من الوُلوج والخروج إِلى نظامٍ مَكفول وكلامٍ مَسؤُول!

بقلم هنري زغيب*

 المشهد يبدو روتينيًّا. كاميرات التلـڤـزيون تنقل الحدَث مباشرةً. لِلَحظاتٍ أُولى، ظننتُ أَنه اجتماع وزاري أَو جلسة طارئة لمجلس الوزراء.

رئيس الحكومة واقف إِلى المنبر. يُخاطب المواطنين بدون ورقة أَمامه يقرأُ فيها. يعرف تمامًا موضوع كلامه بتفاصيله الدقيقة. يشرح باستفاضةٍ ووضوحٍ وتَـمَهُّلٍ بنودَ الحجْر الجديد وضرورات منع التجول حتى آخر الشهر. كلامه يوحي الثقةَ به والهيبةَ بالدولة: الذي يتكلَّم ليس موظفًا مدنيًّا أَو عسكريًّا بل رئيس الحكومة بالذات يتكلم بحزم، ويُنذر بعواقب صارمة لـمُخالفين يتجوَّلون في الشوارع. لم يُسَمِّ ذلك “ساعات الوُلوج والخروج”، بل سمَّاه منع التجوّل مُطلقًا. لم يُعدِّد استثناءاتٍ لائحتُها أَطول من الممنوعات، بل سمَّى ذلك منع التجوّل مُطلقًا.

لـمزيد من الشرح، يُنادي على السيد وزير الداخلية. لم ينسَ أَن يقول “معالي الوزير”. هذه أَلقاب لا تَليق إِلَّا للدول المُتخلِّفة. ناداه باسمه وبحقيبته. وقف رئيس الحكومة حدَّ المنبر تاركًا إِياه للوزير. شرحَ الوزير التفاصيل. لا تفاصيل “الوُلوج والخروج” بل تفاصيل منع التجوّل وحظْر التجمُّعات. لم يستنبط فكرة “تطبيق إِلكتروني” مُعقَّد على الهواتف يلزمُه تفسيرٌ أَكثرُ تعقيدًا. انتهى الوزير من مداخلته المباشرة دون قراءة نصٍّ مُعلَّب. شكَر “السيد رئيس الوزراء”. لم ينسَ أَن يقول له “دولة الرئيس”. هذه أَلقاب لا تليق إِلَّا للدول المتخلِّفة.

عاد رئيس الحكومة إِلى المنبر. علَّق على كلام الوزير مندِّدًا مَن يخالف. نادى على وزير التربية. جاء الوزير إِلى المنبر، شرح بالتفاصيل الدقيقة ظروفَ المدارس وكيفية التعامل تربويًّا مع هذه الفترة الصعبة. انتهى من كلامه الموجز. عاد رئيس الحكومة إِلى المنبر. نادى على وزيرة الأَبحاث العلْمية والتعليم العالي. شرحَت ظروف الجامعات في هذا الوضع الاستثنائي حتى آخر الشهر. وكأَيِّ رئيس جلسة أَو مدير ندوة، عاد رئيس الحكومة وأَعطى المنبر لـ”السيد وزير الصحة”. لم ينسَ أَن يقول “معالي الوزير”. هذه أَلقاب لا تليق إِلَّا للدول المتخلِّفة. شرح الوزير ضرورات الوقاية ومواعيد تلقِّي قيقة يمة واضحة. خطئ في قراءت لغةياشع. س تلحكة الفرسيةة حان كاستمس.

اللَقاح وأَماكنها وشروطها بالـ”كيف” والـ”أَين” والـ”لماذا”، ودون ادعاء أَنها “إِنجازات”. تكلَّم بِلُغة بسيطة محكية سليمة واضحة. لم يقرأْ نصًّا معلَّبا محضَّرًا يخطئُ في قراءته مكسِّرًا قواعدَ اللغة. هذه موضة لا تليق إِلَّا للدول المتخلفة.

عاد رئيس الحكومة إِلى المنبر. شكر الوزراء الأَربعة. تكلَّم بلهجةٍ صارمة وصوتٍ حازم. شرحَ ونبَّه وحذَّر، بلهجة بسيطة إِنما حاسمة. فالذي يتكلَّم ليس موظفًا مدنيًّا أَو غير مدَني، بل هو رئيس الحكومة يُخاطب الشعب: عيناه في الكاميرا لا في ورقة مكتوبة يقرأُها بلهجة ببَّغاوية. أَوجز الإِجراءات والعقوبات مُذَكِّرًا بكلام رئيس الجمهورية عند الحجْر السابق قبل أَشهر. يومها رئيس الجمهورية أَعطى توجيهاته العامة مخاطبًا شعبه مباشرةً لا قارئًا نصًّا مكتوبًا معلَّبًا، ثم أَعطى الكلام لرئيس الحكومة ووزرائه لتعداد التفاصيل.

قلتُ في بداية مقالي إِنني، لِلَحظاتٍ أُولى، ظننتُ أَنه اجتماع وزاري، أَو جلسة طارئة لمجلس الوزراء. نسيتُ أَن أَقول لكم إِنه كان، بكل بساطة، مؤْتمرًا صحافيًّا لرئيس الحكومة وأَربعة وزراء.

ذكِّروني – لَعلِّي نسيتُ من جديد – أَن أستدرك بأَنَّ هذا المشهد كان مساءَ الخميس الماضي، على شاشة القناة الفرنسية الثانية في ﭘـاريس، وذاك الذي كان يُدير الحوار ويَستضيف الوزراء تباعًا ويوجِّه تعليماته إِلى المواطنين، هو رئيسُ الحكومة الفرنسية جان كاسْتِكْس.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى