التَطرّف اليميني يتصاعَد، وكذلك الجهادية

بقلم ميشال مظلوم*

وقعت ستّ هجمات إرهابية مُنفصلة في أوروبا بين أواخر أيلول (سبتمبر) وأواخر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الفائت – ثلاثٌ في فرنسا وواحدة في كلّ من ألمانيا والنمسا وسويسرا. جميع هذه الهجمات مُستوحاة ومُستَلهَمة من الإيديولوجية السلفية الجهادية، والتي يبدو أنها ستبقى تهديداً إرهابياً مُستَمرّاً لأوروبا وأماكن أخرى في الغرب في المستقبل المنظور.

ومن بين الحوادث التي وقعت في فرنسا كانت “غزوة” على مكاتب مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة في باريس، التي نشرت رسوماً كاريكاتورية لشخصيات دينية بما فيها للنبي محمد، حيث قتل مُسَلَّحون تابعون لتنظيم “القاعدة” طعناً  12 موظفاً في العام 2015. بعد أسابيع لاحقة، تم قطع رأس مُدَرّس في مدرسة إعدادية يدعى “صموئيل باتي” بعد أن أظهر لطلابه رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد كجزءٍ من عرضٍ كان يُقدّمه حول حرية التعبير. وفي أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، قُتل ثلاثة أشخاص طعناً في كنيسة نوتردام في نيس. واللافت أن السلطات الأمنية لم تكن على علمٍ بأن أيّاً من مرتكبي هذه الهجمات كان من المُتطرفين أو كانت له صلات بمنظماتٍ إرهابية أجنبية مثل “القاعدة” أو “الدولة الإسلامية”.

لقد تصرّف المُشتَبَه بهم كما بيّنت التحقيقات بمحضِ إرادتهم، لكن يبدو أنهم ربطوا الأحداث المحلية بالإيديولوجية العالمية للجهاديين السلفيين، التي تدعو إلى العنف ضد غير المسلمين أو مَن يُسَمّون “بالمُرتَدّين” أينما وُجِدوا. ومع ذلك، فإن التسمية الشائعة “الذئب الوحيد” تبدو مُخادعة أيضاً، لأن المهاجمين المزعومين موجودون في جزءٍ من نظامٍ بيئي مُتَطرّفٍ أوسع. والواضح أن تصاعد الهجمات التي يرتكبها أفرادٌ ليس لديهم سجلٌّ جنائي سابق أو روابط وثيقة بجماعات إرهابية معروفة يُمثّل تحدياً كبيراً لأجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات. وهذا صحيحٌ بشكلٍ خاص في بلد مثل فرنسا التي لديها قائمة مُراقبة لأفرادٍ مُشتَبه بهم بأنهم مُتطرّفون تضم حوالي 25,000 اسم.

الهجمات الأخيرة الأخرى التي حدثت في أوروبا قام بها على الأرجح أفرادٌ من المُشتَبه بهم. في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) 2020، طعن طالبُ لجوءٍ سوري في ألمانيا يُدعى “عبد الله ال-ه. ه.” (Abdullah al-H. H.)، كان معروفاً لدى السلطات بأنه مُتَطرّف، سائحَين في مدينة دريسدِن. وكان أمضى وقتاً في السجن لمحاولته تجنيد أفرادٍ للإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”. وفي حادثة أخرى، تم اعتقال امرأة سويسرية بتهمة إصابة امرأتين خلال هجومٍ قامت به على متجرٍ في مدينة “لوغانو” الجنوبية. كانت المُتّهمة معروفة من قبل الشرطة الفيدرالية في سويسرا بسبب تحقيق أُجرته في العام 2017 عن علاقتها بشبكات جهادية.

في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، فتح مسلَّحٌ النار على الناس في وسط مدينة فيينا، ما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة 22، قبل إطلاق الشرطة النار عليه وقتله. تعرّفت عليه السلطات وقدّمته على أنه كوجتيم فيزولاي، البالغ من العمر 20 عاماً، ويحمل الجنسيتين النمسوية والمقدونية الشمالية، وكان سُجن سابقاً لمحاولته الإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”. كان فيزولاي جزءاً من شبكة من الجهاديين الذين لهم صلات في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك النمسا وألمانيا وسويسرا والبلقان. وأعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن الهجوم، رُغم أن فيزولاي، كما تبيّن، كان يَستَوحي ويَستَلهم من التنظيم وليس عضواً فيه أو تابعاً له. إن ملفّه الشخصي يُناسب ويُشبه صور “المقاتلين الأجانب المُحبَطين” الآخرين – الأفراد الذين يشنّون هجمات إرهابية في الداخل بعد منعهم من السفر إلى العراق أو سوريا أو غيرهما من مناطق القتال النشطة حيث يسعون إلى الإنضمام إلى الجماعات الإرهابية مثل “داعش”.

وشارك في الهجمات الثلاث في فرنسا أفراد من المُشتبه بهم من الخارج – وبالتحديد من باكستان والشيشان وتونس. ونظراً إلى النمو الأخير للجماعات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً في أوروبا، يُمكن أن تؤدي هذه الهجمات إلى استجابةٍ من العنصريين البيض أو النازيين الجدد أو غيرهما من المتطرفين العنيفين بدوافع عرقية وطائفية. يُمكن أن يؤدّي التطرف المتبادل – العملية التي تقوم من خلالها تنظيمات مختلفة من المتطرفين بتغذية خطاب وأفعال بعضها البعض، بما في ذلك العنف – إلى حلقة من الأعمال الإنتقامية المتبادلة.

هذا الإحتمال مُثيرٌ للقلق أكثر نظراً إلى عودة ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” أخيراً في أجزاءٍ من العراق وسوريا. إذا استمرت المجموعة في العودة هذا العام، يُمكن للجهاديين الأوروبيين بذل جهود مُتجدّدة للسفر إلى ساحات القتال في الشرق الأوسط. ولكن مع وجود إجراءات أكثر صرامة مُطبّقة الآن في جميع أنحاء أوروبا والتي تُجرّم السفر إلى الخارج للقتال مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، فقد تكون النتيجة “مُقاتلين أجانب مُحبَطين”، ما يزيد من احتمالية وقوع المزيد من الهجمات الإرهابية على الأراضي الأوروبية.

ومما يزيد الطين بلّة أن دولاً غربية عدة رفضت إعادة مواطنيها الذين يقبعون في مراكز الاحتجاز في سوريا، الأمر الذي يوفّر لجماعاتٍ مثل “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” مادةً وافرةً للدعاية لتجنيد أعضاءٍ جُدد وتشجيع المُتعاطفين مع الجهاديين على شنّ هجمات في دولهم. في مخيم “الهول” في شمال شرق سوريا، تقطّعت السُبُل ب27,000 طفل – كثيرٌ منهم أبناء وبنات مقاتلي “الدولة الإسلامية” – وصاروا في طي النسيان وعرضةً للتطرّف. وقد وصف رئيس مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، فلاديمير فورونكوف، أخيراً الوضع في “الهول” بأنه “إحدى أكثر القضايا إلحاحاً في العالم اليوم”.

بعد ما يقرب من عقدين على الحرب العالمية المزعومة على الإرهاب، نشأ إرهاقٌ مفهوم إلى حد ما بين المُحلّلين وصانعي السياسة عندما يتعلق الأمر بتحدّي الإرهاب السلفي الجهادي في الغرب. من الأهمية بمكان منع هذا التعب من التحوّل إلى حالة من الرضا عن النفس، أو السماح لوكالات الاستخبارات الغربية وأجهزة الأمن ب”المضي قدماً”، كالعادة، والإبتعاد من التركيز على التهديدات الجهادية، وتحويل الموارد والتركيز بشكل ضيّق للغاية على التطرّف اليميني. الإرهاب، على السواء من الجهاديين والمُتَطرّفين اليمينيين، يُشكّل تهديداً قوياً سيستمر في اجتياح الغرب، بالإضافة إلى أشكالٍ أخرى من الإرهاب تتسرَّب تحت السطح، بما فيها الخوف من التكنولوجيا، والعنف المُرتبط بها، وزيادة مُحتَملة للعنف اليساري المُرتبط بقضايا بيئية.

على الصعيد العالمي، يُعتَبَر النظام البيئي للعنف السياسي أكثر تنوّعاً من أيّ وقت في الذاكرة الحديثة، حيث تنبثق التهديدات من جميع المجالات. يزداد هذا الخطر بسبب روح العصر الحالية لمكافحة الإرهاب في الغرب، والتي تُركّز الآن بشكل مُكثَّف على التهديد من اليمين المُتطرّف، ما قد يسمح لبعض المؤيدين الجهاديين والمتعاطفين معهم بالمرور تحت الرادار. كندا، على سبيل المثال، صنّفت أخيراً 13 مجموعة مُنفصلة كمنظمات إرهابية، لكن وسائل الإعلام ركّزت إلى حدّ كبير على “براود بويز” (Proud Boys)، ربما بسبب صلاتها بهجوم 6 كانون الثاني (يناير) على مبنى الكابيتول الأميركي في واشنطن.

في كثيرٍ من الأحيان، تقع تقييمات التهديد ضحيةً لإمّا / أو للتأطير، مُتأثرةً جزئياً بالسياسة. لكن التهديدات يُمكن أن تتداخل وتتقارب، بل وتتلاشى في بعض الأحيان. يقع على عاتق أجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات أن تظل مُحايدة تجاه الإيديولوجية التي تُحفّز أعمال العنف السياسي، مع القيام في الوقت نفسه بكل ما هو ممكن لتحديد وفَهم هذه الإيديولوجيات.

  • ميشال مظلوم، صحافي لبناني في أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى