مُريد البرغوتي… رَحَل قبل أن يجدَ جداراً يُعلِّق عليه الشهادة

بقلم رؤوف قبيسي*

برحيل الشاعر والروائي الفلسطيني مُريد البرغوتي (77 عاماً)، يتهاوى غصن من شجرة الشعر العربي المُعاصر، وتَفقُدُ فلسطين أحد مناصريها الأوفياء. لم يكن مُريد البرغوتي شاعراً وروائياً عادياً، وما كان مُناضلاً عادياً. كان من أصحاب المبادئ الذين تشبّعت أرواحهم وأشواقهم بتراب فلسطين ونسيمها وأوجاعها.عاش قضية بلاده حتى آخر يوم من حياته الحافلة بالنضال والتشرّد. عاشها بخلجات قلبه وإرادته الصلبة، فلم يُهادن، ولم تفتنه المظاهر، ولم يتلوَّن كما فعل غيره. ليس إنشاء في غير طائل، هذا الذي أُدَوِّنه في هذه الصفحات، بل حقيقة يعرفها كلّ مَن قرأ الرجل وجَايَله واجتمع إليه. كثيرون كتبوا عن مريد البرغوتي في حياته، وكثيرون كتبوا عنه بعد رحيله، لذلك لن أكتب عنه هنا كصانع من صناّع الأدب، أتركها مهمة شاقة دقيقة لِمَن هم أكثر منّي اطلاعاً على صنيعه الشعري والروائي، وأقدر مني على تناوله كشاعرٍ في مسار الشعر العربي عامة، والشعر الفلسطيني بنوع خاص. أريد مُريد الإنسان، المُرهَف الإحساس، الجليس الطيِّب القلب الذي عرَفَته مقاهي شارغ الحمراء، وتفتقده اليوم كواحدٍ من روّادها الدائمين، كما تفتقده فلسطين التي رفع رايتها بشرف، وناضل من أجلها بشرف.

في مقاهي “الحمراء” عرفته، وفيها كان لي معه اللقاء الأخير. كان ذلك مع بداية تباشير فيروس كورونا المُريع الذي نشب أنيابه في “الحمراء”، وفرّغها من روحها وأنسها، أما لقاونا الأول فكان قبل سنوات في مجلس صديقنا الراحل الشاعر عصام العبد الله. قد تنسيني الأيام الكثير من الخيالات والذكريات التي خبرتها في تلك المنطقة من بيروت، لكني لن أنسى اللقاءات الحلوة المُمتعة التي ضمّتني بالراحلَين العزيزين على قلبي، وقلب من كان يُشاركنا تلك الجلسات الحلوة من الشعراء والكتّاب والمُثقفين.

جاءني خبر رحيل مُريد من صديقنا المشترك خليل الزين. هاتفني خليل من بيروت وأنا في مقر إقامتي الموقت في إقليم أنطاليا بتركيا، ثم سالني إذا كنت أريد أن أكتب شيئاً عن مُريد. قالها  لي من دون أن يدري كم صعبة هي مهمة الكتابة عن صديق خلوق مُهذَّب وشفّاف مثل مُريد البرغوتي. والحق أنني مهما قلت فيه أبقى مُقصّراً، والحق يعلم كم في قلبي من مودّة واحترام لهذا الرجل العاقل النبيل. أستخدم وصف “العاقل النبيل” برويِّة وإنعام نظر، وأعنيها بكل ما تكتنزه من معانٍ. كان مُريد البرغوتي نظيف القلب واليد واللسان، ومُناهضاً لكلّ الذين تسلموا مواقع القضية الفلسطينية من سياسيين ورجال دين. ثقافته العلمانية  جعلت منه مواطناً عاقلاً رزيناً، وما أكثر ما افتقدت قضية فلسطين العادلة، هذه الطبقة من العقلاء، بخلاف سفهاء من ربابنة السفينة، غيّروا مسارها لمصالحهم الشخصية، واساؤوا إليها وإلى علاقات شعبهم بالعرب والعالم!

لم يكن مُريد البرغوتي من عشرائي الدائمين، بحكم وجوده في الشرق ووجودي في الغرب، لكن المدة التي عرفته فيها كانت كافية لتبني ذلك الجسر الحميم من المودة الذي يألفه بشر يشتركون في الثقافة وفي النظرة إلى الأمور. كان يُغلّب العقل على العاطفة، رُغم ما عاناه من شجونٍ عاطفية بلغت حد الجراح. لم تقتصر معاناته على منعه من العودة إلى مسقط رأسه “رام الله” خلال ربع قرن وأكثر، بل مُنع من الدخول إلى مصر بسبب مواقفه الجريئة ضد من أمسكوا بزمام قضايا بلاده، فاضطر إلى أن يعيش حياة المنافي العربية والأوروبية، مُجسّداً هذه التجربة المُرّة في كتابه الأشهر “رأيت رام الله”، وبتلك الجملة الأثيرة “نجحتُ في الحصول على شهادة تخرّجي وفشلتُ في العثور على حائطٍ أعلِّق عليه شهادتي”.

يقولون إن الآباء لا يموتون متى كانت لهم ذرية صالحة، والقول يصح أيضاً على الشعراء والكتاب والفنانين الذي يبقون أحياء بعد الانتهاء من الجنازة، كما كتب محمود درويش في رثاء غسان كنفاني. يتركون خلفهم آثاراً تحفظ ذكراهم على مرّ الأيام والسنين، وربما على تعاقب الدهور، كل حسب النقش الذي يحفره إزميل الفنان على لوحة الزمن، وما أكثر ما ينطبق هذا القول على مُريد البرغوتي، الكاتب والشاعر والأب. الحديث عن مُريد البرغوتي يأخذني شخصياً، ويأخذ الأصدقاء من روّاد مقاهي الحمراء إلى الحديث عن ابنه الشاعر تميم البرغوتي، فقد كانا حلقتَين موصولتَين برابطة الدم والصداقة، كما الرحابنة عاصي ومنصور، اللذين لم يكن الحديث عن أحدهما يكتمل إلّا بالحديث عن الآخر. أعرف كم كبير هو مقدار الحزن الذي ملأ قلب تميم بفقدان والده، الذي لم يكن بالنسبة إليه خير أب فحسب، بل أيضاً خير رفيق درب ونديم وصديق ومُعين، خصوصاً بعد وفاة والدته الروائية والناقدة المصرية المعروفة رضوى عاشور.

يصعب على شخص مثلي أن يكتب عن مُريد البرغوتي من دون أن يذكر ابنه تميم. في ندوات الشعر كانا معاً وفي جلسات المنادمة كانا معاً. لا أُبالغ إذا قلت إني لم أرَ في حياتي شاباً عربياً له من الذكاء الفطري والذاكرة الحادّة مثل تميم البرغوتي. لم أكتب هذا الكلام من قبل، لكني قلته مرات عدة لكل الأصدقاء والخلّان الذين عرفوا الرجل وابنه. ألمّ تميم ببحور الشعر كلها، وحفظ ألفية ابن مالك، وحفظ أشعاراً يصعب إحصاؤها من الشعر العربي القديم، ولا أذكر من تلك الجلسات الغنية التي كانت بيننا في “الحمراء” أن نسي أحد من الجلساء عجز بيت شعر من صدره إلّا وسأل تميم، ونال منه مراده. أكتب عن تميم بصيغة الماضي، لأني لم اره منذ نحو سنة. كان تميم يدهشني بسعة اطلاعه على التاريخ العربي والعالمي، وتمكنه من اللغة الإنكليزية، قراءة ونطقاً وكتابة، وحفظه طائفة واسعة من أعمال شكسبير بلغتها الأصلية، كما أدرك اللغة الهنغارية وأتقنها بحكم السنوات التي أمضاها هو ووالده في المجر. لا غرابة في ذلك على أي حال، وقد نشأ تميم في بيت أدب وشعر إذ كانت والدته الراحلة رضوى عاشور قصاصة وأديبة، ترجمت أعمالها إلى غير لغة، واشتهرت بأعمالها النقدية والأدبية، خصوصاً بروايتها التاريخية “ثلاثية غرناطة” التي صدرت عن “دار الهلال” في العام 1994 وحازت عليها جوائزعدة، منها جائزة أفضل كتاب على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب.

ربما تكون قد وجدت أيها القارى الكريم أني ذهبت بعيداً في الحديث عن تميم البرغوتي وعنوان هذا المقال هو عن والده الراحل مُريد. أفهم أن يكون لديك هذا التساؤل ويُخالجك هذا الشعور، لكن لا أخفي عليك اعتقادي أن الحديث عن الإبن في هذه الحال الخاصة، هو الحديث عن الأب نفسه، علماً أن التوسّع في شرح هذه “الصلة”، أو سمّها “الإشكالية” إن شئت، قد يتطلب شروحاً لا مجال للنظر فيها في هذه السطور.  من ثم، أليس الحديث عن الكتاب هو الحديث عن المؤلف، والنظر في القصيدة هو النظر إلى الشاعر، وعليه، يكون الحديث هنا عن ربيب الرجل هو الحديث عن الرجل نفسه، خصوصاً أنهما في مملكة الشعر والأدب ثالوث لا تنفصل عراه.

أعود ألى الراحل مُريد البرغوتي ولا أعرف من أين أبدأ، وأترك قصة حياته وإنجازاته يتطلع عليها القارىء الشغوف على شبكة المعارف “الإنترنت”، وأكتفي بما سردته عن الرجل من انطباعات شخصية، لأن شخصية مُريد من أجمل وأغنى الشخصيات الفلسطينية التي يجب أن تُدَرَّس، ليس في مجال علوم الآداب والفنون وحدها، ولا في مجال العلوم  السياسية وحدها أيضاُ، بل في رحاب أوسع تتصل بالعلوم الإجتماعية والإنسانية، ومنها علم النفس خاصة. في هذه الرحاب تساعدنا سيرة الراحل، وما يكتنفها من تجارب غنية مثيرة، على النظر في قضية فلسطين من الناحية الإنسانية البحتة، المُجرَدة من كل صنوف العمل السياسي العقيم، وتقدم لنا وللعالم، مادة جدية غزيرة في طريق البحث عن حلٍ عادل لشعب مُشرَّد، ما زال منذ النكبة إلى اليوم، يُعاني الحرمان من عيشٍ كريم في كيانٍ قومي ودولة مستقلة.

  • رؤوف قبيسي هو كاتب وصحافي لبناني.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى