هذا الوباء هو تذكيرٌ بأن العالمَ بحاجةٍ إلى تعليمٍ شامل

 

بقلم بان كي مون*

كتب الفيلسوف التربوي والبراغماتي الكبير “جون ديوي” (John Dewey) ذات مرة: “إن جوهرَ الثقافة المُتَحَضِّرة هو أننا … نؤسّس عمداً، مُسبَقاً قبل حدوث حالات غير مُتَوَقَّعة مختلفة وطوارئ في الحياة، أجهزةً لاكتشاف نهجها وتسجيل طبيعتها، لدرء ما هو غير مواتٍ أو على الأقل لحماية أنفسنا من تأثيرها الكامل …”.

هنا يلتقط “ديوي” شيئاً أعتقد أنه يؤثر بشكل مباشر في قضايا الإستدامة التي تواجه الجميع اليوم: الإفتراض المُسبَق الأساس للتغيير المستمر. نحن بحاجة إلى التركيز على المرونة والتكيّف مع التغيير (سواء كان طبيعياً أو بشرياً) بدلاً من العيش كما لو أن الله أو الطبيعة قد مَنَحانا وجوداً لطيفاً ومُنَظّماً وهادئاً.

نحن بحاجة إلى القبول بأن التغيير هو حالتنا الإفتراضية، وأنه يجب علينا أن نتعلّم كيف نُجهّز أنفسنا لذلك. لقد أصبح من الواضح الآن أننا نواجه تغيّرات غير مسبوقة، يجلب بعضها معه تهديدات وجودية ذات حجم عالمي، وفي نطاقات زمنية يُمكن قياسها في عقود، أو حتى سنوات، بدلاً من آلاف السنين أو القرون.

إذا احتجنا في أي وقت إلى تذكير أنفسنا بهذه الحقيقة، فإن الإندفاع المُفاجئ لوباء “كوفيد-19” الحالي على الكوكب كان بمثابة دعوة حيّة للإستيقاظ. على الرغم من المعرفة بأن نوعاً من الجائحة كان مُحتَملاً، إلّا أن الإستجابة العالمية كانت مُفَكّكة وغير مُستعِدّة بشكل صادم، وتركت قطاعات واسعة من الناس ضعيفة وعاجزة. لقد كانت مأساة ولا تزال كذلك.

مع العلم أن الصدمات المستقبلية، بالحجم والضخامة عينهما، تلوح في الأفق القريب، فمن الواضح أن عدم الاستقرار والتغيير – وليس الإستقرار والتسوية – هما ما يتعيّن علينا التعامل معهما. للقيام بذلك، يجب أن نتبنّى الإجراءات والمؤسسات والعقليات التي تستوعبها وتقبلها حتى نتعامل مع العلم ونظرية المعرفة والسياسة والأخلاق من منظور هذه التغييرات.

هناك بعض القضايا الواضحة والحاسمة التي يجب علينا معالجتها على وجه السرعة. الأوبئة الحالية والمستقبلية، والإحتباس الحراري، والإنقراض الجديد – كلها تحمل تهديدات وجودية. إن اللامساواة مشكلة ضخمة ومُتنامية، مثلها مثل الفقر وتفاقم أسبابه اللذين يصاحباها. وإذا نظرنا بطريقة أكثر دقّة إلى هذه التحديات، نجد أن قضايا مثل عدم المساواة العرقية والجندرية تضغط علينا أيضاً. في هذا السياق، يصبح التعليم مورداً أكثر أهمية من أي وقت مضى. نحن بحاجة إلى عالم مُتعلّم بطريقة لا يخشى فيها التغيير أو يكون غير مُتوَقِّع، وهذا يثير قضية الوصول الشامل. كلما زاد عدد الأشخاص الذين يتلقّون تعليماً جيداً في العالم، كانت فُرَصُنا أفضل في التعامل مع التغييرات المقبلة التي لا تتوقّف، والتي تُوفّر الفرص بالإضافة إلى التحديات.

لذا فإن توفير التعليم يُمثّل أولوية قصوى لا يمكن تجاوزها. إن أحد العوائق الكبيرة التي تحول دون حصول الجميع على التعليم هو المساواة بين الجنسين. كما قلت مرات عديدة من قبل، تُعَدُّ المساواة بين الجنسين والتعليم الجيد أمرَين بالغَي الأهمية لمستقبل كوكبنا. تُشكل الإناث نصف البشرية، في حين أن نصف سكان العالم هم أيضاً دون سن ال25. ومع ذلك، على الرغم من بذل قصارى الجهود في العديد من البلدان النامية، لا يزال التعليم الإبتدائي والثانوي والعالي للفتيات يُمثّل تحدّياً. يوجد حالياً 264 مليون طفل غير مُلتحقين بالمدارس، ومعظمهم من الفتيات. العالم هو أيضاً موطنٌ لأكبر جيلٍ من الشباب على الإطلاق، مع 1.8 مليار شاب في جميع أنحائه. ما يقرب من 90 في المئة منهم يعيشون في البلدان النامية. أكثر من 70 مليون شاب عاطلون من العمل حالياً، وحوالي 40 في المئة من الشباب النشط في العالم إما عاطلون من العمل أو يعيشون في فقر – ​​على الرغم من العمل. كما نعلم جميعاً، تُولِّد البطالة العديد من المشاكل، بدءاً من عدم المساواة والجريمة إلى الإرهاب.

هذه هي فرصتنا العظيمة. تُقدّم أفضل مدارسنا بالفعل تعليماً يُنتج متعلمين يجازفون – لا يخشون التغيير، وعلى دراية، ومبتكرون، ومبدعون، وتحليليون، ومتعلمون، وعلميون، وتقنيون، ومتحمّسون للتكنولوجيا، وذوات أخلاق عالية، ومَرِنون. هؤلاء هم المواطنون الشباب الذين سيُصبحون قادة المستقبل. مَن هو الذي لم يتأثّر ويُعجَب بقيادة طلاب وطالبات المدارس مثل غريتا ثونبيرغ وملالا يوسفزاي، أصغر الفائزين والفائزات بجائزة نوبل للسلام على الإطلاق، واللتان أظهرتا الشجاعة والمثابرة والشخصية لتحمّل التحدّي الذي يواجهه مأزقنا العالمي المتغير؟ هما وغيرهما في جميع أنحاء العالم أمثلة رائعة عن سبب حاجتنا إلى ضمان حصول كل طفلٍ على تعليمٍ جيد. إنه بندٌ لا يقل أهمية وحيوية عن المأوى الجيد والغذاء والصرف الصحي والسلامة. يجب على الجميع رؤيته على أنه حقٌ غير قابل للتفاوض، وإنكارُه ليس أقل من فضيحة، ومفتاحٌ لمستقبلٍ مُستدام حيث يزدهر الجميع.

  • بان كي مون هو الأمين العام الثامن لمنظمة الأمم المتحدة، والمؤسس المشارك لمركز “بان كي مون” للمواطنين العالميين. وهو أيضاً السفير الرسمي لأكاديمية جيمس العالمية النموذجية للأمم المتحدة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى