السِتّ “أَمينة” وصَحنُ الفول في بيروت

بقلم عبدالله نعمان*

… في أحد أدوارها السينمائية

في دفاتري القديمة قصصٌ وأحداث طريفة دوّنتُها في حينها، أستعيدُ منها هنا حادثة جَرَت قبل نصف قرن، في صيف 1968، أنقلُها من دفتري كما كنتُ دوَّنتُها.

بيروتُ على بركان، وآبُ اللهَّابُ يصبُّ غضبَه على العباد، وساحةُ الشهداء تَعجُّ بالنَّاس الساعين إلى حاجاتهم “في فوضى مُنظَّمَة”. الصَّخبُ على أشدّه، محرّكاتُ السيَّارات لا تهدأُ ليلَ نهارَ، زماميرُها تزعق في كل مكان، والجلبَةُ المَعهودةُ في فوضاها اليوميّة تُبَدِّد ما تبقَّى من ذوقٍ وحساسيَّةٍ مُرهفَةٍ لدى المُغرَمين بالموسيقى القلائل.

كنتُ في العشرين، وكالعديد من أبناء جيلي، كنتُ “أُسبّعُ الكارات”، لا حُبًّا بالدَّراهم بل بإشباع نَهمي من الحياة وأَنا بَعدُ في رَبيعها: أَعملُ صباحًا في دار للنشر (بين ساحة الشُّهداء وساحة رياض الصُّلح)، أُتابعُ تحصيلي العلميّ بعد الظُّهر في جامعتَيْن، أُدرّس في مدرسةٍ ثانويَّة، أُترجِمُ الكُتبَ مساءً. وكانَ مردودُ هذه الأَنشطَة جميعًا أقلَّ من ثلاثمئة ليرة في الشَّهر، أَدَّخرُ نصفها للأَيَّام السُّود (كما كانَت تقولُ جدَّتي).

“عجقة” ساحة البرج في مطلع السبعينات

لبنان الكبير … مطعمًا

خرَجتُ من مكتبي المُكَيَّف فتلقَّفَتْني حرارةٌ خانِقَة استسلمْتُ إِليها سالكًا شوارعَ ضيّقة تفضي إِلى ساحة الشُّهداء، يستبدّ بي جوع وعطش لا يعود معهما مجال للتفكير ببرنامج عمل بعد الظُّهر، ويُصبحُ الهدفُ اختيار مطعم “على قدّ الجيب”.

وما هي حتَّى كنتُ أَتسلَّقُ الدَّرجَ الضيّقَ المُؤدّيَ إِلى الطَّابق الأَعلى من “مطعم لبنان الكبير”. صحيح أنه “المطعمُ الكبيرُ” لكنه كان صغيرًا جدًّا ومتواضعًا، وما كانَ كبيرًا بحجم جوعي ولا بحجم طموح أبناء جيلي. رُوَّادُه شبابٌ أَبناءُ الطَّبقة المُتوسّطة والعُمَّال، لا يَقصدُه الجنسُ اللطيفُ الَّذي كانَ يُفضّلُ الأَكلَ في البيت أَو في مطاعم رأس بيروت والأَشرفيَّة الأَنيقة.

وبينما أَنا بين الفول والحمّص، دخلَتْ سيّدةٌ جليلةٌ تجاوزَتِ الخمسين بثَباتٍ ولم تَبلغْ السّتّين. جلسَتْ إِلى طاولةٍ صغيرة، وطلبَتْ من النَّادل صحنَ فول، فحملَه إِليها في عَجَلٍ كاد معه يُوقعُه على فستانِها الأَزرق.

مبنى “كوكب الشرق” قبل انهياره

“يا ختيارة النحس”

حاولَتِ السَّيّدةُ الجليلةُ جمعَ حبَّات الفول في صحنها بكسرات الخبز فما استطاعَتْ. استعانَتْ ببعض الفجل الأَحمر فما أَصابَها النَّجاح. استَنتَجْتُ، وأَنا أُراقبُها، أَنَّها لم تألَفْ هذه المطاعم الشَّعبيّة وقدَّرتُ أَنَّها “بنْتُ عزّ”. انتظرَت صُعودَ النَّادل حامِلاً صينيَّةَ فولٍ لزبونٍ جديدٍ، فبادرَتْه:

– إِدّيني ملعقة يا ابني، الفولُ ما بيطلَعْش بالعِيش.

أَجابَها النَّادلُ بخفَّة: “طيّب، طيّب” فهمنا”!

تدحرجَ إِلى الطَّابق الأَرضي وعاد بعدَ دقائق. عاد الفولُ يُعانِدُ السَّيّدةَ الفاضلةَ، فنادت النَّادلَ ثانيةً:

– فِينْ الملعقة يا ابني عَشان آكُل الفول بيها؟

وإذ كان الفتى من أَطفال الأَزِقَّة المُجاورة، عاجلَها بكلامٍ يألَفُه البيروتيُّون العتاق:

– يا خِتيارة النَّحس، بِدّك تِشتريني بليرة؟

وَهَمَّ بالنُّزول إِلى الطَّابق السُّفليّ فوجَدتُ أَنّ تَدخُّلي أَصبحَ ضروريًّا للحدّ من سَفالة النَّادل، فانتهَرتُه:

– يا صَبيّ، السّتّ مصريَّة، عَيْب عليك!

خبر انهيار “كوكب الشرق” في الصحافة

الله!!! حضرتك “الست أمينة”؟؟؟

أَفهمَني الفتى أَنّي زبون يأكلُ ويشكُر ولا يتدخَّلُ في شؤونٍ لا تَعنيه. تلاسَنَّا، تدخَّلَ آخرون، علَتِ الأَصواتُ، تعقَّدَ الموقف فصعدَ صاحبُ المطعم مُستفسِرًا. شرحْتُ له الأَمر. التفتَ إِلى السَّيّدة الفاضِلَة. لَمَعَتْ في عينَيه إِشراقةٌ بهيجة، طفحَ وجهُه حبورًا وفرحًا وصاحَ من أَعماقه، مُتوَسّلاً اللهجةَ المِصريَّةَ المُحبَّبَةَ إِلى قلوب اللبنانيّين:

– الله!! حضرتك سِتّ أَمينِة؟ نَوَّرْتِ الحِتَّة! أَهلاً وسهلاً بكِ في بيروت! المَطعم كلُّه على حسابِك.

لم يحتَجِ النَّادلُ اللبيبُ إِلى طول شرح فهَرولَ إِلى الطَّابق الأَرضيّ وعادَ سريعًا حاملاً فولاً جديدًا وشوكةً وملعقةً وسكّينًا وقنّينةَ عصير، وما تَيسَّرَ من البصل الأَخضر والفِجل والنَّعناع والمُخلَّل والزَّيتون، قدَّمَها إِلى السَّيّدة المِصريَّة في حَياء وانحجَبَ عن الأَنظار.

إعتذرَ صاحبُ المطعم بكلامٍ لطيفٍ رقيق، وامتدَحَ الممثّلةَ القديرةَ على أَدوارها النَّاجحة، وأَكَّد لها أَنَّه من المُعجَبين بها، وأَرسلَ يطلبُ مُصوّرَ الحيّ لالتقاط صورة تذكاريَّة له مع النَّجمة، واعدًا أَنَّه سيُزَيّنُ بها مطعمَه وبيتَه وقلبَه.

أَكلَتِ “السّتّ أَمينة” أَطيبَ صحنَ فولٍ على حساب صاحب المطعم، وخرجتْ مُعزَّزةً مُكرَّمة، شاكرةً حسن الضّيافة اللبنانيَّة ولطافة اللبنانيّين.

خليفة “كوكب الشرق”

دارتِ الأَيَّام، وسافرتُ إِلى الخارج، وطارَ الشّباب، وبدأتِ الكهولةُ تفتكُ في القلب والجسد… وجُنَّ لبنان.

وفي كلّ عام أَحُجُّ إِلى قلب بيروت، أَتفقَّدُ المكانَ الذي كان يقومُ عليه المطعمُ، أَتنقَّلُ بين الشَّوارع العتيقة المُهَدَّمة، وأَسألُ المُعَمّرين الجالِسين على الأَرصفة الرّكاميَّة عن المطعم وصاحبه، من دون جدوى.

وما زلتُ إِلى اليوم أَتذكر كيف حضر المُصوِّرُ الأَرمنيُّ ملهوفًا ليلتقط صورة تذكارية للسّتّ أَمينة رزق، وما زلتُ أتساءل عن دخولها وحيدةً، من دون طَبلٍ ولا زَمر، إِلى ذلك المطعم الشَّعبيّ البسيط.

إجتاحت الحرب ساحة البرج وذاك المطعم، لكن ذكراه باقية في بالي، كما باقية في بال البيروتيين ذكرى مطعم شهير قبله للفول والحمّص كان مكان “مطعم لبنان الكبير”، مبنى اسمه “كوكب الشَّرق”، في أسفله مطعم يُديرُه القبضاي أَبو عفيف كرَيديّة. وبعد ظهر الأربعاء 14 آذار/مارس 1934، فيما كانَ المطعمُ يعجُّ بالزَّبائن، أَخذَ أَبو عفيف يُوَسّعُه بيدَيه، وبدأَ يهدُّ العمودَ في وسط المطعم، فتزعزعَ البناءُ وانهارَ على الجالِسين، وانتشلَ المُسعفون 20 جريحًا و40 جثةً بينها جُثَّةُ الموسيقيّ إِسكندر الشَّلفون (1883 – 1934). وبعد أيام نظمَ الشَّاعرُ عمر الزعنّي (1895 – 1961) أُغنيةً من وَحي المُناسبة مطلَعُها: “مِشْ مَعقول، مِشْ مَعقول، يهزّ الكوكب صحن الفول”، ما زال كثيرون من البيارتة يذكرونها حتى اليوم.

  • عبدالله نعمان كاتبٌ لبنانيٌّ يعيش في باريس.
  • يصدر هذا المقال تَوَازيًا مع صدوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى