هل تؤثّر كاثوليكية جو بايدن في إدارة أميركا و… العالم؟

الرئيس جو بايدن والبابا فرنسيس: ها هناك من تأثير سياسي للثاني على الأول؟

 

الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن هو الكاثوليكي الثاني الذي يدخل إلى البيت الأبيض، بعد جون كينيدي، لكنه يختلف عن الأخير بقربه من الفاتيكان وإيمانه الديني العميق.

الرئيس جون كينيدي: أول رئيس أميركي كاثوليكي.

بقلم السفير يوسف صدقة*

رحّب الفاتيكان بانتخاب الرئيس الأميركي الـ46، جو بايدن، الكاثوليكي وصديق البابا فرنسيس. وفي حفل التنصيب، تلا كاهنٌ، من الرهبنة اليسوعية صلاة التضرّع إلى الله وطلب البركة. تجدر الإشارة إلى أنّ أول تحرّك قام به الرئيس الأميركي الجديد، قبل حفل التنصيب، كان حضور القداس في كنيسة سان مارك. هذا وقد شوهدت في مكتبه البيضاوي صورة تجمعه مع البابا فرنسيس. ويُعتبر بايدن ثاني كاثوليكي يتبوّأ الرئاسة الأميركية بعد الرئيس الراحل جون كينيدي الذي انتُخب في العام 1960. ومنذ ذلك الحين حدث تغييرٌ في الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة، حيث أصبحت أكثر تماسكاً ونفوذاً في وسط كنائس إنجيلية وبروتستانتية عدة. فعندما وُلد بايدن، كان الكاثوليك على هامش الحياة الأميركية، وقد تغيّر الوضع بين العام 1940 والعام 1960.

الكاثوليك في أميركا

نما عدد الكاثوليك في الولايات المتحدة منذ أوائل القرن التاسع عشر من خلال الهجرة والإستحواذ على ممتلكات حيث جاءت غالبيتهم من فرنسا وإسبانيا والمكسيك، تلا ذلك في منتصف القرن التاسع عشر تدفق سريع للمهاجرين الإيرلنديين والألمان والإيطاليين والبولنديين من أوروبا، ما جعل الكاثوليكية الآن أكبر طائفة مسيحية في الولايات المتحدة (البروتستانت الذين يشكلون العدد الأكبر من المسيحيين هم مجموعة طوائف). قوبلت هذه الزيادة بتحيّز وعداء واسع النطاق، ما أدّى في كثير من الأحيان إلى أعمال شغب وحرق كنائس وأديرة ومعاهد دينية. وقد تميز اندماج الكاثوليك في المجتمع الأميركي بانتخاب جون كينيدي كرئيس في العام 1960. ومنذ ذلك الحين، ظلت نسبة الأميركيين الكاثوليك عند حوالي 25٪ من عدد السكان أو 92 مليون نسمة.

وفقاً لرابطة الكليات والجامعات الكاثوليكية في العام 2011، يوجد ما يقرب من 230 جامعة وكلية كاثوليكية في الولايات المتحدة لديها ما يقرب من مليون طالب وحوالي 65,000 أستاذ. وتم إدراج 12 جامعة كاثوليكية ضمن أفضل 100 جامعة وطنية في الولايات المتحدة. وتُعلّم المدارس الكاثوليكية الأميركية 2.7 مليوني طالب، وتوظف 150 ألف معلم. في العام 2002، كانت أنظمة الرعاية الصحية الكاثوليكية، التي تُشرف على 625 مستشفى بإيرادات مجتمعة تبلغ 30 مليار دولار، تشكل أكبر مجموعة من الأنظمة غير الربحية في البلاد. نظراً إلى حجمها، فإن عدداً أكبر من الكاثوليك يحملون شهادات جامعية (26٪ من جميع الكاثوليك الأميركيين) ويكسبون أكثر من 100,000 دولار سنوياً (19٪ من جميع الكاثوليك الأميركيين) أكثر من أعضاء أي طائفة أميركية أخرى.

بايدن الكاثوليكي

أفاد المؤرخ الكنسي “مسّيمو فاجيولي” (Massimo Fagioli) في مؤلفه الذي صدر في أوائل هذا العام حول: “الوضع الديني في أميركا”، أنّ بايدن هو كاثوليكي، لكنه ليس مُتمسّكاً بالتقاليد الكنسية. وقد ترسّخ إيمانه، وتأثّر بشخصية البابا يوحنا الثالث والعشرين (1958-1963)، ونتائج المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، الذي أصدر قرارات مهمة في تحديث الكنيسة، والإنفتاح على كل المذاهب المسيحية والإسلامية واليهود. وقد حلّل فاجيولي مقاربة الكاثوليك في أميركا، حيث أنّ هناك بعض الأساقفة التقليديين يتحدّى سلطة البابا فرنسيس في ما يتعلق بمفاهيم المجتمع الحديث، وانفتاح الكنيسة على “الضالّين” من المؤمنين المُثليين، المُطلّقين….

وقد أشار فاجيولي إلى أنّ أساقفة عديدين تأثّروا بالبابا يوحنا بولس الثاني (1978-2005) والبابا بنديكتوس السادس عشر (2005-2013). وقد اعتنقوا التوجه المحافظ في الكنيسة، علماً أن الأخير شجّع على تبنّي الحركة المحافظة التي تميل إلى الليبرالية (Neointegralisme).

وقد دعا فاجيولي هذا الجناح من الكاثوليك ب”حزب الشاي الكاثوليكي”، حيث كان قسمٌ منهم من الموالين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وبالمقابل، فإنّ بايدن دافع عن الكاثوليكية المسكونية، والتعاون مع الكنائس المسيحية الأخرى.

هذا وقد تحدّث عن مرحلة كينيدي، والذي كان من أصولٍ إيرلندية، والذي واجه عداءً واسع النطاق من جانب النخبة البروتستانتية، فيما لم تؤثّر كاثوليكية بايدن عليه في المؤسسة الأميركية العميقة. تجدر الإشارة إلى أنّ شرعية معتبرة من الكاثوليك، تنتقد بايدن لدعمه زواج المثليين وعدم مقاومته لحق الإجهاض.

علاقة البابا ببايدن

هنّأ البابا فرنسيس الرئيس بايدن، بعد تنصيبه قائلاً: “إنه صلّى لله أن يقود المصالحة في أميركا وإعادة الإنفتاح على دول العالم…”.

وقد أرسل بعدها رسالة تمنّى فيها على بايدن، أن يعمل في سبيل مجتمعٍ قائم على العدالة والحرية، واحترام كرامة الإنسان، وأن يساعد الفقراء والمعوزين والذين لا صوت لهم، وتمنّى أن يتحلى بالسياسة النبيلة القائمة على القيم الدينية والأخلاقية، والتي ألهمت مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، كما طلب من الله؛ مصدر الحكمة والحقيقة، أن يكلّل جهود الرئيس في سبيل السلام والتفاهم بين أميركا ودول العالم، من أجل تقدّم العالم العام. وأشار في ختام رسالته بأنّ ما حصل في الهجوم على الكونغرس وما تبعه من عنف لم يتوقعه على الإطلاق.

تجدر الإشارة إلى أنّ البابا فرنسيس كان يقيم علاقة باردة مع الرئيس ترامب، وكانت هنالك خلافات كبيرة بين الطرفين بالنسبة إلى التغير المناخي وسياسة الهجرة التي تبنّاها الرئيس الأميركي السابق…

أما على صعيد الكاثوليك في الولايات المتحدة، فإنّ رئيس مجلس أساقفة أميركا، مطران لوس أنجلوس “خوسيه غوميز” (Jose Gomez)، أعلن أنّ المجلس سيتابع معركته مع الرئيس بايدن في مجالات عدة، ولاسيما في مجال الإجهاض، علماً أنّ بايدن وسياسيين كاثوليك عديدين أعلنوا أنهم شخصياً ضد الإجهاض، ولكن يتعذّر عليهم فرض رؤيتهم على الآخرين. واعتبر غوميز أنّ بايدن المؤمن، عليه أن يؤكد التزامه بالفقراء.

ويبدو أنّ هنالك انقساماً بين الأساقفة في كيفية مقاربة العلاقة مع الرئيس بايدن. فكاردينال شيكاغو “بليز كوبيتش” (Blaise Cupich) اعتبر أنّ تصريحات غوميز ليست متماسكة، وأنّ عدداً من الأساقفة لم يُستشاروا حول موضوع العلاقة مع الرئيس بايدن.

العلاقات الديبلوماسية بين أميركا والفاتيكان

بدأت العلاقات الديبلوماسية بين الولايات المتحدة والفاتيكان في العام 1788 بناءً على تمنّي البابا بيوس السادس، إلى الرئيس الأميركي بنجامين فرانكلين. وقد أقامت أميركا علاقات ديبلوماسية وقنصلية مع الفاتيكان بصفته السياسية. وحيث أنّ البابا كان يحكم أراضٍ بابوية من العام 1797 إلى العام 1870. وقد أقيمت العلاقات من العام 1848 إلى العام 1868، على مستوى أدنى من السفراء. وبعدما فقد البابا كل الأراضي في روما في العام 1870، بعد إنجاز الوحدة الإيطالية، تجمّدت العلاقات بين الطرفين واقتصرت على موفدين بابويين إلى واشنطن وزيارات موفدين أميركيين إلى الفاتيكان، وذلك للمناقشة والتعاون في القضايا الإنسانية والسياسية، وقد أُعيدت العلاقات الديبلوماسية الكاملة بين الطرفين خلال العام 1984.

أهمية الفاتيكان لأميركا

يُمثّل الفاتيكان دولة صغيرة، ذات سيادة وهي معترف بها دولياً وفق القانون الدولي، ولديها باع طويل في العلاقات الدولية، حيث تقيم علاقات ديبلوماسية مع 183 دولة، وهي عضو مراقب في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وفي المجلس الأوروبي وفي منظمة الدول الأميركية. كما أنّ للفاتيكان شبكة واسعة من العلاقات مع الطوائف والمذاهب. يتواصل ويشرف الفاتيكان، على عدد كبير من الجامعات والمدارس وهيئات تعمل في الخدمة المدنية والإنسانية. وعليه، فإنّ الولايات المتحدة ترى مصلحة في توثيق العلاقة مع الفاتيكان.

هذا وقد نشرت مجلة وزارة الخارجية الأميركية في العام 2011 مقالاً مميزاً، أكّدت فيه على أهمية وفرادة الفاتيكان الذي يدير مسائل معقدة عدة، نظراً إلى انتشار الكنيسة الكاثوليكية في العالم. إنّ شبكة العلاقات التي يديرها الفاتيكان تجعل منه مركز استماع وهمزة وصل بحيث تستفيد أميركا من الرؤيا والفطنة الديبلوماسية للمسؤولين في الفاتيكان. فالسفارة الأميركية لدى الكرسي الرسولي تقيم علاقات ثنائية، مع جدول أعمال متعدد الأطراف.

وقد حدّد المقال أيضاً ستة محاور يمكن للولايات المتحدة أن تتعاون فيها مع الكرسي الرسولي وهي: المجاعة، حقوق الإنسان، الحريات الدينية، الصحة العالمية، الإتجار بالبشر، الأمن والسلام العالمي.

مستقبل العلاقة بين أميركا والكرسي الرسولي

يُعتبَر الرئيس بايدن وجهاً مألوفاً في الكرسي الرسولي. فقد زار الفاتيكان مرات عدة بصفته نائباً للرئيس في عهد الرئيس باراك أوباما. وكان لجهود بايدن الديبلوماسية دورٌ في تطبيع العلاقات بين واشنطن وهافانا بالتعاون مع الكرسي الرسولي. فالبابا فرنسيس، وهو أول بابا من أميركا اللاتينية، ركّز على أهمية الحوار مع كوبا، وفتح صفحة جديدة مع هافانا. ويبدو أنّ هنالك احتمالاً لتعيين سفير أميركي جديد في هافانا، بعد موافقة الكونغرس في المستقبل القريب.

ويبدو أنّ التعاون الديبلوماسي بين أميركا والكرسي الرسولي سيترسّخ في إطار ثوابت الكرسي الرسولي بعد البرودة التي طبعت العلاقة مع الرئيس ترامب. وللرئيس بايدن مصلحة في التعاون مع ديبلوماسية القوة الناعمة للكرسي الرسولي، في مجال الصحة ومكافحة جائحة كورونا، ودعم الأسر الفقيرة. كما أنّ تعيين جون كيري الكاثوليكي، كمندوب الولايات المتحدة في مسألة المناخ، سيساعد في مجال المناخ والصحة. وقد يجد التعاون مداه، ضمن توجهات البابا فرنسيس في خطابه في العام 2019 في السلك الأجنبي لدى الكرسي الرسولي، والذي أكّد على أنّ العولمة، والتي تهمل الطبقات الفقيرة ستضعف النظام العالمي.

أما بعد مرحلة ترامب، فإنّ الآمال معقودة على وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الجديد في إعادة إحياء مبادئ الديبلوماسية، القائمة على التعاون بين الدول، والتحوّل عن النرجيسية التي طبعت عهد ترامب والمتمثّلة ب”أميركا أولاً”، إلى التعامل مع الأمور الداخلية والخارجية بواقعية في إطار المصلحة الأميركية. والسؤال المطروح، هل تنجح العلاقة بين الفاتيكان وأميركا في عهد بايدن في تخفيف هذه الأزمات ومواجهة العولمة والليبرالية المتوحشة؟

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى