اليَقينُ المَيِّت

بقلم مايكل يونغ*

ولّدَ وصولُ إدارةٍ جديدة في واشنطن إحساساً وشعوراً في الشرق الأوسط بأن الكثير على وشك التغيير. إن مثل هذه النظرة المُتَمَحوِرة حول الولايات المتحدة تغفل النقطة التي مفادها أن تأثيرها في المنطقة أخيراً جاء من طريق الإغفال والإهمال أكثر من الفعل.

أمضى الشرق الأوسط فترتَي رئاسة باراك أوباما والولاية الواحدة لدونالد ترامب في التكّيف مع فك الإرتباط الأميركي عن المنطقة. وقد أدى ذلك إلى نشوءِ ديناميكيات إقليمية جديدة أثارت تساؤلات حول العديد من الإفتراضات التي تمّ أخذُها على أنها مُعطَيات منذ وقتٍ ليس ببعيد. هذا هو السبب في أن العديد من الحقائق السابقة لم تعد صحيحة، وقد يكون هناك شيء مُحَرِّرٌ في ذلك.

خذ التطبيع الذي حدث في العام الفائت بين دول عربية عدة – الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب – وإسرائيل. تباينت أسباب اختيار كل دولة عربية لمثل هذا المسار، لكن الاتفاقات مُجتَمِعةً أدّت بشكلٍ فعّال إلى انهيار فكرة أن الصراع العربي-الإسرائيلي لا يزال قائماً. حتى الدول التي لم تفتح قنوات رسمية مع إسرائيل، مثل المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، فقد فعلت الشيء عينه فعلياً في كل شيء ما عدا الإسم. ماذا يعني هذا السياق الجديد للمنطقة الأوسع؟

يُمكن للمرء بالتأكيد أن يندب حقيقة أن الأشقاء العرب قد تخلوا عن الفلسطينيين. لكن في كثيرٍ من النواحي قد يُفيدهم ذلك لأنه سيُجبر جيلاً جديداً من الفلسطينيين على إعادة التفكير في مقاربته لإسرائيل بعيداً من التلاعب العربي. إن حلّ الدولتين، بحسب مُنتقديه، كان سيخلق “بانتوستان” فلسطينية، وليس سلاماً قائماً على التكافؤ والاحترام المُتبادَليَن. الآن ليس أمام الفلسطينيين خيارٌ سوى إعلام الإسرائيليين أنه في حالة عدم وجود دولة، فيحق لهم في هذه الحالة التمتّع بحقوقٍ في دولةٍ ثُنائية القومية.

من الناحية الديموغرافية، قد تكون هذه أسوأ نتيجة مُمكنة للسكان اليهود في إسرائيل، لكنها نتيجة جعلتها قيادتها حتمية تقريباً. فهي إما أن تكون دولة ثُنائية القومية أو سيكون على إسرائيل طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس، أو الإستعداد لقمعهم إلى الأبد. أحدهما أو الآخر سُيحطّم الأسس الفاضلة المزعومة للدولة اليهودية. من خلال التطبيع مع إسرائيل، تخلّت الدول العربية من هذه المشكلة الهائلة بالكامل ووضعتها في حضن الإسرائيليين، والذين ليس لديهم ببساطة حلٌّ سهلٌ لها.

ولكن كما تمّت إعادة تعريف وجود الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد تمت أيضاً إعادة تعريف فكرة المقاومة، وكذلك مجموعة الدول والأطراف التي تُطلق على نفسها اسم محور المقاومة – إيران وحلفاؤها الإقليميون، وعلى رأسها “حزب الله”، النظام السوري وحركة “حماس”. إذا قاوم الفلسطينيون في المستقبل، فسيفعلون ذلك سعياً وراء أهداف قابلة للتحقيق، مثل الحقوق المتساوية في دولة مع اليهود، بدلاً من تأمين فلسطين المستقلة. لذلك فإن طبيعة مقاومتهم لن تكون بالتأكيد من النوع الذي يُفضّله محور المقاومة – المقاومة المُسلّحة. ستكون سلمية. لا يزال الفلسطينيون بحاجة إلى الموافقة على استراتيجية مُشتَركة قبل أن يحدث هذا. ومع ذلك، فهم يُعيدون راهناً تقييم ما تعنيه المقاومة فعلياً.

إن محور المقاومة هو اليوم تحالفٌ بُنِيَ على رمال. في كل مكان، يعمل الشركاء في هذا المحور في بيئات تحدّ من قدرتهم على محاربة إسرائيل أو أميركا: سوريا مُدَمَّرة؛ “حزب الله” يتربع على “قمة” لبنان الذي انهار اقتصادياً وحيث العداء للحزب وأجندته عميق؛ النظام الفاسد والمُختل وطيفياً الذي تهيمن عليه إيران في العراق مرفوض من قبل عدد متزايد من الشباب، وكذلك من قبل كبار الشخصيات الحكومية والدينية؛ الحوثيون في اليمن يُهيمنون على دولة مُفكّكة ومُدَمَّرة؛ و”حماس” تسيطر على منطقة، غزة، هي سجن ضخم، مَنفَذُها العملي الوحيد هو نحو مصر، التي يشكّ نظامها بشدة في الحركة.

بمعنى آخر، الإنتماء إلى محور المقاومة مُرادِف للخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذه الكونفيدرالية المنكوبة لا تدوم إلّا لأن إيران وحلفاءها سيلجَؤون إلى العنف لإبقائها في مكانها. ولكن من خلال القيام بذلك، فقد ضمنوا أن فكرة محور المقاومة لمحاربة الظلم لا أساس لها، لأن تبنّي الإجراءات عينها التي يقوم بها الظالمون هو نفاقٌ سامٍ.

الإفتراض الثالث الذي تغيّر هو أن لإيران حقاً شرعياً في ممارسة السلطة في العالم العربي. للتذكر، حتى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بدا أنه يؤمن بهذا، كما أوضح لجيفري غولدبيرغ رئيس تحرير مجلة “ذي أتلانتيك” في العام 2016: “المنافسة بين السعوديين والإيرانيين، والتي ساعدت على تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن يتطلب منا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، إنهم بحاجة إلى إيجاد طريقة فعالة لمشاركة الحي وإقامة نوع من السلام البارد”.

مع وجود نائب رئيس أوباما الآن في البيت الأبيض، فإن هذه الفرضية بحاجة إلى إعادة نظر بشكل أساسي. على أي أساس يكون هذا الاعتقاد صحيحاً حيث أن إيران لا تُقدّم نموذجاً مقبولاً للعرب؟ في الواقع، إن وعدها الإقليمي يكاد يكون “أورويلياً (نسبة إلى الروائي البريطاني جورج أورويل) في تداعياته إذا كانت المقاومة تعني العزلة والخراب والتحرّر يعني القمع.

لقد استغلّت إيران الإنقسامات في تلك الدول العربية حيث حقّقت نجاحات. لقد قوّض حلفاء طهران مؤسساتها الوطنية لتوسيع قوة ونفوذ الجمهورية الإسلامية، ما ساهم في تفكك هذه الدول. إيران لديها الكثير لتُقدِّمه ثقافياً، لكنها لا تملك قوة ناعمة في كتابها اليوم. على الرغم من كل براعتها وصبرها كأمّة من نسّاجي السجاد، فإنها تُقدّم للعرب فقط قائمة كئيبة من الاستشهاد، والصراع، والفقر، والتضحية الدائمة، مع انتقامٍ شرس من أولئك الذين يتحدّون القوى السياسية التي تدعمها.

ومع ذلك، فإن عيوب طهران لا تنعكس بالضرورة بشكل إيجابي على الدول العربية. نظراً إلى أن العديد من الحكومات في المنطقة تستعد لحقبة ما بعد ترامب، فليس لديها أيضاً ما تقترحه. العالم العربي يخلو من الأفكار الكبيرة، وقد كان كذلك منذ عقود. في حين أن انتفاضات العام 2011 قد أزالت الأنظمة الاستبدادية، فقد خنق القادة في جميع الدول العربية تقريباً التطلعات الديموقراطية. الآن الدافع الرئيس للعمل هو السعي وراء المصلحة الوطنية، عادةً من طريق قوة أكبر، من دون مراعاة لما حدث قبل عقدٍ من الزمن. إن محاولة بناء نظامٍ إقليمي فعّال على ظهر القيادة العربية الحالية حمقاء مثل توقّع قيام إيران بذلك.

إذا كان الصراع العربي-الإسرائيلي انتهى، وإذا لم تعد المقاومة تعني الكثير، وإذا لم تُقدّم الدول العربية وخصومها الإيرانيون نماذج حكم ذات مصداقية للمستقبل، فإن المنطقة قد نضجت لإعادة الإبتكار الجذري. لا تستطيع الإدارة الجديدة في واشنطن المساعدة، لأن واشنطن متورّطة في النظام القديم الذي ولّد الركود والاستياء. في حين أن دول الشرق الأوسط قد تستفيد من خلال تمزيق حقائق الماضي، فإن أكبر تجاربها ستُظهر أنها تستطيع البناء على ذلك.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كَتَبَ الكاتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى