تَبادُلُ رسائل أو مُفاوضاتُ العَودةِ إلى الإتفاق  النووي؟

بقلم الدكتور ناصيف حتي*

لم يَكُن مُفاجئاً، لا بل كان مُتَوَقَّعاً، أن لا تكون سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في الشرق الاوسط — وبالأخص في “الملف” الأميركي الأهم لانعكاساته الإقليمية المُتعدّدة، وهو الملف الايراني– استمراراً لسياسة إدارة دونالد ترامب. السياسة التي قامت على المواجهة والتصعيد، خصوصاً على مستوى الخطاب، من دون أن تأتي  بالنتائج التي تمنّاها أو انتظرها المؤيدون لتلك السياسة، ”سياسة الضغوطات القصوى”. كما من المُنتَظر، وهنالك العديد من المؤشرات على ذلك، أن لا تكون هناك عودة إلى السياسة “الأوبامية“ التي اعتبرها منتقدوها أنها واحدة تقوم على التكيّف غير المشروط، أو سهل الشروط، تجاه البرنامج النووي الإيراني، فيما اعتبرها مهندسوها أنها تقوم على استراتيجية الإنخراط الديبلوماسي مع الخصم.

هناك جملةٌ من التطورات والمُتغيّرات الشرق أوسطية والأميركية والدولية دفعت بالإدارة الجديدة إلى الحديث عن أهمية الاستفادة من دروسٍ استخلصتها من السنوات الماضية، منذ توقيع الإتفاق النووي، “لتعزيز” هذا الإتفاق .كما تهدف، الى جانب ذلك بالطبع، إلى إدراجِ مَلَفَّين آخرَين إلى جانب الملف النووي يحظيان بدعمِ أصدقاء وحلفاء واشنطن على الصعيدين الدولي والإقليمي، وهما ملف الصواريخ الباليستية الإيرانية والدور الإيراني في المنطقة. ولا يعني ذلك وجود قرارٍ أميركي حاملٍ لخطةٍ حول كيفية إحداث هذا الربط، وبالتالي لا توجد استراتيجية اميركية-غربية مُشترَكة حتى الآن (الاطراف الغربية الثلاثة :فرنسا، بريطانيا، ألمانيا وأيضاً الإتحاد الأوروبي) حول هذا الأمر.

في لُعبةِ العصا والجزرة  المُستمرّة، تقوم إيران  بتخصيب اليورانيوم الى مستوى العشرين في المئة، وإذا لم يحصل أيّ تطورٍ إيجابي من وجهة نظرها -الأمر الذي يعني عودة الولايات المتحدة الى الإتفاق- “قد” تستمر بالتخصيب للمستوى الذي يسمح بعد ذلك الوصول إلى “عتبة الدخول الى النادي النووي”. وخلال فترة قد تستمر إلى عام، إذا شاءت ذلك، تكون قادرة على إنتاجِ  رؤوسٍ نووية (ما يُعرَف بالخيار الياباني).

الأطرافُ الأوروبية المعنية تُحاول التوسّط بين الطرَفَين ولو عبر اجتماعٍ غير رسمي يُعقَد من أجل ذلك الهدف.  كما تدفع نحو القيام بإجراءاتِ بناءِ ثقة مُتوازِنة ومُتبادَلة وتدريجية بين الطرفين (على سبيل المثال تخفيض تدريجي للعقوبات مُقابل عودة إيران الى وقف التخصيب فوق السقف المسموح به في الإتفاق وهو ما رفضته طهران). ولكن مُقابل إعلان واشنطن رغبتها بالعودة الى الإتفاق، وافقت طهران على تمديد أنشطة التحقيق والمُراقبة التي كانت أوقفتها، لفترة ثلاثة أشهر، والتي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية كإجراءِ بناءِ ثقة تعتبره واشنطن غير كافٍ.

في موازاةِ الرسائل الديبلوماسية المُتبادَلة بواسطة التصريحات أو عبر أطرافٍ ثالثة بشأن  إحياء الإتفاق النووي، والإصرار الغربي مُقابل الرفض الايراني، من دون أيّ تحديد أميركي-غربي، على صيغة الربط بين هذه الملفات الثلاثة التي أشرنا إليها سابقاً (النووي، الباليستي والنفوذ الايراني) وكيفية تحقيق ذلك، يبقى السؤال حول مستقبل الإتفاق النووي إذا رفضت إيران إدراج هذين الملفّين الآخرَين على طاولة المفاوضات، أياً كانت  الصيغة المُقترَحة لإحداث هذا الربط، وهو أمرٌ أعلنت طهران رفضه مراراً.

وعلى صعيدٍ آخر يمتد “مسرح المفاوضات على الأرض” بين الطرَفين، تلك المباشرة وبالوكالة، من اليمن الى لبنان، وهو ككل مسرح مفاوضات في العالم، يتأثّر ويُؤثّر بالمفاوضات الجارية حول الطاولة أيّاً كانت الصيغة التي تتخذها هذه المفاوضات .

في اليمن جاء القرار الأميركي برفع الطرف الحوثي عن لائحة الإرهاب، والذي كان مُنتَظَراً من طرف الإدارة الحالية، بغية الدفع والتسريع بالحل السياسي وكأنه انتصارٌ وتغييرٌ في موازين القوى لمصلحة هذا الطرف وحلفائه. وجاء القصف الحوثي لأهدافٍ على الأراضي السعودية كرسالة في هذا السياق. وفي العراق مع التغيّرات السياسية التي قامت وتقوم بها السلطات الحالية التي تعمل على بلوَرة سياسة خارجية ناشطة و متوازنة، خارج لعبة المحاور المُكلِفة للعراق – من خلال الانفتاح على الدول العربية وتوثيق العلاقات معها و العمل على الحفاظ على العلاقات مع واشنطن والحوار مع الحلف الأطلسي- تأتي عمليات القصف لأهدافٍ أميركية في بغداد إلى جانب القصف في أربيل كرسالة واضحة لواشنطن. وأتى الردّ الأميركي “المُعلَن عنه“ رسمياً في شرق سوريا، مسرح الحرب الرئيس في الإقليم، على الحدود مع العراق، ضد ميليشيات عراقية حليفة لإيران.

وفي لبنان تبقى أزمة تشكيل الحكومة في جزء منها، وهو أمرٌ يستفيد منه بعض الاطراف، أسيرةً لرهاناتٍ خارجية حول نتائج المواجهة الإيرانية-الأميركية الراهنة، واعتماد كلّ مُكوّن سياسي لبناني على انتصارِ حليفه بالتفاهم مع الآخر، أو بانكسارِ وتراجع الآخر.

فهل يبقى الشرق الاوسط أسيرَ هذه المواجهات/المفاوضات المباشرة، وتلك التي تجري بالوكالة، للتوصّل إلى إجراءاتِ بناءِ ثقة بالتوازي، والتوصّل إلى إعلانِ نيّاتٍ بغية الذهاب إلى ما سمّاه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن ”تعزيز الإتفاق ومدّ فترته الزمنية” ومناقشة موضوع الصواريخ الباليستية والأنشطة الإيرانية “المُزعزِعة للإستقرار”، حسب الوزير  بلينكن.

أخيراً يبقى السؤالُ قائماً وبرَسمِ الجميع: أليسَ أهل الإقليم من الدول العربية معنيين بشكلٍ أساس، إلى جانب القوى الدولية، بصياغة العلاقات في المنطقة والتوصّل إلى بلوَرة “مُدوّنة سلوك” تُنظّم وتحكم العلاقات بين الدول بغية بناء نظامٍ إقليمي “دولتي” طبيعي كبديل من نظام الفوضى الإقليمية القائم حالياً؟ أم يبقى العالم العربي مسرحاً استراتيجياً لصراعات الآخرين بشعارات مختلفة؟!

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا، والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى