أزْمتُنا فلسفيّةٌ… ولا ندري؟

“أخطرُ ما يَتعرّضُ له لبنان هو تَسلّلُ النزعةِ العدميّةِ إلى سلوكِ الجماعةِ السياسيّةِ وانتقالُـها إلى الشعبِ من خلالِ التأييدِ الأعمى للزعيم”.

 

بقلم سجعان قزي*

تكرارُ الأزَماتِ الحكوميّةِ في لبنان رغمَ واقعِ البلادِ المأسوي، يُخفي بُعدًا آخرَ أخطرَ من العُقدِ السياسيّةِ الداخليّةِ والخارجيّة، ويَحمِل في مضامينِه حَصرَ إرْثِ لبنان. أعَكُفُ هذه الأيامَ على دراسةِ تحوّلاتِ شعوبِ أوروبا الغربيّةِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانية (1939/1945)، وشعوبِ أوروبا الشرقيّةِ بعدَ خروجِها من الاحتلالِ السوفياتيِّ بين سنتَي 1989 و1991.

رائعةٌ هذه الشعوبُ كيف استَخلَصت العِبرَ من مآسيها. كيف اجتمعَت وتَصالحت. كيف تَجرّأت وطالبَت بتقريرِ المصيرِ في إطارٍ وِحدويٍّ أو فيدراليٍّ أو انفصاليّ. كيف نَفضَت عنها نِزاعاتِها الداخليّةَ لتَنهَضَ من جديد. كيف أعادَت تنظيمَ أحزابِها من أجلِ انتظامِ الديموقراطيّة. كيف خَرجَت من صِراعاتِها المناطقيّةِ والدينيّةِ نحو المركزيّةِ والعَلمنة. كيف قَضَت على تيّاراتِها العقائديّةِ المتطرّفةِ والعنصريّة. كيف طلّقَت ولاءاتِها للغرباءِ والتزَمت الإيمانَ بأمِمها. كيف استعادَت دربَ الكنائسِ بعد سبعين سنةً شيوعيّة. كيف استرجَعت هويّاتِها الوطنيّةَ والحضاريّةَ بعدما طُمِسَت في كِياناتٍ أوسع. كيف خَرجَت من منطقِ القوّةِ العسكريّةِ إلى مَنطقِ القوّةِ السلميّةِ والاقتصاديّة. كيف تأقلمَت مع الديموقراطيّةِ وكانت مُدَجَّنةً على الديكتاتوريّة. كيف خَلقَت صيغًا دستوريّةً وإداريّةً مركزيّةً ولامركزيّةً تَستوعِب جميعَ الخصوصيّات. كيف أقامَت علاقاتٍ إقليميّةً ودوليّةً ساعدَتها على الخروجِ من أزَماتِها الماليّةِ والمعيشيّة. كيف اسْتقلّت واسْتقرّت وازدهرَت. كيف آلفَت بين قوميّاتِها ومصالِـحها المشترَكة. كيف بقيَت أممًا مستقِلّةً واتَّحدَت دولُها في ما بينها.

وتَطلّعتُ نحو لبنان… كيف تَصرَّفنا بعدَ كلِّ أزمةٍ ومحنةٍ وحربٍ واحتلالٍ منذ سنةِ 1920 إلى هذه اللحظة. عَبرتْني غَصّةٌ وتَعرّضَ إيماني بوِحدتِنا الوطنيّةِ لمنخَفَضٍ هوائيّ. بدا لي أنَّ صِراعاتِنا تنافسُ إرادةَ العيشِ معًا وتُعطِبُها، وذِهنيّةَ الكَسبِ تتفوّقُ على ذِهنيّةِ التضامن، كأن لبنانَ مشروعُ مناصبَ لا مشروعَ دولة. وَجَدْتُ بينَنا جالياتٍ سياسيّةً لدولِ أجنبيّة فيما ندّعي أنّنا جميعًا مكوّناتٌ وطنيّة. اقْترنّا بلبنانَ وعَشِقنا غيرَه وما عَدَلنا. ما أن نَخرجَ من أزْمةٍ نُحضِّرُ أزْمةً أُخرى، وما أن نَطويَ حربًا نُخطِّطُ لحربٍ أُخرى، وما أن يَنسحِبَ محتلٌّ نوجِّهُ دعوةَ شرفٍ لمحتلٍّ آخَر. وما أن نوقِّعَ على تسويةٍ نُلغِّمُها لتنفَجرَ لاحقًا. كأنَّ الحريّةَ والسلامَ والاستقرارَ ليست من عالِمنا ومن قَدَرنِا، بينما مُبرِّرُ وجودِنا أن نكونَ شعبَ السلامِ والحريّةِ في هذا الشرق. البعضُ استطابَ هذه النزعةَ، هذا الدورَ المستعارَ وأتْقنَه وراحَ يَلعبُه على حسابِ الوطن، فيما الآخرون تَبنَّوا دورَنا الأصيلَ إذ وَجدوه مُشرّدًا على قارعةِ الطريق.

تَهربُ الشعوبُ من تواريخِها السيّئةِ والبشعةِ ونحن نُجدِّدُها ونُمدِّدُها. وظّفنا المصالحاتِ التاريخيّةَ في إطارِ عَلاقةِ الزعماء والأحزابِ ولم نَجيِّرها إلى الدولة. صِرنا شعبًا يَظنُّ الوِحدةَ هي العيشُ على أرضٍ واحدةٍ فقط، فيما هي التفاعلُ بالمشاعرِ والطموحاتِ الكبرى وصناعةِ السلامِ والمستقبل. في عصرِنا الحاليّ، الأرضُ هي آخِرُ عناصرِ الوِحدة. قَبلَها تأتي الإرادةُ والحضارةُ ووِحدةُ القيمِ والمصيرُ الواحِد، وهي عناصرُ نَفتقِدُها تدريجًا.

فئاتٌ متعدّدةُ الطوائفِ تَربُط مفهومَ العيشِ معًا بمبدأِ الهيمنةِ لا بمفهومِ الشراكةِ، كأنّنا أفرقاءٌ في حالِ صراعِ دائمٍ لا شعبٌ في حالةِ وِحدةٍ دائمة. أنّى لنا أن نَبنيَ وطنًا ولسنا بمواطنين، بل أبناءُ طوائفَ بَنيْناها بمواجهةِ الوطن. لقد غابَ عن هذه الفئاتِ أنَّ الصِراعَ يبدأ من حدودِ الوطن ضِدَّ عدوٍّ خارجيٍّ، لا من حدودِ المِنطقة أو الطائفةِ أو الحزبِ ضِدَّ مواطنين لبنانيّين آخَرين. لقد باتَت البؤرُ الطائفيّةُ والعقائديّةُ والمذهبيّةُ وبؤرُ العِقَدِ النفسيّةِ المجدولةِ على الحِقدِ أشدَّ فَتكًا بلبنانَ من البؤرِ الأمنيّة. وما التناقضُ في بنودِ الدستور سوى انعكاسٍ للتناقضِ في شخصيّتِنا الوطنيّة. وما الاختلافُ على تفسيرِ الدستور سوى انعكاسٍ لخلافِنا حول دولةِ لبنان.

كلُّ فئةٍ تُحبّ لبنانَ الذي تَتوهَّمُ أنّه لها، وأقليّةٌ تُحبُّ لبنان الذي هو للجميع. لذلك صار لبنانُ مجموعةَ لبنانات. لم نَعرف أن نكونَ أبطالًا ولا ضحايا. لم نَستفِد من أيِّ مُعطى أو صراعٍ في المِنطقة. لا مِن “ربيعٍ عربيٍّ” ولا من سقوطِ أنظمةٍ، لا مِن الحصارِ على إيران، لا من الوجودِ الروسيِّ في سوريا، لا مِن الدورِ الخليجيِّ ولا مِن الدورِ التركي، ولا من المبادرةِ الفرنسيّة. لا مِن إداراتِ بوش وكلينتون وأوباما وترامب، وبوقاحةٍ نُراهن على إدارةِ بايدن، وعلى اتّصالٍ هاتفيٍّ بين بايدن وماكرون. يا للسَخافة!

أخطرُ ما يَتعرّضُ له لبنان هو تَسلّلُ النزعةِ العدميّةِ إلى سلوكِ الجماعةِ السياسيّةِ وانتقالُـها إلى الشعبِ من خلالِ التأييدِ الأعمى للزعيم. العَدميّةُ في السياسةِ هي سلوكٌ يرفضُ المؤسّساتِ القائمةَ وقواعدَ الدستورِ ويتعاطى بسلبيّةٍ مُنتظِمةٍ مع كلِّ القضايا الآتيةِ من الآخَرين. والغريبُ أنَّ الفكرَ العدميَّ يُقاتل الاعتدالَ أيضًا. فكلّما اعتدَل الخصمُ أو الآخَرُ وحاول الحوارَ والإصلاحَ تَشتَدُّ عليه حملاتُ العَدميّين. أصحابُ هذا التيّار يرفضون مبدأَ الإصلاحِ ويؤْثِرون عليه مبدأَ النقضِ واختلاقِ “الجديدِ المختلِف”. في روسيا أقَدمَ التيّارُ العدَميُّ “نارودنايا فوليا” (Narodnaïa Volia) سنةَ 1881 على اغتيالِ الإمبراطورِ ألكسندر الثاني بينما كان يُجري إصلاحاتٍ تُخفِّفُ من ديكتاتوريّةِ النظام.

في لبنان تَتجلّى المنظومةُ العدميّةُ في إبطالِ مفعولِ الدولةِ اللبنانية ودورِها. في رفض دستورِها وميثاقِها وصيغتِها وهويّتِها ومميّزاتِها الوجودية. في إجهاضِ التسوياتِ السياسيّةِ وتغييرِ الثوابتِ اللبنانيّةِ التاريخيّة. في إرجاءِ استحقاقاتِ انبثاقِ السلطةِ بمنع انتخاباتٍ نيابيّةٍ وانتخابِ رئيسِ الجمهوريّةِ وإعاقةِ تأليفِ الحكومات. فلسفةُ العدميّةِ أن تَقضيَ أوّلًا على جميعِ أسُسِ الوجودِ الحيِّ والمتحرِّك من دونِ أن تُقدّمَ في المرحلةِ الانتقاليّةِ حلولًا بديلة. من هذه الزاويةِ الفلسفيّةِ السلبيّةِ والنفسانيّةِ المريضة أُقارِبُ جُزءًا كبيرًا من حياتنا السياسية وأُفسِّرُها، وفي طليعتِها الأزمةُ الحكوميّة. فعدا عرقلةِ تشكيلِ الحكومة، يَهدُفُ أصحابُ الفكرِ العدَميِّ إلى ضربِ مفعولِ الحكومةِ العتيدةِ ووهجِها وتعطيلِ صَدْمتِها الإيجابيّة، فتُستَهلَكُ قبلَ أنْ تولَد. هكذا تلتقي العدميّةُ بالمازوشية.

من هذه المقاربةِ الخاصّةِ، يَجدُر بأيِّ جَبهةٍ سياسيّةٍ معارِضةٍ ـــ في حالِ لاحَ نجمُها ـــ أن تَتحصَّنَ بفلسفةٍ إيجابيّةٍ وبنفسيّةٍ متوقِّدةٍ وبشخصيّاتٍ ذي صدقيّةٍ. خلاصُ لبنان يبدأُ بخلقِ ديناميّةِ مواجَهةٍ مفتوحةٍ تَرتكز على مشروعٍ وطنيٍّ وحضاريٍّ متكامِل. فإذا اتّفقت المعارضةُ ـــ وهيهاتِ أنْ تتَّفِقَ ـــ على تغييرِ الحكمِ فقط من دونِ طرحٍ إنقاذيٍّ على مستوى الشعبِ والثورةِ والمصير، تَقعُ في عدميٍّةٍ مماثلةٍ العدميّةَ الأولى، وإذا لم تَتّفِق المعارضةُ تكون حالةً عدميّةً أيضًا. ومتى احتدَم الصراعُ بين عَدميّتين تبدأُ جدليّةُ إعدامِ لبنان، أو جدليّةُ الثورةِ والقضاءِ على العدَميّتين. نحن الآن على خطِّ التّماسِّ هذا.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @AzziSejean
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى