السرطان يتنازل عن عرشِه للطاغية

السرطان: نزل عن عرشه لكوفيد-19 إلى حين.

 

بمناسبة اليوم العالمي للسرطان الذي يصادف اليوم (4 شباط/ فبراير) كتب الباحث والإختصاصي العالمي في شؤون الأورام السرطانية الدكتور فيليب سالم المقال التالي:

 

كوفيد-19: اللّقاح ضرورة لمقاومته

بقلم الدكتور فيليب سالم*

 

‏قبل السنة الفائتة‏، كان العالم يقف في مثل هذا اليوم من كل سنة، في هيبةٍ أمام السرطان، إمبراطور الأمراض كلّها. أما اليوم فقد تغيّر هذا العالم، وانقلب رأسا على عقب. لقد تنازل السرطان عن عرشه ليتبوّأ هذا العرش طاغية جديد. ‏طاغية لم نكن نتوقّعه. طاغية لا نراه بالعين المُجرَّدة. لقد قبض هذا الطاغية على العالم بأسره، وفتك في الأرض، وأظلمها. انه واحدٌ من الفيروسات التي تملأ الدنيا. أطلقوا عليه اسم كورونا، وأطلقوا على المرض الذي يُحدثه اسم كوفيد-19. وحتى يومنا هذا فقد أصاب ‏هذا ‏المرض أكثر من مئة مليون شخص وقتل منهم أكثر من مليونين ومئة ألف.

 

‏والمأساة الأكبر التي قد لا يعرفها العالم هي أن هذه الجائحة كان من الممكن تجنّبها أو احتواءها. لم تكن هذه المأساة قدراً. بل كانت فشلاً كبيراً لدول العالم كله؛ وجريمة كونية لعبت فيها الدور ‏الأكبر دولة الصين ومنظمة الصحة العالمية. لم تتعاطَ الصين بشفافية ولا تزال ليومنا هذا تحجب الحقائق. فالحقيقة في الفكر الشيوعي ليست مهمة، كما ان الإنسان الفرد غير مهم كذلك. المهم هو النظام. وبالنسبة إلى منظمة الصحة العالمية، فهي قد فشلت في احتواء هذا المرض في مدينة ووهان الصينية، ‏ومنعه من الانتشار إلى بقاع الأرض كلها. وبعد اكثر من سنة من بداية هذه الجائحة، وبسبب الاتهامات التي وُجِّهت إليها، أنشأت المنظمة لجنة من الخبراء العالميين لتقصّي الحقائق برئاسة هيلِن كلارك، رئيسة الوزراء السابقة في نيوزيلندا. وحديثاً أصدرت هذه اللجنة بياناً تقول فيه ان “منظمة الصحة العالمية تشكو من البيروقراطية مما أعاق قدرتها على تنفيذ مهمتها بالسرعة الضرورية”.

 

‏في خضم هذا الظلام الذي يُحيط بنا، هناك ضوءٌ يُخفّف من العتمة. انه اللَقاحُ الجديد. كانت سنة 2020 سنة الرعب الكبير والألم الأكبر، إلا أنها في الوقت ذاته كانت سنة انتصار العلم. لقد تمكّن العلماء من تطوير لَقاحات عديدة ضد هذا الوباء في مدّة قصيرة لا تتجاوز السنة. لم يحدث ذلك في تاريخ الطب.‏ من قَبل كان اللَقاحُ يأخذ سنين عديدة لتطويره. ومن الأسباب التي أدّت إلى هذا الإنجاز هو تطوير تقنية جديدة تستعمل الحامض النووي “mRNA”. وهناك مؤشرات أولية على أن هذه التكنولوجيا تمتلك من الليونة والقدرة على التكيّف، مما يجعلها فعّالة ضد السلالات الجديدة والتغييرات الجينية في الفيروس. وانتصر العلم أيضاً بجعل هذه اللقاحات سالمة إلى حدٍّ كبير. فهناك روايات وأساطير ‏تُحاكُ حول العوارض الجانبية لهذه اللقاحات. ولكن، وحتى يومنا هذا، وبعد تلقيح أكثر من 60 مليون إنسان، لم نجد أعراضاً تُسبّب الوفاة أو أمراضاً خطيرة. إن الخطر الكبير الذي تمنعه هذه اللقاحات هو أهم بكثير من الضرر الخفيف الذي قد تُسبّبه. لذلك ننصح وبدون تردّد بأخذ اللَقاح.

 

‏ولا بد لنا أن نعترف هنا بأن النصر في تطوير اللقاح لم يرافقه نصرٌ مُماثل في تطوير العلاج. فحتى يومنا هذا لم نجد علاجاً فاعلاً يقتل الفيروس مباشرة‏، ويقضي على المرض. إن معظم التقدم الذي حصل كان في إطار معالجة المضاعفات التي قد تنتج عن هذا الالتهاب. هذا التقدم، وإن كان صغيراً إلّا أنه مُهم كثيراً، لأنه يؤدي إلى هبوط ملحوظ في نسبة الوفيات.

 

‏شيء مُهم طرأ في الأسابيع القليلة الماضية. كانت الوكالة الأميركية للدواء والغذاء منحت موافقتها على استخدام “مونوكلونال أنتيبَديز”

(Monoclonal Antibodies) لمعالجة كوفيد-19 في المراحل الأولى من المرض. ولكن أبحاثاً حديثة قد أثبتت أن هذه ال”Antibodies” (الأجسام المُضادة للفيروس ) ‏قادرة على خفض نسبة الإصابة بالوباء 50% إذا أُعطيت إلى أشخاص غير مُصابين ولكنهم على خطورة عالية للإصابة. ونتيجة لذلك، فقد وضعت ألمانيا في الأسبوعين الماضين استراتيجية جديدة تمنح الخيار فيها لجميع المواطنين المُعرَّضين بشكل كبير للإصابة، المعالجة بهذه الأدوية.

 

وأخيراً، إن ما شهدناه من ألم من جرّاء هذا الوباء، يجب ألّا ‏ننساه. ليس مقبولاً ان نعود بعده إلى يومنا كالمعتاد. يجب أن نصنع مستقبلاً أفضل للإنسان، وأن نرسي ميثاقاً جديداً للعالم. يجب إجراء إصلاحات جذرية في هيكلية الأمم المتحدة وعملها. وكذلك أيضاً في منظمة الصحة العالمية. إن البيروقراطية هي عدوة التقدم، وهي العائق الأكبر للابداع.

‏ونعود إلى يومنا هذا. اليوم العالمي للسرطان. هذا الإمبراطور الذي تربع على عرش الأمراض كل هذه السنين ونقول: انه لصحيح ان السرطان قد تنازل عن عرشه مرحلياً، إلا أنه لا يزال عدو اً شرساً. ولم يكن هذه السنة أقل هيبة أو أكثر رحمة على البشر ‏. فبينما يُعتبر ‏وباء كوفيد – 19 مرضاً عابراً. يبقى السرطان مرضا ثابتاً. في سنة أو سنتين من المتوقع أن يرحل كوفيد -19 عن هذه الأرض، ولكن السرطان لن يرحل عنها في المدى المنظور. وبينما يقتل فيروس كورونا أقل من 3% من المصابين، يقتل السرطان نسبة اكبر بكثير. كل ذلك لم يمنع كوفيد -19 من خطف الأضواء من السرطان‏، وفرز نتائج سلبية على معالجة الأمراض السرطانية. فتراجع التشخيص المُبكر وانحدرت جودة العلاج وجفّت الأموال التي كانت تدعم الأبحاث العلمية.

 

‏وعلى الرغم من كل ذلك حصل تقدم كبير على جبهتين: جبهة نسبة الوفاة، وجبهة العلاج الجديد. في الجبهة الأولى، أصدرت الجمعية الأميركية للسرطان دراسة حديثة تُشير إلى أن نسبة الوفاة من السرطان قد تراجعت 31% منذ سنة 1991.  فسرطان عنق الرحم عند النساء قد تم القضاء عليه بنسبة تتعدّى ال 70% بسبب لقاح Human Papilloma Virus  HPV)) الذي يمنع ‏الإصابة بالتهاب فيروس “هيربِس” (Herpes)، وبالتالي يمنع حدوث سرطان عنق الرحم. وحسب الدراسة أيضاً تراجعت نسبة الوفاة من سرطانات الثدي والقولون والبروستات. ولكن أهم ما في الدراسة هو التراجع الكبير في نسبة الوفيات من سرطان الرئة. وذلك يعود إلى سببين: انخفاض عدد المُدخّنين والتقدّم العلمي الكبير في معالجة هذا المرض‏. حصل هذا التقدم نتيجة تطور العلاج المناعي والعلاج المستهدف. فالعلاج المناعي يقوّي مناعة الجسم والعلاج المستهدف يستهدف الخلية السرطانية من دون أن يستهدف الخليّة الصحيحة. وفي الجبهة الثانية، أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، والتي ساهمنا نحن فيها والمنشورة في المجلات العلمية، أن المزيج الثلاثي المؤلف من العلاج المناعي، والعلاج الكيميائي التقليدي، والعلاج ‏المستهدف يُشكّل واحداً من أهم الاستراتيجيات الحديثة لمعالجة الأمراض السرطانية. هذا المنحى الجديد في معالجة السرطان، وصنع لَقاحٍ لوباء كوفيد-19، هما من أهم الإنجازات الطبية في السنة الفائتة.

 

‏لم تكن سنة 2020 سنة كباقي السنين. كانت سنة الرعب والمرض والإحباط. حرب كونية شنّها فيروس كورونا على الإنسان. لم يشهد الإنسان حربا كهذه الحرب في تاريخه المعاصر؛ ولكنها بنفس الوقت كانت سنة البحث العلمي. سنة انتصار المعرفة.  وعندما تنتصر المعرفة ينتصر الإنسان. إن الله لا يترك الإنسان وحيداً. لقد وهبه العقل، وجعل من العقل “إماماً”.

 

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيب، باحث واختصاصي عالمي بارز في الأورام السرطانية. وهو رئيس مركز سالم للأورام في هيوستن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى