كيف هدّدت أوهامُ وجنونُ العظمة عند بعضِ الحُكّام مصيرَ دولهم و…العالم

شهد العالم في الماضي، ولا يزال، ظاهرة تقديس الحكام، بحيث يتحوّل كأب للأمة، وفق مريديه، وصانع النهضة والوحدة الوطنية، وقائد الفكر التنويري في الأمة، وهذا ما يجعل الحاكم أسير أوهام وجنون العظمة.

العقيد مُعمّر القذافي: جنون العظمة أدى إلى نهايته

بقلم السفير يوسف صدقة*

جنون العظمة هو مُصطَلَحٌ تاريخي مُشتَق من الكلمة الإغريقية “ميغالومانيا” (Megalomania)، وتعني وسواس العظمة، بحيث يصف الشخص نفسه بما يُخالف الواقع، فيدّعي امتلاك قدراتٍ جبارة أو مواهب مميزة أو علاقات مهمة ليس لها وجود في الواقع. وقد يدفع جنون العظمة إلى البارانويا حيث يشعر الإنسان بالإضطهاد ويعيش أسير الهواجس والمؤامرات التي تُحاك ضده.

وقد تجلّى جنون العظمة في النصف الثاني من القرن الثامن العشر في فرنسا، عندما زار الملك لويس الرابع عشر وزير المالية “نيكولا فوكيه” (Nicolas Fouquet)، حيث رأى مظاهر الغنى الفاحش في قصره، وقد تبيّن أن كل ذلك كان على حساب الخزينة والدولة، فانتشرت ظاهرة جنون العظمة (Folie de Grandeur) على أثر هذه الحادثة.

على صعيد آخر، فقد يُصاب الزعيم بالنرجسية، وهي تتمثل بثقة زائدة بالنفس، تتجاوز الحدود الطبيعية ويصبح أسير تمجيد نفسه وحماية حاشيته، بحيث يجعل نفسه نصف إله، ويريد إخضاع الآخرين إلى مشيئته. ويتّصف أيضاً باحتقار الآخرين والإستعلاء، وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عن تجليات ذلك في النظام الديكتاتوري، فمَن هو ليس مع السلطة، هو ضدها. وقد جسّد جوزيف ستالين الديكتاتورية بالإجازة لنفسه فتح المُعتقلات وقتل المعارضين، والقيام بمجازر بحق مجموعات إثنية، مُعتَبِراً أن الحفاظ على النظام يُجيز له القيام بكل هذه الممارسات ضد أعداء الثورة.

أما في حالة المجتمع الغربي، فقد برهن المفكر الفرنسي فوكو أن الغرب فرّق بين المعقول وغير المعقول ليضمن مًقاربة التوازن في السلطة بين الحاكم والشعب. أما الفيلسوف باسكال، فقد اعتبر أن شغَفَ السلطة الذي يسكن الحكام يجعل من المجتمعات المدنية أسيرة للضياع والهذيان.

على صعيد المقولات التي رسخت في التاريخ الماضي والمعاصر، فقد أضفى عليها المفكر الفرنسي هنري دو مونتيرلان المعادلة التالية: “لماذا تم ذكر أنف كليوبترا الذي هزّ القائد الروماني أنطونيو والإمبراطورية الرومانية، ولم يذكر التاريخ  التقرّحات التي عانى منها الكاردينال ريشيليو والتي أثّرت في قراراته السياسية الحادة؟”. (ريشيليو كان وزير الدولة للملك لويس الثالث العاشر 1624).

سنذكر في هذا السياق بعض القيادات التي كانت مسكونة بجنون العظمة على سبيل المثال لا الحصر ومنها: الألماني أدولف هتلر، والإيطالي بينيتو موسوليني، والروسي جوزيف ستالين، والفرنسي نابوليون بونابرت.

فكان كلٌّ من نابوليون وهتلر يطمعان في احتلال أوروبا مهما كانت الأثمان.

أوهام وجنون العظمة في دول العالم الثالث

تَمثَّلَ جنون العظمة لدى الحكام في القرون الوسطى واستمر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. أما في القرن العشرين، فقد ظهر مع القيادات التي تولّت الحكم بعد زوال الإستعمار. فالذين تسلّموا السلطة استمدوا شرعيتهم من محاربة الإستعمار ومن صَوغ الأساطير حول البطولات المزعومة في مقاومته وتخليص الشعوب من أغلاله. فالحاكم هو القائد المُلهِم معبود الجماهير،
باني أسس الدولة المدنية وصانع تاريخ الأمة، وباني أمجادها في التاريخ المعاصر.

سنذكر في هذا السياق نماذج عن بعض الحكام على سبيل المثال لا الحصر. ولا سيما في بعض البلدان التي خدمتُ فيها خلال عملي الديبلوماسي ومنها تونس ومصر.

القذافي في ليبيا

يتجسّد مفهوم جنون العظمة بالعقيد مُعمّر القذافي، والذي أصدر الكتاب الأخضر في العام 1975 ليعرض فيه أفكاره حول أنظمة الحكم والديموقراطية والإشتراكية والحرية. وقد ابتدع النظام الجماهيري القائم على المؤتمرات الشعبية، والتي تُمثّل المحافظات الليبية. وقد أعلن القذافي أن الكتاب الأخضر، هو الحل الوحيد للحرية والديموقراطية ونظام الحكم. حاول القذافي نشر مبادئ الجماهيرية في دول أفريقية عدة، إلّا أن النظام الجماهيري ولّد الفوضى في ليبيا، ولم يتلاءم مع التطلعات الشعبية والإرث الثقافي للمجتمع الليبي، فسقطت التجربة قبل أن يسقط القذافي.

وقد سكِرَ القذافي من جنون وأوهام العظمة، بعد إطلاق بعض الدول والقبائل الأفريقية عليه، “ملك ملوك افريقيا”. وكاد، لولا الخوف من إيمان الشعب الليبي، أن يُصبِغَ على نفسه صفة النبوّة.

تونــــس

مارس الرئيس الحبيب بورقيبة السلطة الأبوية والبطريركية للأمة التونسية. وقد صوّرته وسائل الإعلام التونسية بأنه مؤسس تونس الحديثة، القائد البطل الذي واجه المستعمر الفرنسي، المفاوض العنيد مع المستعمر في معركة الجلاء، محرر المرأة، باني تونس الحديثة، القائد التاريخي الذي أنتجته تونس بعد هنيبعل وأليسار. وقد بلغت أوهام العظمة عند بورقيبة، بحيث كان يتجاوز في خطاباته في بعض الأحيان الأمور السياسية إلى الأمور الحياتية، بإعتباره المعلم الأول للأمة التونسية. فيتحدّث عن طفولته ومحبته لوالدته، كما يتحدث كذلك في الطب والأكل الصحي وأهميته، ودور المرأة في المجتمع. وقد حاول في بداية ستينات القرن الفائت تفسير الإسلام على طريقته، إلا أنه تراجع بعد ثورة مشايخ الزيتونة، ضد أفكاره المناهضة للقرآن والسنّة.

أما الرئيس زين العابدين بن علي، فقد جعل من السابع من تشرين الثاني (نوفمبر)1987، تاريخاً مفصلياً لتونس لدى تسلمه السلطة وإزاحة الرئيس بورقيبة. فبداية الإنتعاش الاقتصادي ظهرت  بعد السابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، وكذلك الوحدة الوطنية والتحوّل الديموقراطي، ومكافحة الفقر. وقد ذهبت أوهام العظمة عند الرئيس بن علي، عن قصد أو غير قصد، إلى إعتبار أن تاريخ تونس الحديث قد بدأ بعد وصوله إلى قصر قرطاج. وقد تم تهميش دور الرئيس بورقيبة خلال عهده في تاريخ تونس الحديث.

مصــر مبـــارك

بدأ الرئيس حسني مبارك ولايته في العام 1981. وقد تصرّف في الأعوام الأولى من الولاية كرئيس عادي، يحاول إعادة العلاقات بين مصر والعالم العربي، وترميم ما أحدثه الرئيس أنور السادات من خضّات سياسية وإقتصادية في البلاد. إلّا أنه في الولاية الثانية، وبعد تمكّنه من الحكم، وسيطرته على المؤسسات، بدأت رحلة الرئيس مبارك مع أوهام العظمة، وقد ساهم في بلورتها وزير الإعلام صفوت الشريف والذي عمل في “البروباغندا” الإعلامية التي انتهجها، على إعطاء هالة وعبقرية للرئيس مبارك. وقد عمد الأخير إلى الإطاحة بالشخصيات التي تتمتع بالشعبية في الشارع المصري ومنها المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، ورئيس الأركان العامة السابق الفريق صلاح محمد عطية حلبي، والسياسي والكاتب المخضرم محمد حسنين هيكل وغيرهم.

وقد تجلّت دعاية الوزير الشريف في أبهى صورتها في الإحتفالات السنوية لحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، حيث ركز الإعلام على أن الضربة الجوية الأولى التي قام بها قائد سلاح الجو آنذاك الفريق حسني  مبارك، كان لها الأثر الرئيس في الإنتصار في تلك الحرب، وقد تناسى الإعلام الأدوار الرئيسة التي أدّاها كل من الفريق سعد الدين الشاذلي والمشير محمد عبد الغني الجمسي.

إلّا أن أوهام العظمة التي سكنت الرئيس مبارك والتي أدت إلى إطاحته، هي رغبته في توريث إبنه جمال الحكم، في بلد لم يعرف إلا حكم العسكر منذ ثورة تموز (يوليو) 1952.

زيمبــــابـــــــوي

إعتمد الرئيس روبرت موغابي (1987-2017) خلال حكمه على الخطابات المُدوية في محاربة الإستعمار ولا سيما البريطاني. وقد وصل به الغرور إلى إطلاق إيديولوجية أطلق عليها “الموغابية” (Mugabeism)، ترتكز على المبادئ الماركسية – اللينينية والتي تهدف إلى الدفاع عن المواطنين السود والصراع ضد الإمبريالية، والدفاع عن الهوية الزيمبابوية. وقد نصّب نفسه حاكماً مُطلقاً، واعتبر نفسه القائد المُلهَم الذي حرّر بلاده من الإستعمار البريطاني.

ظاهرة دونالد ترامب

تم تشخيص حالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قبل أخصائيين أميركيين، بأنه يعاني من 3 سمات خطيرة وهي جنون العظمة، عدم التعاطف مع الأخرين والسادية، كما أنه يعاني من بارانويا، وهي سمة الإنفصال عن الواقع، حيث يعتقد أنه يتعرض للتهديد والإضطهاد الدائم من قبل أعداء حقيقيين أو وهميين.

ويظهر ترامب جنون العظمة في تصرفاته، بحيث يؤنب رؤساء الدول ويهاجم الدول والفقراء والضعفاء والأسر المهاجرة.

ويعتقد معظم الخبراء في الولايات المتحدة أن ترامب يعاني من أمراض نفسية عدة تجعله يشكل خطراً حقيقياً على العالم.

وقد ذكر الصحافي الأميركي بوب وودوارد في كتابه “غضب” (Rage)، معلومات مثيرة حول تصرفات ترامب مع الوزراء والمساعدين، بحيث كان يمارس السلطة باستعلاء وعنجهية مرضية. نذكر منها النقاش حول إتفاقية “كوروس” (Korus) للتجارة الحرة مع كوريا الجنوبية، حيث كاد يلغيها، لأنها تُعتَبَر حسب رأيه خسارة إقتصادياً، متناسياً أهمية الأمن القومي الأميركي في مواجهة كوريا الشمالية. وكان حاضراً في الجلسة كلٌّ من رئيس الموظفين في البيت الأبيض الجنرال جون كيلي ومستشار الأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر ووزير الخارجية ريكس تيلرسون  ووزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس. هذا وقد تصرف الرئيس ترامب في معظم مراحل ولايته ولا سيما في الفترة الأخيرة كحاكم في بلد من بلدان العالم الثالث، عندما حرّض أخيراً أنصاره على إحتلال مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني (يناير) الماضي، رافضاً نتيجة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها جو بايدن، وقد رافق العملية تخريب وتكسير وسقوط قتلى وجرحى. وقد فشل ترامب مع نرجسيته وانتصرت الديموقراطية الأميركية.

وهكذا فان جنون العظمة يسكن بعض الحكام بدرجات متفاوتة من لويس الرابع عشر “الدولة هي أنا” (L’Etat c’est moi)، إلى بعض الحكام المعاصرين.

فمتى يعرف الحكام أن يحكموا باسم الشعب، ومن أجل الشعب، وليس خدمة لنرجسيتهم ومجدهم وأوهام العظمة.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى