبول الهدايا والإكراميات والمكافآت، منح العقود والصفقات، مُحاباة الأقارب والأصحاب والأصدقاء، إقامة مشروعات وهمية، التزوير في تحصيل الضرائب، التدخّل في مجرى العدالة والرقابة، الإحتكار ورفع الأسعار، التلاعب بالرواتب والأجور….

وظاهرة الفساد كإحدى نتائج المواجهة أو التناغم بين المال والسلطة، أصبحت تُهدّد الإستقرارَ السياسي والإداري والإجتماعي لأكثر الأنظمة السياسية مما حدا بالأمم المتحدة، منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى استنفار أجهزتها لمواجهة هذه الظاهرة العالمية، والسعي إلى إيجاد الوسائل الكفيلة بمكافحتها والوقاية منها. ففي تقرير صادر عن الأمم المتحدة في العام 1989 جاء ما حرفيته : “لقد أصبحت مشكلة الفساد في الحكومة مشكلة عالمية، وأخذت تُشكّل عامل قلق. وأصبحت الدول تولي الأولوية القصوى لتطوير الترتيبات والإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الحكومات لتخفيض درجة الانحراف في السلوك الرسمي للمسؤولين والحدّ من تصرفاتهم التي تدفع بالمؤسسات إلى الوقوع بين براثن الفساد. وقد قامت معظم الدول باتخاذ خطوات واسعة لتحسين وتطوير الإجراءات القانونية والادارية لمعالجة الفساد ومحاصرته”.

أسباب الفساد

أما أهم أسباب الفساد فهو اهتزاز نظامِ القِيَم في المجتمع ونقص مستويات الوعي والمعرفة، ثم تأتي مسألة الفقر والجهل والجشع والمحسوبية وعدم الكفاءة، هذا الى جانب تناقض مصالح السياسيين، والثغرات التي تحتويها القوانين والتي يُمكن استغلالها بسهولة.
والفساد كظاهرة لا يرتبط بنظامٍ سياسي مُعيّن، غير أن الأنظمة الإستبدادية والبيروقراطية هي الأكثر إنتاجاً للفساد بكل أشكاله، كما إن الدولة الضعيفة ببنيتها القانونية والمؤسساتية تولّد الفساد وتحمي الفاسدين. وسواء أكانت الدولة غنية أم فقيرة الموارد، فإن الفساد يتولّد ليس بسبب وفرة أو ندرة الأموال بل بسبب أمورٍ أُخرى أهمها انهيار نظام القيم وغياب المحاسبة.

وإذا كان الفساد لا يرتبط بشكل معيّن بنظام الحكم، فإن مواجهة هذه الظاهرة تختلف من مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى دولة أخرى. ففي المجتمعات الغربية بشكل عام التي تملك درجةً معيّنة من الوعي السياسي، يتحوّل الحديث عن الفساد إلى أداةِ ضغط على الفاسدين تدفعهم الى الاستقالة من مراكزهم، وإلى الخضوع لتحقيقات قضائية مع ما يرافقها من أحكام صارمة.

أما في المجتمعات المُتخَلّفة بشكلٍ عام، ولبنان منها، فإنها تشهد طفرات إصلاح، إداري وسياسي، يرافقها ضجيج إعلامي، بحيث لا يشكل الحديث عن الفساد أداة ضغط لإحداث تغيير عميق، وغالباً ما ينتهي الأمر بتسويات بين الفاسدين أنفسهم تكون على حساب الوطن والمجتمع.

إستقالات وانتحار

في الولايات المتحدة الأميركية تم التشهير بنانسي ريغان، زوجة الرئيس السابق رونالد ريغان (1981 – 1989)، لأنها استغلّت موقعها كسيدة أولى في البيت الابيض من أجل استعمال هدايا قيّمة وامتلاكها، وهي عبارة عن ملابس وحلى؛ كذلك أُثيرت ضجّة كبرى حول حلاقة الرئيس الاميركي بيل كلينتون شعره في المطار مما أدّى الى تعطيل حركة الطيران؛ واستقال أحد كبار مساعدي الرئيس الأميركي السابق جورج بوش (1989 – 1993) لأنه استعمل طائرة رسمية في رحلة خاصة. وانتقدت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (1979 – 1990) خلفها جون مايجور لأن زوجة الأخير وضعت على عنقها عقداً ماسياً كان أُهدي لتاتشر أثناء وجودها في منصب رئاسة الحكومة. واعتبرت تاتشر أن استعمال العقد هو من حقّ الشخص الذي يشغل هذا المنصب شخصياً وليس من حق زوجته. ولا ننسى انتحار رئيس الوزراء الفرنسي بيار بيريغوفا (1 أيار/ مايو 1993) بسبب الفضيحة التي تحدثت عن استغلاله لمنصبه من أجل الحصول على قرضٍ قيمته مليون فرنك فرنسي بفائدة رمزية. ومن الإستقالات التي شهدتها دولة غربية بسبب الفساد كانت في إيطاليا حيث استقال رئيس الوزراء سيلفيو برلوسكوني بعد اتهامه بالضغط على القضاء واستغلال منصبه لتبرئة شقيقه من تهم موجهة اليه. وقبل أسابيع حُكم على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بالسجن ثلاث سنوات بسبب الفساد.

لبنانياً: الفساد متأصّل

لبنانياً، لم يكن الحديث عن الفساد حديثاً نافراً في أية مرحلة من المراحل والعهود. فهو أصبح سلوكاً مُتاًصّلا في حياة اللبناني، أو لنقل ذهنية غالبة ومقبولة، والأسباب كثيرة. فمنذ الاحتلال العثماني برزت ظاهرة بيع وشراء المناصب والمراكز الحكومية وتعوَد الناس عليها وعاشوا معها وأصبحوا يألفونها ويُفاجَؤون بغيابها. فوالي كلٌّ من دمشق أو عكا أو صيدا كان يبيع المنصب للأمير أو الإقطاعي الذي يدفع له المبلغ الأكبر من المال. وكان القناصل يدفعون للذين يخدمون مصالح الدول الاجنبية أكثر من غيرهم. وتضخّمت ظاهرة شراء وبيع المراكز إلى حدّ الكتابة على قبر، واصا باشا، أحد المتصرفين الذين حكموا جبل لبنان في نهاية القرن التاسع عشر: “رنّوا الفلوسَ على بلاطِ ضريحه وأنا الكفيلُ لكم بردِّ حياته”.

وروائح الفساد والرشوة لم تكن غائبة عن الانتداب الفرنسي، ولا عن غالبية العهود الاستقلالية وصولاً إلى أيامنا الحالية، من دون أن ننسى سنوات الحرب الأهلية وما رافقها من بيع وشراء لكل المراكز والمناصب ولغالبية القِيَم والشعارات الوطنية. إن ظاهرة بيع وشراء المراكز كأبسط تعبيرٍ عن الفساد بعناوينه المختلفة أحدثت حالة طلاق مُتأصّلة بين المواطنين والدولة. فمنذ العهد العثماني لم تكن الدولة تعمل من أجل الخير العام بل لمصلحة الولاة والأمراء والإقطاعيين وكبار الموظفين. والأمر عينه كان سائداً في مرحلة الإنتداب الفرنسي. ومَن يقرأ مراسلات سفراء فرنسا وبريطانيا المحفوظة في أرشيفَي الدولتين يكتشف الكثير من “مواهب” السياسيين الذي حكموا لبنان منذ بداية القرن الماضي. لقد تأصّل شعورٌ عند المواطن اللبناني بأن الدولة عدوٌ وليست صديقاً أو إنه جزءٌ منها، كون نشاطها كان في أغلب الأحيان يهدف الى تحقيق مصالح الحاكمين والمسؤولين في الدرجة الأولى وليس مصلحة الشعب. وما كان هذا الشعور ليتعمّق لولا ممارسات المسؤولين على مختلف المستويات، وفي كل العهود، التي كانت تصبّ في خانة تحقيق المنافع الشخصية لهم ولأتباعهم ولأزلامهم وزبانيتهم. هكذا استغل الحاكمون السلطة الى أبعد الحدود، واضطر المحكومون، أو الناس المغلوب على أمرهم، مُكرهين إلى رشوة الحاكمين وموظفيهم لتأمين حصولهم على الخدمات المطلوبة.

مُوَظَّفُ الزعيم

في ظلّ الذهنية السائدة والمُترَسِّخة على مستوى السلطة في لبنان، لا ُيمكن للفرد أن يحصل على وظيفة كفرد، بل عليه أن يكون جزءاً أو عضواً فاعلاً في طائفة معينة أو في ميليشيا طائفة معينة أو ينتمي الى مزرعة زعيم معيّن. لذلك لم تعد تحصل المنافسة بين أفرادٍ إلّا في حالات نادرة (كما كان يحصل في ستينات القرن الماضي حيث شكلت المباريات أحد المداخل المهمة للوظيفة)، بل تحصل بين حصص الطوائف والمذاهب والزعماء. ولكي يحصل الفرد على المركز الذي يطمح اليه، عليه التقرّب من القوى الفاعلة، (أو من الفعاليات) في الطائفة والسلطة، وعليه أن يُخضِعَ وظيفته لمصالح الجماعة التي ساعدته على الوصول إليها. وأكثر ما يُغضِبُ الزعيم أو السياسي عندما يقوم أحد أزلامه أو موظفيه (موظف الدولة) بإسداء خدمة مباشرة إلى مواطن من دون معرفة الزعيم أو حضوره المعنوي أو الشخصي.

وضمن هذه التركيبة الإدارية يُصبح الموظف موظفاً عند جماعته في مواجهة موظفٍ آخر ينتمي ويعمل عند جماعة أخرى، وتتحوّل الدولة إلى مجموعة جماعات مُتناقِضة في أغلب الأهداف بدل أن تكون مجموعة أفراد متعاونين في وطن. وفي هذا الإطار يشعر المواطن بقهرٍ وإذلالٍ كلّما توجّه إلى مؤسسة تابعة للدولة. فالموظف ليس في خدمة المواطن، إنه في خدمة مرجعيته التي تَجيُر أجهزة الدولة على تأمين مصالحها. يذهب المواطن إلى أي إدارة حكومية حاملاً معه مشاعر الخوف والقلق إذا لم يكن مُسلّحاً ببطاقة توصية من مرجعية ما، أو إذا لم يكن يعرف موظفاً ما. والمواطن الذي يدخل أعزلَ من هذه الأسلحة إلى إدارة رسمية، عليه أن يدفع الرشوة المطلوبة منه بدون أن يرفع رأسه. عليه أن يتعامل مع الموظف الفاسد ويخضع له مُستسلماً كما يستسلم الإنسان للقضاء والقدر.

شراكة في الإفساد

تراكم الفساد خلال العهود المختلفة في ظل غياب المُحاسبة. فالحكام الفاسدون ما كانوا ليسمحوا بأن يُحاكمهم المحكومون، كما إن المحكومين، الذين خضعوا ووافقوا، واعتمدوا أساليب الرشوة لتسيير أعمالهم، ما كانوا ليهتموا بمحاسبة الحكام الفاسدين بعدما أصبحوا شركاءهم في الفساد والإفساد.

هكذا تحوّل الفساد أسلوباً يعتمده الحاكمون والمحكومون. “برافو عليه، عرف يظَبّط حالو” أو “حمار فات على الوظيفة نضيف وطلع نضيف” و “الشاطر ما بيموت”، عبارات تتكرّر على ألسنة كثيرين لتبرير ظاهرة الفساد. حتى أننا بتنا نعيش في مجتمع يُشرعِن الفساد ويُنظّمه ويحميه وفق آلية مُحكَمة تبدأ بالموظف الصغير وتنتهي بالمسؤول الكبير. وعندما تغيب قاعدة الثواب والعقاب، وتغيب قواعد المحاسبة والمفاضلة والجزاء… يذهب الصالح بجريرة الطالح وتختلط المفاهيم والقيم ويُصبح الفاسد والمُرتشي والسارق رموزاً للنجاح بعد تولي السلطة والمسؤولية.

المواجهة لبناء المستقبل

هل نيأس؟ بالطبع لا. فإذا كنا نطمح إلى بناء وطن يحتل موقعاً مميزاً على خارطة المنطقة ويستطيع مواجهة الأزمات والتحديات، علينا أن نبدأ بمحاربة الفساد وبكشف أبطاله ورموزه، وبالتصدّي للفاسدين والدعوة إلى محاسبتهم ومعاقبتهم، مع التزام أعلى درجات الشفافية والنزاهة والنظافة من جانب المُصلحين في سياق المواجهة مع عصابات الفساد والإفساد. ففي العام 1953 وُضِعَ قانونٌ لمحاربة الإثراء غير المشروع ولكنه لم يُطبّق. فمَن مَنَعَ تطبيقه؟ هل منع المواطنون الشرفاء تطبيق هذا القانون؟ ومَن هم الذين استفادوا من عدم تطبيقه؟ لقد جرت  محاولات عدة لتطهير الإدارة ومحاسبة الفاسدين في عهودٍ مختلفة، ولكنها انتهت إلى تأصيل الفساد بدل استئصاله من جذوره. ولم تكن الصحوة التشريعية التي شهدناها خلال الأشهر الماضية (بعد انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019) حول رفع السرية المصرفية والإثراء غير المشروع والتدقيق الجنائي واستعادة الأموال المنهوبة وغير ذلك، إلّا محاولة لتهدئة الرأي العام واستيعاب نقمته بعد دخول لبنان نفق الانهيار المظلم. لقد أضاعت العصابة السياسية – المصرفية الحاكمة من خلال ارتجالها وعشوائية قراراتها بقايا الثقة والأمل لدى المواطنين ببناء دولة القانون والمؤسسات وأظهرت حقيقة رموز هذه العصابة الذين يُبشّرون بالطهارة والنظافة كل يوم ويذرفون دموع التماسيح على جوع الللبنانيين وأمعائهم الخاوية.

إن مُعالجة ظاهرة الفساد يجب ألّا تتوقف، وعليها أن تبدأ بتوعية المواطنين على قِيَمٍ ومبادىء وقواعد سلوك نقية صالحة وخيّرة وأخلاقية. كما أنه لا بد من تأهيل ومحاسبة حقيقيين للذين يُرشّحهم المجتمع لتولي مسؤوليات سياسية وإدارية وعلى رأسهم القضاة. فمن غير المقبول أن يصبح تاجر المخدرات والمجرم أو السارق مسؤولاً في الدولة، ومن غير المقبول أن يسمح القانون لمن دمّروا الدولة ومؤسساتها وقتلوا ونكّلوا بالأبرياء أن يتولّوا إعادة بنائها. وعلى الشرفاء من اللبنانيين أن يستمروا في النقد والصراخ ويجب ان لا تهدأ أصواتهم كي لا يرتاح الفاسدون ويتنعّموا بما سرقوا ونهبوا.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى