الجزائر: بعد عامَين من بدء الإنتفاضة الشعبية، لا يزال النظامُ بعيداً من الاستقرار

ظنّ النظام الجزائر بعد انتفاضة 2019 أن القطوع قد مرّ بتنحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وانتخاب عبد المجيد تبون مكانه، لكن يبدو أن ظنه قد خاب وأن الرياح تسير بما لا تشتهي سفنه.

 

عبد المجيد تبون: الرئيس الغائب.

بقلم فرانسيسكو سيرانو*

كان من المُفتَرَض أن يؤدّي وصول عبد المجيد تبون إلى منصب الرئاسة إلى توفيرِ درجةٍ من القدرة على التنبؤ والتوقّع للحكّام العسكريين في الجزائر. لكن منذ إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية في كانون الأول (ديسمبر) 2019، دخل النظام في مرحلةٍ جديدة من عدم اليقين. جائحة كوفيد-19، والمعارضة المستمرّة، والتقلّبات السياسية، والإضطراب الإقتصادي المُتفاقِم، أثّرت كلّها  في حسابات الأوليغارشية الحاكمة. بعد عامَين من بدء الإنتفاضة الشعبية في الجزائر، المعروفة باسم “الحراك”، عادت البلاد إلى المأزق عينه الذي علقت فيه وواجهته منذ العام 2019.

بعد سنوات من الركود السياسي، غيّرت حركة “الحراك”، التي اندلعت في شباط (فبراير) 2019 ضد محاولة الرئيس آنذاك عبد العزيز بوتفليقة للحكم ولاية خامسة، ديناميكيات العلاقة بين الأوليغارشية الحاكمة في الجزائر وسكانها. على الرغم من أنها لم تؤدِّ إلى تغييرات عميقة في الهياكل الحاكمة في البلاد، إلّا أن الانتفاضة السلمية أجبرت الجيش على إزاحة بوتفليقة في نيسان (أبريل) 2019. وعلى الرغم من استمرار المتظاهرين في التجمّع بانتظام في شوارع معظم مدن البلاد لمعارضة إشراف الجيش الراسخ واالمُبهَم، فقد استجاب النظام من خلال الآليات المؤسّسية. ومع ذلك، فقد ثبت حتى الآن أن هذه الردود لم تكن كافية لوقف الاستياء الشعبي المُتزايد.

بعد التخلّص من بوتفليقة، قاوم الفريق أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش آنذاك، أي نوعٍ من الإصلاح السياسي. واستمر في قمع المعارضة بواسطة النظام القضائي أثناء محاولته تهدئة السخط الشعبي من طريق تحديد موعد انتخابات رئاسية في نهاية العام 2019. وكان الهدف منها طي صفحة سنوات حكم بوتفليقة. لكن الكثيرين من السكان امتنعوا عن التصويت وظلوا بعيدين من صناديق الاقتراع، حيث رأوا في الخطوة ترتيباً تجميلياً وليس إصلاحاً حقيقياً للنظام الحاكم. تم إعلان فوز تبون في انتخابات كانون الأول (ديسمبر) 2019، والتي شارك فيها، وفقاً لأرقام النظام نفسه، 40٪ فقط من الجزائريين، مما منحه 58٪ من الأصوات. لكن صالح، وهو مهندس رئيس في صعود تبون للرئاسة، توفي بنوبة قلبية بعد أيام فقط من تنصيب الرئيس الجديد.

مسرحية الإصلاح

بعيداً من تلبية مطالب المُحتجّين، كان الإندفاع إلى الانتخابات الرئاسية في نهاية مثل هذا العام المُضطَرِب محاولةً لإعادة الوضع إلى ما كان عليه وتحقيق الاستقرار في النظام. ظلّ الجيش الجزائري، بالإشتراك مع الأجهزة الأمنية، وسيط القوة الرئيس في البلاد. لقد كان يختبئ دائماً خلف واجهة الحكومات المدنية ليبدو بعيداً من شؤون البلاد اليومية. لكن في الواقع، فإن الجيش والفصائل الحاكمة المختلفة اختاروا أو وافقوا على معظم رؤساء البلاد منذ الاستقلال. كانت السيطرة على رئاسة الجمهورية وسيلة للأجهزة الأمنية للحفاظ على سلطتها على البلاد من دون رادع. بسبب نظام الحكم المركزي في الجزائر، فإن القرارات والتعيينات الرئيسة تعود حصرياً إلى الرئيس. لكن الرؤساء الجزائريين يُدركون دائماً أن مدة حكمهم يُقرّرها الجيش في نهاية المطاف.

في عهد الرئيس الجديد، تحرّك النظام لإعادة بناء نفسه. إستمر النظام القضائي في قمع الصحافيين والنشطاء المُنخرطين في حركة “الحراك”. وقد سمح اعتقال وسجن العديد من رجال الأعمال والأعضاء في عهد بوتفليقة لحكومة تبون الترويج للرواية القائلة بأنها انفصلت عن النظام السابق. حتى مع استمرارها في ملاحقة المعارضين، فقد أشادت حكومة تبون من حين لآخر ب”الحراك” وادعت أنها تفي بمطالبه.

إن بدء جائحة كوفيد-19، وقرار “الحراك” في آذار (مارس) 2020 وقف المظاهرات بسبب المخاطر الصحية، أعطى النظام بعض التنفس السياسي. مع سنّ إجراءات الإغلاق في جميع أنحاء البلاد، كان لدى الحكومة بعض الغطاء لمواصلة قمعها السياسي من دون الحاجة إلى القلق بشأن المظاهرات الجماهيرية. دفع تبون لإجراء استفتاء دستوري في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. ومع ذلك، فإن غالبية الجزائريين، التي اعتادت على تصميم النظام التقليدي للإصلاح، لم توافق عليه. ووفقاً لأرقام الدولة، فقد تكلّف 23.8٪ فقط من السكان عناء التصويت على الدستور الجديد، الذي تمت الموافقة عليه بأكثرية 68٪.

الرئيس الغائب

تسبب الوباء نفسه في أكبر تحدّ للنظام. في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، قبل يوم واحد من الاستفتاء الدستوري وبعد أيام من الإعلان عن إصابته بـكوفيد-19، تم نقل تبون إلى ألمانيا لعلاج المضاعفات الصحّية الخطيرة الناجمة عن الفيروس. وسط تصريحات غامضة من قبل الحكومة بأنه من المقرر أن يعود قريباً، تُرِك الجزائريون بدون رئيس، أو أي معلومات تتعلّق بصحته، لمدة شهرين. أدّى ذلك إلى شللٍ حكومي. وقد تمّ تأجيل القرارات الرئيسة وإحباط تدابير مكافحة الوباء ودعم الإقتصاد المُضطرب. كما أدى غياب تبون إلى إضعاف موقف الجزائر دولياً، حيث اندلعت التوترات في الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو، التي تدعمها الجزائر منذ فترة طويلة في سعيها إلى الاستقلال، في تشرين الثاني (نوفمبر)، واعترفت إدارة دونالد ترامب بسيادة المغرب على الإقليم.

بعد عودته لفترة وجيزة إلى الجزائر في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، أُعيدَ تبون إلى ألمانيا لتلقّي المزيد من العلاج. عاد إلى الجزائر في 12 شباط (فبراير). وقد تسبّب غياب تبون في زعزعة استقرار النظام داخلياً من خلال زيادة حالة عدم اليقين. وعلى الرغم من أنه قد تغلّب على إصابته بكوفيد-19، إلّا أن غياباته أعادت ذكريات عن المشاكل الصحية التي كان يُعاني منها الرئيس السابق بوتفليقة، والتي غالباً ما أجبرته على قضاء فترات طويلة في الخارج لتلقّي العلاج. خلال الغياب الأول لتبون في أواخر 2020، ذكرت وسائل إعلام جزائرية أن قادةً عسكريين كانوا يجتمعون بانتظام لتقييم الوضع. من المرجح أنهم سيولون اهتماماً وثيقاً لما إذا كانت صحة الرئيس تسمح له بأداء وظيفته أم لا. ونظراً إلى التحديات التي تواجهها الجزائر محلياً وإقليمياً، فمن غير المرجح أن يسمح الجيش تكرار السنوات القليلة الماضية من حكم بوتفليقة، حيث كان غالباً رئيساً مريضاً جداً، غائباً في الخارج ويُشتَبه في أنه لا يملك سيطرة حقيقية على إدارة البلد اليومية.

بشكلٍ عام، أمضى تبون ما مجموعه حوالي ثلاثة أشهر في الخارج لتلقّي العلاج الطبي. حتى لو تعافى تماماً، فمن المحتمل أن يواجه العديد من التحديات في العام 2021. وعلى الرغم من الخمول، فإن حركة “الحراك” تبدو بعيدة من نهايتها. حتى الآن، أبلغت الجزائر عأن أكثر من 111,000 حالة إصابة بكوفيد-19 وحوالي 3000 حالة وفاة بسبب الفيروس. وتلقّت البلاد أخيراً دفعاتها الأولى من اللقاحات وبدأت تلقيح السكان، ولكن من المرجح أن تتباطأ العملية بسبب الطلب العالمي على جرعات اللقاح.

من المرجح أن تتبع ذلك تحدياتٌ مألوفة. مع انحسار الوباء، من المتوقع أن تعود المظاهرات ضد الحكومة الحالية، وكذلك الحكم العسكري الأوسع، إلى شوارع الجزائر. رُغم امتناع الحكومة عن استخدام العنف الشامل ضد المتظاهرين، فقد استخدمت الأجهزة الأمنية والنظام القضائي لقمعهم، بما في ذلك استهداف حرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي واعتقال النشطاء ومضايقتهم. إن محاولة تبون وضع رئاسته كمُحرّكٍ للتغيير السياسي لا يُنظَر إليها على أنها ذات مصداقية من قبل غالبية الجزائريين. من المرجح أنه سيحاول الدفع لإجراء انتخابات برلمانية في أقرب وقت ممكن. لكن كما أظهر انتخابه والاستفتاء الدستوري، فإن الجزائريين ليسوا مُتحمسّين للغاية لوعود الإصلاح التي يُديرها الفاعلون أنفسهم الذين أداروا الحكم على مدى الستين عاماً الماضية. في المدى القصير، من المتوقع أن يتصاعد الضغط على النظام مع تدهور الوضع الاقتصادي.

إنذار اقتصادي

يشعر الجزائريون أصلاً بالصعوبات المتزايدة. خلال احتجاجات 2011، كان النظام فعّالاً في تلبية المطالب من خلال زيادة الإنفاق العام. اليوم، الوضع المالي للبلاد في حالة أسوأ بكثير. أدّى التأثير المُرَكَّب لانخفاض عائدات الهيدروكربونات والقيود المفروضة على النشاط الاقتصادي بهدف وقف انتشار فيروس كوفيد-19 إلى زيادة تآكل الموارد المالية للبلاد. في كانون الثاني (يناير)، صرّحت الحكومة أن صادرات الهيدروكربونات تراجعت بنسبة 40٪ من حيث القيمة على مدار العام 2020. ومن غير المرجح أن يشهد هذا العام تحسّناً كبيراً. كما أن ارتفاع التضخم يجعل الحياة أكثر تكلفة بالنسبة إلى الجزائريين العاديين. على الرغم من أن سعر النفط تجاوز 60 دولاراً أخيراً، إلّا أن صندوق النقد الدولي توقع أن الجزائر يلزمها سعراً يبلغ حوالي 150 دولاراً لموازنة ميزانيتها. من غير المحتمل أن يحدث هذا في المستقبل المنظور. وعلى الرغم من أن الحكومة ادَّعت أنها تعتزم إبعاد الاقتصاد من اعتماده على الهيدروكربونات، فمن المرجح أن يتطلب ذلك إصلاحات يصعب تنفيذها. في الوقت الحاضر، تُمثّل صادرات الطاقة 94٪ من عائدات الصادرات وتُغطي 60٪ من موازنة الدولة.

في ظل هذه الظروف، ليس من المستغرب أن نرى إحساساً مُتزايداً باليأس الاقتصادي يُسيطر على البلاد. في الأشهر القليلة الماضية، أدت الاحتجاجات المحلية بشأن ظروف العمل والصعوبات الإقتصادية إلى خروج أعدادٍ صغيرة من المتظاهرين إلى شوارع العديد من البلدات والمدن في جميع أنحاء الجزائر. إلى حدٍّ ما، هذا الأمر ليس شيئاً جديداً. كانت المظاهرات المحلية التي تُركّز على الظروف الاقتصادية أمراً شائعاً في الجزائر على مدار العقد الفائت. وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات كانت تُغلق بشكل مؤقت الطرق المحلية أو الطرق السريعة، إلّا أنها كانت تميل إلى أن تقتصر على منطقة جغرافية مُعينة أو مجموعة من المطالب.

ومع ذلك، فقد تغيّر سكان الجزائر كما استعدادهم للتعبئة بشكل كبير منذ أحداث العام 2019. فقد وضعت حركة “الحراك” الشعب الجزائري في قلب التطورات السياسية، تاركةً للنظام مساحةً أقل للتعامل السلمي مع المعارضة الشعبية. إن تكرار الاحتجاجات المحلية ليس فقط علامة على الصعوبات الاقتصادية المتزايدة. في 16 شباط (فبراير)، خرج آلاف المتظاهرين في مسيرة في بلدة خيراتا لإحياء الذكرى الثانية لبدء حركة “الحراك”. إن البيئة الحالية قد تؤدي بسهولة إلى تسريع عودة المظاهرات في جميع أنحاء البلاد التي تُركّز، مرة أخرى، على المؤسسة السياسية ونواقصها. إذا حدث هذا، فقد تبدو الجزائر في 2021 إلى حدٍّ كبير كما كانت في العام 2019.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي، كاتب ومحلل سياسي. يُركز عمله على شمال إفريقيا والشرق الأوسط الكبير وأميركا اللاتينية. الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الخاصة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى