نُجومُ العام الجديد في الدانوب الأَزرق

المجمَّع الموسيقي سنة 1898

بقلم هنري زغيب*

“هذه التي بين أَيدي زملائي هنا، ليست أَسلحةَ قتالٍ تُـميت بل أَزهارُ جمالٍ تُـحيـي. أَتمنَّى للأَجيال الجديدة إِدراكَها أَنَّ الموسيقى غذاءٌ للفكْر والروح كما الطعمُ غذاءٌ للجسد. وأَتمنَّى لحكُومات الدول أَلَّا ترى إِلى الموسيقى ترفًا ثانويًّا أَو ترفيهًا تسلويًّا، بل عُنصرًا أَوَّلَ في بناءِ مجتمعٍ أَفضل”.

بهذه الكلمات الساطعة (وأَرجو أَن أَكونَ ترجمتُها بأَمانة) ختم قائد الأُوركسترا الشهير ريكاردو موتِّـي كونشرتو رأْس السنة 2021 ظُهْر الجمعة الماضي (1/1/2021) على رأْس أُوركسترا ڤـيـيـنَّـا الفلهارمونية الفخمة على مسرح “القاعة الذهبية” الفخمة في مبنى “جمعية أَصدقاء موسيقى ڤـيينا”.

أُمسية موسيقية لأُوركسترا ڤـيينا الفِلهارمونية (24/4/1910)

الحدَث السنوي

إِنها، منذ عشرات السنين في النهار الأَول من كل سنة، ظاهرة سنوية تشهدها هذه القاعة بحضور حشْد غفير يملأُ مقاعدها وشرفاتها بجمهور يحجز بطاقاته ويشتريها خلال أَشهر السنة كي لا يفوِّتَ عليه مناسبة فريدة يتقاطر إِليها من دول قريبة وبعيدة.

حشد غفير؟ صحيح. لكنها منذ تأْسيسها قبل 150 سنة (1870)، تشهد أَول كونشرتو في تاريخها… بدون جمهور، بسبب تعليمات الدولة في جائحة كورونا.

بدون جمهور؟ بدون جمهور على مقاعدها، نعَم، لكنَّ جمهورًا أَكبر من اتساعها كان يتابعها – إِلكترونيًّا عن بُعد – من 53 دولة في العالم، بلغ 7000 مشاهد بحسب مدوَّنة التسجيل، إِذ كان على مَن يرغب في متابعتها تسجيل اسمه ورقم هاتفه وعنوانه الإِلكتروني في تطبيق إِلكتروني خاص يتيح له الدخول (الافتراضي) إِلى القاعة للمتابعة المباشرة. وهو ما لاحظناه عند خاتمة كل مقطوعة حين نسمع انفجارَ تصفيقٍ هائلًا فتظهر خلف الأُوركسترا شاشة كبرى (كما على شاشتنا التلـڤـزيونية) عشرات الشاشات الصغيرة نرى فيها الجمهور من جميع الدول يصفِّق بهجةً للمقطوعات الكلاسيكية الرائعة وعزف الأُوركسترا السىاحر.

هذا الكونشرتو السنوي الجميل يُغري بالتعرُّف إِلى تاريخ هذه القاعة الجميلة.

عازفو أُوركسترا ڤـيينا الفِلهارمونية سنة 1864

أَصدقاء موسيقى ڤـيينا

سنة 1812 تشكَّلَت من محبِّي الموسيقى حلقة سمَّوها “جمعية أَصدقاء موسيقى ڤـيينا” لــ”تشجيع نشْر الموسيقى تقديمًا وتثقيفًا”. المؤسس جوزف سونْلايْــتْــنِــر (1766 – 1835) كان مدير مسرح البلاط الملكي في ڤـيينا. وعاد ريع أَول أُمسيتَين موسيقيَّتَين (29/11/1812 و 3/12/1812) لتغذية صندوق الجمعية الذي أَضاف إِليه الأَمبراطور فرنسوا الأَول (1768 – 1835)  بالعملة المحلية فترتئذٍ مبلغًا تشجيعيًّا من1000 فلورِن.

بقيَت الجمعية 40 سنة (1830-1870) تقدم أُمسياتها الموسيقية في مسرح صغير من 700 مقعد، حتى قدَّم الأَمبراطور فرنسوا جوزف (1830 – 1916) قطعة أَرض هبةً للجمعية سنة 1863 كي تشيِّد عليها مبنًى متعدِّد المسارح. وهذا ما حصل، وانتهى البناء محتويًا ثلاثَ قاعات: كبرى للأُوركسترا الفلهارمونية وقاعتان صُغرَيَان لموسيقى الحجرة. كان فعلًا، حجمًا وتقنيةَ صوت، أَحد أَكبر ثلاثة مسارح في العالم (مع قاعة بوسطن السمفونية ومسرح الكونشرتوات في أَمستردام). وتم تدشين المبنى بكونشرتو مع أُوركسترا ڤـيـيـنَّـا الفلهارمونية في 6/1/1870. ثم تطوَّر المبنى إِلى خمس: القاعة الذهبية  (1744 مقعدًا، و300 مقعد على الشرفات)، قاعة براهمز (600 مقعد)، القاعة الزجاجية (380 مقعدًا)، القاعة المعدنية (126 مقعدًا)، القاعة الرخامية (70 مقعدًا)، وأُضيفت إِليه سنة 1913 قاعة كبرى للمكتبة والمطالعة والأَرشيـڤ.

وعدا كونشرتو رأْس السنة، تزخر قاعات مسارح المبنى بحياة موسيقية متواصلة بين موسيقى كلاسيكية ورومانسية وحديثة، إِلى برامج تثقيفية للشبيبة تعويدًا الجيلَ الجديد على الحياة الموسيقية اليومية التي تمتدُّ من الكلاسيكية إِلى الجاز.

رسم تشبيهي للقاعة الكبرى ليلة أَول كونشرتو (29/11/1812)

أُوركسترا ڤـيـيـنَّـا الفلهارمونية

هي الأُوركسترا النمساوية الأَشهر. تأَسست سنة 1842 بموسيقيين أَعضاء من “أُوﭘـرا ڤـيينا الرسمية”. كانت تقدِّم أُمسياتها في القاعة الكبرى من مبنى “جمعية أَصدقاء موسيقى ڤـيينا”، وخصوصًا مهرجان سالزبورغ كل صيف. ومنذ 1941 دشَّنت التقليد السنوي بتقديم كونشرتو رأْس السنة في اليوم الأَول من كل عام جديد، تعزف فيه أَعمالًا من أُسرة شتراوس الموسيقية: يوهان شتراوس الأَب (1804-1849)، وأَبناؤُه الثلاثة: يوهان شتراوس الابن (1825-1899)، جوزف شتراوس (1827-1870)، إِدوار شتراوس (1835-1916) وابنُه يوهان شتراوس الحفيد (1866-1939)، وإِدوار شتراوس الحفيد (1910-1969).

ومنذ 1941 تعاقب على قيادة الأُوركسترا كبار أَعلام العصر، أَبرزُهم هربرت ڤـون كارايان (1908-1989)، وكلاوديو آبادو (1933-2014). ومن فرادة تقاليد هذه الأُوركسترا أَنها بإِدارة موسيقييها فقط، يختارون كل عام قائدًا يقود الأُوركسترا لكونشرتو رأْس السنة. ومن تقاليدها أَيضًا في تلك القاعة الذهبية (اليوم إحدى أَجمل قاعات العالم) – أَنها تفتح أَبوابها ليلَتَـي 30 و31 كانون الأَول (ديسمبر) لجمهور يتاح له حضورُ التمرينَين (قبل الأَخير ثم الأَخير) قبل كونشرتو رأْس السنة الذي يتابعه سنويًّا نحو 50 مليون مشاهد تلـڤـزيوني من نحو 50 دولة في العالم على الشاشة الفرنسية الثانية.

نجوم في الدانوب الأَزرق

هذا العام 2021 استضافت الأُوركسترا القائد العالمي ريكاردو موتِّـي (80 سنة) وهو كان لنحو 20 سنة مدير مسرح “سكالا دي ميلانو”، وعرفه معظم مسارح العالم حتى غدا أَحد أَشهر قادة الأُوركسترا في القرن العشرين.

هكذا نهار الجمعة الماضي قاد (للمرة السادسة إِبَّان مسيرته الطويلة) هذه الأُوركسترا الضخمة (149 موسيقيًّا) بمقطوعات شتراوسيَّة جميلة ختمها كما دائمًا بـڤـالس “الدانوب الأَزرق” (1866 ليوهان شتراوس الابن) و”لحن رادِتْسْكي” (1848 ليوهان شتراوس الأَب).

هذا هو “الحدَث” الموسيقي السنوي الذي افتتحنا به العامَ الحالي، ولو عن بُعد، في ڤـيينا، المدينة الساحرة الجمال التي كلُّ متذوِّقٍ أَلوانَ الثقافة يتمنَّى أَن يكون وُلِدَ فيها أَو يعيش في حناياها، على جبين كل جدار فيها تعلو زهرةُ فنٍّ أَو وَمضةُ ثقافة، من كلِّ ركنٍ فيها يأْرجُ عطرُ الموسيقى ويضوع عبير الفنون، ومع كل دفقة صامتة من نهرها الدهريّ تُولدُ نجمة جديدة في دانوبها الأَزرق.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في موقع “النهار العربي” من صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى