كيف غَيَّرَ “الربيع العربي” كلّ شيءٍ – في أوروبا

بعد عقد من بدء بعض العرب ثورة إقليمية أدّت إلى تداعيات إقليمية ودولية، فإن القارة العجوز المجاورة لن تكون كما كانت.

الرئيسان إيمانويل ماكرون وعبد الفتاح السيسي: الأول منح الثاني أعلى أوسمة فرنسا، وسام جوقة الشرف.

بقلم أنشال فوهرا*

  بعد عقدٍ على “الربيع العربي”، لم يتحسّن الوضع كثيراً بالنسبة إلى أولئك الذين وقفوا ضد المُستبدّين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وطالبوا بحياةٍ أفضل. لا تزال معظم البلدان التي اندلعت فيها مظاهرات ثم أعمال عنف تحكمها أنظمة استبدادية التي يُعتَبَر القمع والفساد في ظلها أمراً روتينياً في الوقت الذي استمرت الصعوبات الاقتصادية بلا هوادة.

ومع ذلك، فإن أوروبا صارت قارّة مختلفة عمّا كانت عليه قبل العام 2011 – ولأسبابٍ تتعلّق مباشرة بالثورات الفاشلة في الجوار. أولاً، أوروبا مُنقسمة. كان تصويت المملكة المتحدة على الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي، جزئياً، ردّ فعلٍ على أزمة اللاجئين التي أثارتها الإنتفاضة السورية، والحرب الأهلية اللاحقة. وقد استفادت الأحزاب السياسية الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا منذ سنوات من المخاوف المتزايدة من الإسلام والتطرف، واستخدمت الأمر لزيادة شعبيتها.

كما تغيّرت السياسة الخارجية الأوروبية فعلياً بشكل ملموس، حيث أيّدت بلدان الإتحاد الأوروبي على نحو متزايد الديكتاتوريين الجدد الذين ظهروا على الحدود الجنوبية للقارة، حتى من دون ورقة التوت من الأخلاق الليبرالية التي أثاروها ذات مرة. باختصار، لم تفشل أحداث “الربيع العربي” في جعل الدول العربية أكثر استقراراً فحسب، بل جعلت الدول الأوروبية أيضاً أقل استقراراً.

في العام 2015، وجدت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أنه من المُستهجَن حرمان السوريين الذين دُمِّرَت منازلهم ومدنهم بأكملها في موجة قصف جنونية قام بها نظام بشار الأسد. فتحت ألمانيا أبوابها أمام اللاجئين، ودخلها ما يقرب من مليون شخص. وأشاد الكثيرون بهذا القرار باعتباره الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به. لكن تداعياته كانت بعيدة المدى.

قالت إيما سكاي، الزميلة البارزة في معهد جاكسون بجامعة “يال”، إن الحدّ من الهجرة كان الدافع الرئيس للقرار البريطاني بمغادرة الإتحاد الأوروبي، وتذكّرت كيف أثار الشعبويون انعدام الأمن لصالحهم. قالت: “نايجل فاراج، زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة اليميني المتطرف، تم تصويره وهو يقف أمام ملصق ضخم للاجئين السوريين على الحدود بين سلوفينيا وكرواتيا. كان التضمين واضحاً: ما لم تغادر المملكة المتحدة الإتحاد الأوروبي وتستعيد السيطرة على حدودها، سيتدفّق اللاجئون إلى بريطانيا. كانت هناك تغطية إعلامية متواصلة للاشتباكات في” الغابة “- المخيم المؤقت في كاليه – بين الشرطة الفرنسية والمهاجرين اليائسين للوصول إلى المملكة المتحدة”.

مع قيام مئات الآلاف بركوب القوارب والفرار وقضاء شهور وسنوات في معسكرات ضيقة للوصول إلى برّ الأمان، رأى الشعبويون – الذين كانوا حتى الآن على الهامش في السياسة الأوروبية – فرصتهم. لقد استغلوا مخاوف العديد من الأوروبيين من أن وظائفهم قد تُمنَح للاجئين أو أن وجود أناسٍ من ثقافات مُختلفة بشكلٍ واضح – وفي الغالب دين واحد، هو الإسلام – قد يُغيّر أسلوب حياتهم. نشأ العداء تجاه اللاجئين من الإسلاموفوبيا المتأصّلة بعمق في أذهان العديد من الأوروبيين. ومع ذلك، فإن ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وسوريا، وسلسلة الهجمات الإرهابية التي نفّذها أعضاء هذه الجماعة المتطرفة أو مؤيدوها في أوروبا، ساعدت الشعبويين أكثر. أدّت الهجرة إلى تفاقم المخاوف من هجمات المتطرفين وغيّرت وجه السياسة الأوروبية، ربما إلى الأبد.

غالباً ما تكون المحادثات اليومية على طاولات القهوة في أوروبا، حتى في المدن التي تُعتبَر مراكز للأفكار الليبرالية مثل باريس وبرلين، مُعادية للأجانب. وينقسم النظام السياسي على نطاق واسع بين أولئك الذين يشعرون بالميل أخلاقياً لمساعدة اللاجئين وأولئك الذين يرونهم عبئاً ثقيلاً؛ بين أولئك الذين يفرقون بشدة بين الإسلام والتطرف الإسلامي، وأولئك الذين يرفضون الإسلام علانية (أو الإسلاموفوبيون).

واختبر العقد الماضي أيضاً قِيَم السياسة الخارجية الأوروبية المُعلَنة ذاتياً. فهي تدافع عن الحرية والديموقراطية ولكنها تفتقر بشكل متزايد إلى الإرادة للترويج لهما في الخارج. يشعر العديد من الشباب العرب الذين يتطلعون إلى أوروبا بخيبة أمل، ويرون بشكل متزايد أن الحكومات الأوروبية تخدم مصالحها الذاتية.

تقوم الدول الأوروبية الكبرى كفرنسا وألمانيا بأعمالٍ تجارية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المُستبد الذي حلّ ببساطة محل الرئيس الإسلامي المُنتَخب ديموقراطياً وحكومته التي شكّلها بعد الإطاحة بالديكتاتور القديم حسني مبارك. في وقت سابق من الشهر الفائت، قامت فرنسا بفرش سجادة حمراء للسيسي ومنحته أعلى أوسمتها الرسمية، وسام جوقة الشرف. لم يكن لقمع السيسي الوحشي للمعارضة السياسية والإسلاميين والليبراليين أي تأثير يُذكر على قرار فرنسا. يقول النشطاء إن 60 ألف سجين سياسي يقبعون داخل السجون المصرية، والصحافة مُكمَّمة بانتظام، ونشطاء المجتمع المدني مرعوبون.

قال جوليان بارنز-داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن “الربيع العربي” قدّم فرصة لإعادة تشكيل التطورات على الأرض، لكن أوروبا فشلت في تحقيق ذلك. وأضاف: “التركيز الأوروبي يتقلّص بشكل متزايد على تحديات الأمن والهجرة مع تراجع الثقة بالنفس في أي قدرة على دفع النظام السياسي في المنطقة في اتجاه أكثر إيجابية. بعد عشر سنين من الانتفاضات، يُعيد بعض الأوروبيين الآن تبنّي فكرة الإستقرار الاستبدادي، كما يتجلّى في الإحتضان المتزايد للرئيس السيسي في مصر”.

في ليبيا، أطاح تدخل فرنسا وحلف الناتو بقيادة المملكة المتحدة معمر القذافي. ولكن نظراً إلى أن فراغ السلطة أدّى إلى حربٍ بين مختلف أصحاب المصلحة – الإسلاميين والمتطرفين والقبائل ونجل القذافي سيف القذافي والمارشال خليفة حفتر – إنزلقت ليبيا في حالة من الفوضى. بعد القذافي، كان من المتوقع أن تُدير أوروبا التداعيات وتقود ليبيا نحو انتقال سياسي ديموقراطي، لكنها بقيت غير فعّالة بشكل رئيس لأنها ليست لديها مصلحة ولا خطط لتحقيق الاستقرار في البلاد؛ ووجّهت أنظارها ببساطة في الاتجاه الآخر. يُظهر الصراع الآن خصومات إقليمية أوسع بين تركيا وقطر، اللتين تدعمان الحكومة المُعترف بها دولياً والمدعومة أيضاً من الإسلاميين السياسيين، والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، التي تعتبر الإسلاميين السياسيين ألدّ أعدائها، وتدعم حفتر الذي يمكن أن يمنحها ما تُريد.

يدعم الأوروبيون ظاهرياً عملية سلام بوساطة الأمم المتحدة، لكن بعض سياساتهم يُطيل الحرب الأهلية. تفيد تقارير عدة أن ألمانيا، على سبيل المثال، باعت أسلحة لكلا الطرفين المُتحاربَين في الصراع الليبي، لكنها، مثل إيطاليا، لم تدعم أحداً أيضاً سياسياً. لكن من ناحية أخرى، إن فرنسا مُتّهمة بتسليح قوات حفتر ضمنياً، إذ يراهن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الرجل القوي حفتر لاحتواء المهاجرين والمتطرفين من بينهم الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا. وقال محللون فرنسيون إن عدم الاستقرار الداخلي في فرنسا مُرتبطٌ بالتشدّد الإسلامي في بعض الدول الأفريقية في حزام الصحراء والساحل التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة.

كانت لأوروبا علاقة معاملات مماثلة مع القذافي كالتي تبنيها الآن مع السيسي وحفتر. في العام 2010، طالب القذافي بخمسة مليارات يورو سنوياً من الدول الأوروبية إذا أرادت منه وقف الهجرة الأفريقية غير الشرعية وتجنّب “أوروبا السوداء”، كما ورد في تقارير صحافية عدة. لكن استبداده واضطهاده وقمعه هي التي أدّت في النهاية إلى التمرّد والحرب الأهلية والهجرة الجماعية إلى أوروبا.

من جهتهم، إستخدم الديكتاتوريون عبر البحر الأبيض المتوسط ​​مرة أخرى التهديد بفتح أبواب المهاجرين الاقتصاديين والمتطرفين كابتزاز لأوروبا وقدموا أنفسهم على أنهم لا غنى عنهم لتأمين حدودها. لقد أظهر “الربيع العربي” أن الإستمرار كالمعتاد مع الأنظمة الديكتاتورية كان سياسة انهزامية لأوروبا. ومع ذلك، فإن هذا بالضبط هو النهج الذي يبدو أن العديد من الدول الأوروبية تتبنّاه مرة أخرى راهناً.

قال جوست هيلترمان، مدير برنامج مجموعة الأزمات الدولية للشرق الأوسط، إن أوروبا أساءت فهم طبيعة “الربيع العربي” منذ البداية كحركة حول الديموقراطية: “لم يكن الناس في الساحات غاضبون بسبب الديموقراطية في المقام الأول، لكن الأوروبيين أرادوهم أن يكونوا كذلك. أراد المتظاهرون حُكماً أفضل بشكل كبير، وإذا فشلوا في ذلك، فقد أرادوا الإطاحة بأنظمة فاسدة وغير مستجيبة. عندما أسفرت الإحتجاجات عن نتائج عنيفة وفوضوية، أصبح الأوروبيون أكثر حذراً، وألقوا باللوم على الإسلام السياسي لغياب التقدّم الديموقراطي، وشدّدوا الضوابط الحدودية ضد اللاجئين والمهاجرين، حبث اشتبهوا في أن يكون بينهم جهاديون يحاولون الوصول إلى أوروبا”.

“في النهاية، أعادت الحكومات الأوروبية تبنّي نموذج الإستقرار (دعم الأنظمة الإستبدادية – الشيطان الذي تعرفه) الذي أدّى إلى اندلاع الانتفاضات الشعبية في المقام الأول”، على حدّ قول هيلترمان.

في ما يتعلق بسوريا، فإن أوروبا مُوَحَّدة رسمياً وجعلت توفير أموال إعادة الإعمار مشروطة بالتحوّل السياسي المتوافق مع قرار الأمم المتحدة رقم 2254، الذي يدعو إلى إشراك المتمردين في السياسة السورية، والإفراج عن السجناء السياسيين، والمساءلة عن جرائم الحرب. لكن وراء الأبواب المُغلَقة، دعا الشعبويون في إيطاليا ودول أخرى عدة إلى استئناف العلاقات مع نظام الأسد. بينما تريد روما التنسيق مع أجهزة مخابرات الأسد بشأن المتطرفين الذين ربما عبروا حدودها، يؤكد حزب المعارضة الرئيسي البديل في ألمانيا أن السوريين آمنون في عهد الأسد وقد حان الوقت لمغادرة اللاجئين والعودة إلى بلادهم. بدلاً من تغيير النظام، خفّفت أوروبا من توقعاتها وطموحاتها إلى تغيير سلوك النظام.

قال أوليفييه غيتا، رئيس شركة أمنية تُقدّم المشورة للحكومات في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، إن رفض أوروبا التدخّل عسكرياً في سوريا هو الخطيئة الأساسية التي دفعت الغربيين المسلمين إلى أحضان تنظيم “الدولة الإسلامية”: “كان الأساس المنطقي لإقناع الشباب الغربيين [بالإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”] بسيطاً: من المفترض أن حكومتك تدافع عن حقوق الإنسان ولكن عندما يتعلق الأمر بإنقاذ حياة المسلمين، فإنها لا تهتم. نحن بحاجة إلى مساعدتكم، تعالوا وانضموا إلينا. وقد أخبرتني أجهزة الأمن الأوروبية أن مستوى التهديد اليوم أعلى مما كان عليه في ذروة تنظيم “الدولة الإسلامية” في العام 2015 الذي شهد الهجمات الكبرى في أوروبا”.

مع ذلك، إستشهد خبراء آخرون بانهيار ليبيا واختلفوا في أن العمل العسكري في سوريا هو المسار الصحيح للعمل. كانت ساحة المعركة السورية أيضاً مليئة بجميع أنواع الجماعات، بما فيها الجهادية وليس فقط بقوات “الجيش السوري الحر” المعتدلة. علاوة على ذلك، كان المتظاهرون الديموقراطيون والليبراليون قوّة غير منظمة. لقد حكم نظام البعث بقبضة من حديد ولم يسمح أبداً لأي معارضة سياسية ذات مغزى بالظهور. جعلت الحقائق على الأرض من الصعب على أوروبا والولايات المتحدة تنفيذ عملية عسكرية نهائية ضد نظام الأسد.

على الرغم من كل إخفاقاتها، فقد أرسلت أوروبا مليارات الدولارات كمساعدات وظلّت ثابتة في الحفاظ على بعض حركات المجتمع المدني التي انبثقت من “الربيع العربي”، حتى لو كان حاملو الشعلة في المنفى.

قال بارنز-داسي من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: “يبدو أن الدرس الحقيقي هو أن الإصلاح الهادف يحتاج إلى تدعيم التغيير من تحت إلى فوق بدل سحب البساط من تحت أقدام الحكام الحاليين فجأة”.

  • أنشال فوهرا هي كاتبة عمود في “فورين بوليسي”، ومراسلة تلفزيونية مستقلة ومعلقة عن الشرق الأوسط في بيروت. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @anchalvohra
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى