شعاران خالدان للرئيسين كينيدي وترومان

بقلم السفير الدكتور جان معكرون*

1- إمتاز الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي برائعته السياسية التي أطلقها في خطابه الشهير في العام 1961 حيث قال: “لا تسأل عمّا يمكن أن يفعله بلدك لك، إسأل ما يمكنك القيام به لبلدك”. (Ask not what your country can do for you. Ask what you can do for your country).

ولاقت هذه المقولة انتشاراً عالمياً واسعاً وضربت شهرتها رقماً قياسيّاً في مختلف أنحاء العالم من حيث عدد المُستَشهِدين والمُنَوِّهين بها. وتردّد أنّ الرئيس كينيدي استلهمها من المفكّر جبران خليل جبران الذي كتب في العام 1921 الآتي: “هل أنت السياسيّ الذي يسأل ماذا يفعل بلدك من أجلك، أم أحد الوطنيّين المتحمّسين الذي يسأل ماذا يمكنه القيام به لبلده. فإذا كنت الأول، فهذا يعني أنك طفيليّ، أما إذا كنت الثاني فأنت إذاً الواحة في صحراء”.

عند التمعّن في هذه المقولة لجبران خليل جبران، لا بدَّ لنا من أن نسوق الملاحظات التالية:

من الواضح أنه خاطب السياسي مُنتقداً إياه بسبب اكتفائهِ بما سيقدّمه الوطن له من مكاسب، في حين أثنى على المواطن المتحمّس للقيام بما هو ضروريّ لخدمة وطنه.

لذلك، أجرى المفكّر جبران مفاضلة بين السياسيّ الساعي إلى خدمة مصالحه الشخصية، والوطنيّ الصادق المُلتَزِم بخدمة وطنه، واصفاً الأول بالطفيليّ الذي يمنع وطنه من النموّ كما تمنع الحيوانات الطفيليّة المُلتَصقة بالأغصان نموّها، في حين وصف الثاني بأنه الواحة في الصحراء.

ولا شكّ أنّ جبران خليل جبران كان على حق في مقولته التي عبّرت عمّا يجول في خاطره مُعتَقِداً أنه يتوجّب على السياسيّ، وليس على المواطن، أن يعمل كل ما من شأنه من أجل خدمة الوطن والمواطنين وألّا يستغلّ موقعه للمنفعة الشخصية وخدمة مصالحه الخاصّة، ممّا يفسح في المجال أمام استشراء الفساد وتسلّط الفاسدين. ولقد عبّر الكاتب السياسي “فرنسيس فوكوياما” (FRANCIS FUKUYAMA) في كتابه الشيّق “هوية” (IDENTITY) بأسلوبٍ رائع عن واقع السياسيّين الفاسدين كما يلي:

In systematically corrupt societies, politicians and bureaucrats divert public resources to their” own ethnic group, region, tribe, family, political party, or to their own individual pockets because “they do not feel obligated to the community’s general interests.

كم يبدو هذا الاقتباس مفسّراً لواقع الفساد في بعض المجتمعات ولقد تضمّن الأفكار الآتية:

في المجتمعات الفاسدة بشكلٍ منهجي يحوّل السياسيون والبيروقراطيون الموارد العامة إلى جماعاتهم الإثنية الخاصة ومناطقهم وعشيرتهم وعائلاتهم وأحزابهم السياسية أو إلى جيوبهم الخاصّة لأنهم لا يشعرون أنهم ملتزمون بمصالح المجتمع العامة.

وهكذا، يتحصّل لنا أنه يتوجّب على السياسيّ أن يكون مثالاً أعلى في المناقبيّة والقِيَم حتى لا تنتقل عدوى الفساد إلى بقيّة العاملين في الخدمة العامة.

إذا عُدنا إلى التمحّص في مقولة جون كينيدي فإننا نتساءل لماذا ركّز على دور المواطن في العطاء لوطنه وليس على دور الوطن والحكّام في العطاء للمواطنين.

ورُبَّ سائلٍ يطرح السؤال: ماذا بإمكان الفرد أو المواطن أن يعمل لوطنه في حين أنّ مسؤولية العطاء يجب أن تُناط بالقيّمين على الوطن أي الحكّام.

في المبدأ، يمكن اختصار دور وواجبات المواطن في أن يكون صادقاً في ولائه للوطن، وحريصاً على تطبيق القوانين وممارسة حقوقه لا سيّما انتخاب النواب والرؤساء والحكّام. وبالتالي، فإنّه لا يترتّب على المواطن وهو الفريق الأضعف في الوطن أن يحلّ محلّ الحكّام المُنتَخَبين من أجل القيام بما يجب عمله لتأمين مصالح الشعب ونموّ الدولة والتخطيط لمستقبلٍ واعد لأبنائها.

وفي هذا السياق، عبّر “أبو الشرائع” الفقيه الفرنسي “مونتيسكيو” (MONTESQUIEU) بشكلٍ لافت عن دور المواطن قائلاً: “يجب أن يقتصر دور الشعب على انتخاب ممثّليه”.

ونخلص إلى القول هنا بأنه يتوجّب على الحكّام القيّمين على الوطن أن يقوموا بما يمكن عمله لمصلحة المواطن، ونعني بذلك تأمين حاجياته الأساسية وفرص عمله وضمان أمنه وحماية حقوقه والتخطيط لمستقبله. وإنه من حق المواطن أن يسأل الحكّام، ماذا فعلوا من أجل بلدهم لأنهم الفئة الأقوى التي تملك مقدّرات الحكم والتخطيط في الدولة. لذلك، لا نرى مُبرّراً قانونياً أو واقعياً يدفعنا إلى أن نسأل المواطن ماذا فعل من أجل بلده ولقد تعزّزت وجهة نظرنا هذه بمقولة الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان الواردة في كتاب “المجتمع الدافع” (THE IMPULSE SOCIETY) للمؤلف بول روبرتس (PAUL ROBERTS) إذ علّق بتهكّم على مقولة جون كينيدي كما يلي:

“Ask not what you can do for your country”, implies that the government is the master or the deity, the citizen, the servant or the votary.

أي أنّ عبارة “لا تسأل ما يمكنك القيام به لبلدك” تعني ضمناً، حسب رأي فريدمان، أنّ الحكومة هي السيّد أو الإله وأنّ المواطن هو الخادم أو التابع.

2- هاري ترومان: “The Buck stops here”

إنه شعار وضعَه الرئيس الأميركي ترومان على مكتبه في العام 1945 وأصبح بالإضافة إلى شعار الرئيس كينيدي المذكور أعلاه جزءاً من التراث والتقاليد الأميركية وغالباً ما يردّده الأميركيون وغيرهم في المناسبات السياسية والاجتماعية.

ماذا يعني هذا الشعار؟

نشير أولاً إلى أنّ كلمة “Buck” تعني باللغة الأميركية العاميّة الدولار الأميركي. وعندما سمعت عن هذا الشعار، ظننتُ لأول وهلة أنّ الرئيس ترومان قصد أنّ الدولار يتوقّف عنده، بمعنى أنّ الفساد إن طال الأجهزة الرسمية كافةً فإنّ الرئيس معصوم من الفساد. وكنتُ أعوّل على وجهة نظري هذه خصوصاً أنه خلال عهد الرئيس ترومان، قد جرت حملة لمكافحة الفساد في العام 1950 أدّت إلى إقالة 166 موظفاً من مكتب الإيرادات الداخلية بسبب قبضهم رشاوى. لكن، بعد التدقيق والبحث عن حقيقة هذا الشعار، تبيّن لي أنّ الرئيس ترومان عنى به شيئاً مختلفاً تماماً. نفيد بدايةً إلى أنّ هذا الشعار يعني باللغة العربية ما يلي:

المسؤوليات تتوقّف هنا، أو المسؤولية تقع على عاتقنا نحن، أو الأمر سينتهي هنا. كما ذكرت بعض المصادر أنّ كلمة “Buck” عنت في أصولها جلد الحيوان المدبوغ المُستَعمل لتبادل السلع في الفترة الاستعمارية الأميركية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ثمّ أصبحت تشير في ما بعد إلى الدولار الأميركي كعُملة معدنية. إضافةً إلى ذلك، تحدّثت مصادر أخرى أنه كان من صلب العادات الأميركية أن يخاطب الرجل رجلاً آخر فيضع الدولار المعدني على الطاولة أمامه ويقول له هذه حدودك فلا تتخطّاها.

ماذا قصد الرئيس ترومان بهذا الشعار “The Buck stops here؟”

لقد قصد بكلمة “Buck” المسؤولية، أي أنّ على الرئيس أن يتّخذ القرارات الحاسمة وهو المرجع الأخير. والمسؤول الوحيد عن قراراته لأنه صاحب القرار الأخير ويتحمّل المسؤولية كاملةً لأنها تقع على عاتقه وحده وليس على غيره.

وكان الرئيس ترومان استعمل عبارة “Buck” بشكلٍ لافت في الكلمة التي ألقاها في 14 آب (أغسطس) 1945 بُعَيد إلقاء القنبلة الذريّة على هيروشيما وناكازاكي مبرّراً قراره هذا، حيث قال:

“إنه القرار الأصعب الذي كان عليّ اتخاذه على الإطلاق. لكنّ الرئيس لا يستطيع أن يتنصّل من المشاكل الصعبة ولا يستطيع أن يُلقي المسؤولية (the Buck) على غيره”.

من الجائز القول إنّ ما دفع بالرئيس ترومان إلى تبنّي هذا الشعار هو القوّة السياديّة التي اكتسبها بفعل انتخابه مباشرةً من الشعب الأميركي، إضافةً إلى المادة 2 من الدستور التي نصّت على أن “تناط السلطة التنفيذية برئيس الولايات المتحدة الأميركية…”. ولقد علّق بعض الفقهاء الدستوريّين على هذه المادة قائلاً إنّ رئيس الولايات المتحدة ليس فقط رئيس السلطة التنفيذية بل هو أيضاً السلطة التنفيذية بكاملها، ولا غرو في ذلك لأنّ النظام السياسي الأميركي هو نظامٌ رئاسي. ولقد منحه الدستور صلاحياتٍ واسعة وسلطة معنويّة كبيرة، فأضحى بذلك رئيساً للدولة وللسلطة التنفيذية والرئيس الإداري لجميع الموظفين على صعيد الاتحاد ولجميع الديبلوماسيين. إضافةً إلى أنه الرئيس الأعلى للجيش الأميركي، حتى أنه يتمتّع بصلاحيات في الحقل التشريعي، فله حق اقتراح مشاريع القوانين والإصرار على الكونغرس بإقرارها. فضلاً عن ترؤّسه للحزب الذي رشّحه لرئاسة الولايات المتحدة.

ختاماً، وحيث أنّ شعار الرئيس ترومان يندرج في إطار محورٍ مهمّ وهو المسؤولية، فكان لا بدّ لنا من استخلاص العِبر من هذه المقولة المميّزة لرئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل: “ربما من الأفضل أن تكون غير مسؤول وعلى حق من أن تكون مسؤولاً وعلى خطأً”.

إنّ الحكمة من كلام تشرشل تكمن في أنّ الذي يتصرّف بالكثير من الخطأ عندما يكون في موقع المسؤولية العامة سيكون منبوذاً في مجتمعهِ وبالتالي يتوجّب عليه التوقّف عن ممارسة مهامه.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو كاتب وديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى