عندما يلعبُ النظامُ سياسةً مع الفقر: استراتيجية السيسي للَقاح كوفيد -19

فيما يتسابق العالم للتحصين ضد كوفيد-19، يُخطط نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر للإستفادة والربح من جرعة اللَقاح الأساسية.

الرئيس عبد الفتاح السيسي: نظامه الصحي طبقي.

بقلم ماجد مندور*

قرّر نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي بَيع الجزء الأكبر من لَقاحات كوفيد-19 التي اشترتها الحكومة، بدلاً من توفيرها مجاناً. سيتم بيع لَقاح “أسترا زينيكا” (Astra Zeneca) المُكَوَّن من جرعَتين مُقابل 100-200 جنيه مصري، على الرغم من أن تكلفة الجرعة الحكومية تُكلّف 47 جنيهاً مصرياً فقط. من إجمالي عدد السكان البالغ 103 ملايين نسمة، سيتم توفير اللقاح مجاناً للعاملين الطبيين – 445,000 طبيب على الأقل – بالإضافة إلى أعضاء برنامج الدعم الإجتماعي الحكومي، “الكرامة والتضامن”، نحو 15 مليون شخص في نهاية العام 2020 .

يبلغ معدل الفقر حالياً في مصر حوالي 29.7٪ – ما يقرب من 30.5 مليون شخص- وعلى الأقل هناك 15 مليون مصري لن يتمكّنوا من تحمّل تكلفة اللقاح. يُعرَّف خط الفقر بأنه دخلٌ لا يتجاوز 735 جنيه مصري (أو أقل) في الشهر، ما يجعل مبلغ 100 جنيه مصري دفعةً لا يستطيع معظم الفقراء المصريين تحمّلها. سوف تستهلك جرعتان من اللَقاح ما بين 13 إلى 27 في المئة من دخلهم الشهري – بافتراض أنهم يعيشون فوق خط الفقر بقليل، وهو افتراضٌ متفائل.

وصلت التكاليف البشرية لـكوفيد-19 إلى نقطة تحوّل في مصر. تُقدر أرقامٌ غير رسمية عدد الوفيات المصرية المُرتبطة بـالفيروس بين أيار (مايو) وتموز (يوليو) 2020 ب60 ألف شخص. تم احتساب هذا الرقم من خلال مقارنة مُعدّلات الوفيات بين العامين 2019 و2020 لفترة الثلاثة أشهر عينها. إن استراتيجية اللَقاح التي تُخطط الحكومة لتنفيذها لا بدّ أن تخلق فصلاً عنصرياً قائماً على الطبقية من حيث الوصول إلى اللقاح، حيث من المُحتمل أن يزيد الوفيات المُرتبطة بكوفيد-19 بين الفقراء. حتى الآن، تمّ إسكات ردّ الفعل الشعبي على البيع المُخطط للقاح الأساسي، باستثناء دعوى قضائية رفعها محامي حقوق الإنسان خالد علي في محاولة لإجبار الحكومة على توفير التطعيم مجاناً لجميع أفراد الشعب.

إن قرارَ النظام بعدم تقديم لَقاحات مجانية له جذور عميقة في الاقتصاد السياسي في مصر. بالتحديد الإاعتماد الشديد على الديون لتمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة ذات الفوائد الاقتصادية المشكوك فيها. إلى جانب ضعف القاعدة الضريبية، فإن هذا الإعتماد يضع قيوداً واضحة على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المُتعلّقة بالديون وتمويل الإستجابة للأزمة في الوقت عينه. يتزاوج هذا الاعتماد على الديون مع السياسات الاقتصادية التي يُمليها الجيش وتعزيزه لشكلٍ عسكري من رأسمالية الدولة – ما يُضعف القطاع الخاص. وبالتالي، فإن سياسة النظام لبيع اللقاحات ليست محاولة لزيادة الإيرادات، بل هي محاولة لخفض النفقات في خضم أزمة اقتصادية مُتفاقمة.

وتواجه مصر ضغوطاً شديدة على مالية الحكومة تُقلّل من قدرتها على تخفيف تأثير الوباء بما في ذلك دفع ثمن اللقاح. سوف تتفاقم نقاط الضعف الهيكلية المصرية بسبب الانكماش الاقتصادي المُتوقّع بسبب الوباء. يفيد الخبراء أن معدل النمو الاقتصادي سيصل إلى 3.5٪ في المئة في العام 2020، بانخفاض من 5.6 في المئة في العام 2019. ومع ذلك، إذا استمرت الظروف الوبائية، فمن المتوقع أن يصل النمو الاقتصادي إلى 2.3 في المئة فقط في العام 2021. وقد أدّى هذا التباطؤ إلى زيادة الضغط على المالية الحكومية – ما أدّى إلى زيادة مستوى الديون المُتضخّمة أصلاً. من المتوقع الآن أن يصل الدين إلى 96 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية السنة المالية 2020-2021، إرتفاعاً من 90.6 في المئة المُتوَقّعة في تشرين الأول (أكتوبر) 2020. هذه الزيادة تضع ضغوطاً كبيرة على موازنة الدولة، مع تحويلات خارجية متوقعة قدرها 20 مليار دولار كمدفوعات الديون والفوائد الأجنبية. وإذا وضعنا ذلك في السياق، فإن إجمالي الإيرادات المُتوَقعة للفترة نفسها يصل إلى 1,398 تريليون جنيه مصري (89.3 مليار دولار)، وبالتالي سيتم استخدام 22 في المئة من الإيرادات الحكومية لخدمة الدين الخارجي. ستُعالِج هذه المدفوعات حوالي ثلث إجمالي الدين فقط وتتجاهل الدين المحلي، الذي يتجاوز 66.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي إعتباراً من الربع الأول من السنة المالية 2019-2020.

وتفاقم الإنخفاض في مالية الدولة بسبب الضعف المستمر في القاعدة الضريبية المصرية، حيث بلغت الإيرادات الضريبية 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي إعتباراً من أيلول (سبتمبر) 2020. وتُخطّط الحكومة لرفع هذه النسبة إلى 16.5٪ خلال السنوات الخمس المقبلة. في السياق، يبلغ المتوسط ​​الأفريقي 16.5 في المئة، مع بلدان مجاورة مثل المغرب وتونس يصل إلى 27.8 في المئة و32.1 في المئة على التوالي. إن ضعف القاعدة الضريبية يعني أن الدولة ليس لديها بديل سوى الإقتراض لتمويل عملياتها حيث يضعف الأداء الاقتصادي بسبب الوباء الذي بدوره يعمل فقط على تحويل الأموال عن البرامج الاجتماعية التي يُمكن أن تساعد على التخفيف من حدّة الأزمة، وحيث يتم تحويل جزء كبير من الإيرادات الحكومية للوفاء بالتزامات الديون والفوائد. وهذا يعني في الجوهر، خلق حلقة ذاتية الاستمرارية تعمل فقط على تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن أن يُعزى ضعف عائدات الضرائب جزئياً إلى كثرة الإعفاءات الضريبية التي تتمتّع بها الشركات الكبيرة، العسكرية والمدنية على حد سواء، والتي تُعدُّ جزءاً لا يتجزّأ من سياسة النظام المُتمثّلة في تحويل العبء الضريبي إلى أكتاف الطبقات الدنيا والمتوسطة.

في مواجهة المشاكل الاقتصادية الراسخة التي سبقت الوباء، سعى السيسي منذ فترة طويلة إلى جذب الإستثمارات الدولية لإدخال السيولة في الإقتصاد المصري. في آذار (مارس) 2015، أعلن السيسي أن مصر بحاجة إلى 200 إلى 300 مليار دولار “للتنمية”. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 ، صرح الرئيس المصري أن مستوى الاستثمار بلغ 200 مليار دولار. ومع ذلك، فإن نتائج هذه الحملة الاستثمارية الضخمة متواضعة على أقل تقدير، حيث لم يُظهر القطاع الخاص غير النفطي نمواً إلّا خلال خمسة أشهر فقط بين تموز (يوليو) 2016 حتى حزيران (يونيو) 2019. المحصلة النهائية لهذه الاستثمارات الضخمة هي زيادة المديونية فقط، وهو ما يُعيق الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات الصحية الأساسية.

تعمل مشاريع البنية التحتية الضخمة كوسيلة لتخصيص الأموال العامة لصالح النُخَب – وتحويل الموارد التي تمسّ الحاجة إليها عن تخفيف الأزمات. في خضم الوباء، يواصل النظام الإصرار على استمرار الإستثمار في مشاريع البنية التحتية الكبيرة، في وقت يعرف النمو الاقتصادي ضعفاً، ما يعمل على تعميق الأزمة. وآخر مثال على ذلك هو خط سكة حديد كهربائي عالي السرعة بقيمة 23 مليار دولار يربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط​​، والذي ستنفذه شركة سيمنس، ويمر عبر العاصمة الإدارية الجديدة التي لا تزال قيد الإنشاء والتي تبلغ تكاليفها 58 مليار دولار. تم التوقيع على الصفقة في كانون الثاني (يناير) 2021، في خضم الأزمة المستمرة.

يُعتَبَر تحويل تكلفة اللَقاح إلى السكان جزءاً من سياسةٍ أوسع تضع عبء الوباء على عاتق المواطنين. على سبيل المثال، إحدى السياسات الرئيسة للاستفادة من الأموال اللازمة لمكافحة الأزمة تم الحصول عليها، إعتباراً من تموز (يوليو) 2020، من خلال خصم 1 في المئة من رواتب موظفي الدولة و0.5 من المعاشات التقاعدية ذات الصلة لمدة عام واحد لصالح صندوق الحكومة لمواجهة الوباء. ليس من الواضح إذا كان سيتم تمديد هذا الإجراء. مؤشرٌ آخر هو المستوى الفعلي للإنفاق من صندوق ال100 مليار جنيه مصري الذي تم توفيره في نيسان (أبريل) 2020، للتخفيف من تأثير الوباء، والذي بلغ 48 مليار جنيه مصري فقط بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2020 – تم توجيه 12.5٪ فقط منه إلى قطاع الصحة. يشير مجرد 13.7 مليار جنيه مصري أنفقته الحكومة على قطاع الصحة المصري إلى مدى انخفاض سلّم الأولوية الذي وصل إليه الوباء.

إن الجذور المركزية للمشكلة ليست فقط السياسات غير المدروسة، ولكن أيضاً الطبيعة الإستبدادية للنظام. إن الدولة غير خاضعة للمُساءلة أمام الشعب المصري وقادرة على سنّ سياسات اقتصادية تزيد من إفقار عموم السكان. في خضم الوباء، لا تُظهر هذه الإجراءات سوى القليل من الإهتمام بالفقراء. لا بدّ أن يؤدي إنشاء التقسيم الطبقي للوصول إلى اللقاح إلى زيادة الغضب الشعبي بين الفقراء. إلى جانب النظام الصحي الفاشل، سيستمر الإفتقار إلى الإغلاق الوطني ودعم الدولة في دفع التكلفة البشرية لهذه السياسات. ستؤدي هذه الصدمة إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية المتفاقمة أصلاً التي تجتاح البلاد – وبالتالي – مستوى القمع المصاحب للدولة حيث يحاول النظام تعزيز قبضته وخنق المعارضة، مما يزيد من احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق واحتجاجات عنيفة.

  • ماجد مندور هو صحافي، مُحلِّل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” على موقع “أوبن ديموقرسي”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MagedMandour.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى