لماذا لا يوجد حلٌّ سهل للنزاع بين أميركا وتركيا حول الصواريخ الروسية

منذ أن استحوذت تركيا على برنامج صورايخ “أس-400” من روسيا، ساءت علاقاتها مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ويبدو أن إعادة العلاقات إلى ما كانت عليها بين أنقرة وواشنطن ليست بالأمر السهل.

صواريخ “أس-400” الروسية: كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات الأميركية-التركية.

بقلم ميشال مظلوم*

رداً على ضغوطٍ قوية من الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونغرس، فرضت وزارة الخارجية الأميركية عقوبات على تركيا في وقت سابق من كانون الأول (ديسمبر) 2020، لمعاقبتها على شراء نظام صاروخي مُتطوّر مُضاد للطائرات من روسيا في العام 2019. وتشمل العقوبات حظراً على تراخيص التصدير لوكالة المشتريات العسكرية التركية، وكذلك تجميد الأصول وقيود التأشيرات على كبار المسؤولين في هذه المنظمة. ليس من المستغرب أن تركيا، وهي عضو رئيس في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وصفت هذه الخطوة بأنها “خطأ فادح” وهدّدت بالإنتقام.

إن المشاجرات التي استمرّت لسنوات حول شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي “أس-400” (S-400)، بحوالي 2.5 ملياري دولار، ستُدرَج في سجلات الديبلوماسية باعتبارها واحدة من أكثر الأحداث التي لا لزوم لها وكان يُمكن تجنّبها، كما أنها غريبة في التاريخ الحديث. ومع ذلك، بقدر ما قد يكون الأمر مُحيّراً، يبدو أنه لا يوجد مخرجٌ من نزاعٍ يلحق أضراراً لا توصف بعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين في “الناتو”، فضلاً عن وضع القيادة التركية والجيش التركي. إن الفائز الوحيد هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لا يضحك فقط وهو في طريقه إلى البنك، ولكنه يستمتع أيضاً بمشهد أنقرة وواشنطن وهما تتشاجران بشأن بندٍ آخر في قائمة طويلة من الخلافات.

قرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأول مرة شراء برنامج صواريخ “أس-400” في العام 2017، بعد ادّعائه بأن واشنطن رفضت بيع صواريخ “باتريوت” الأميركية بشروط مقبولة للأتراك، لا سيما بالنسبة إلى مطالبة أنقرة باتفاقات نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك. سرعان ما أشارت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى أن نظام “أس-400” لم يكن فقط غير متوافق مع البنية التحتية الدفاعية لحلف الناتو، ولكنه سيُهدّد الطائرات المقاتلة الأميركية المتقدمة من طراز “أف-35” (F-35) التي تُخطّط تركيا لشرائها من أجل تحديث أسطولها المُتقادم من طراز “أف-16أس” (F-16s). خشي المسؤولون في أميركا وحلف شمال الأطلسي من أن تؤدي بطارية روسية مضادة للطائرات ونظام رادار في تركيا إلى تعريض أسرار مقاتلات “أف-35” للخطر، وخصوصاً قدراتها الفريدة في التخفّي.

المفارقة هي أن تركيا كانت جزءاً من برنامج “أف-35” وشريكاً فيه. كان من المقرر تصنيع العديد من مُكوّنات الطائرات في المصانع التركية، كما كان من المقرر أيضاً أن تُصبح تركيا مركزاً لصيانة طائرات “أف-35” التي تعمل في دول الناتو الأخرى. بالإضافة إلى نقل التكنولوجيا، كان دور أنقرة في البرنامج سيُحقّق مليارات الدولارات من عائدات التصدير. وعندما تجاهل أردوغان التحذيرات المتكررة من واشنطن بأن هذه الفوائد ستضيع إذا دفع قُدُماً في الحصول على “أس-400″، فقد تمّ استبعاد تركيا من برنامج “أف-35” في العام الفائت.

بالإفتراض بأن تركيا لن تعود أبداً إلى برنامج “أف-35″، فإن الضرر سيكون طويل الأمد. إن الجيران الذين يتراوحون من اليونان إلى إسرائيل إلى الإمارات العربية المتحدة يُجهّزون أو سيُجهّزون قريباً قواتهم الجوية بطائرات “أف -35″، وستجد تركيا نفسها على نحو متزايد بعيدة من حلف “الناتو”. وجاء الخلاف حول “أس-400” بين أنقرة وواشنطن، في وقت يوجد  خلافات فعلية حول عدد لا يحصى من القضايا الأخرى، بما فيها الحروب في سوريا وليبيا، ومواجهة تركيا مع اليونان وغيرها في شرق البحر الأبيض المتوسط​، والتفكيك المستمر للديموقراطية التركية والتحوّل الحاد نحو الإستبداد تحت حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان على مدى ما يقرب من العقدين.

هناك تفسيران مُتكاملان لسبب أن تكون مقامرة أردوغان عالية المخاطر. الأول يتعلق بعقليته: على نحو متزايد، يرى الرئيس التركي دول الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، شركاء غير جديرين بالثقة. منذ محاولة الإنقلاب الفاشلة في تموز (يوليو) 2016، والتي شاركت فيها عناصر من سلاح الجو التركي، غالباً ما كان يشير إلى أن واشنطن هي التي حرّضت على الإنقلاب – وهو ادعاء تكرّر في الصحافة التركية التي تسيطر عليها الدولة. ومن هنا تأتي الحاجة المُتصَوَّرة إلى نظامٍ غير تابع للناتو للدفاع عن نظامه من الأعداء الداخليين.

ومع ذلك، فإن التفسير الأكثر أهمية يكمن في حسابات أردوغان التي تقوم على أن حلفاءه سيستسلمون في النهاية ويتقبّلون الأمر الواقع ويتعايشون مع استحواذه على “أس-400”. في الواقع، غالباً ما سامحت الدول الغربية تركيا على سلوكها السيىء في الماضي، بسبب التصوّر السائد في واشنطن بأن موقع تركيا الاستراتيجي وقواتها المسلحة الضخمة – لديها ثاني أكبر جيش دائم في الناتو – يجعلها مهمة جداً حيث لا يمكن خسارتها أو الإستغناء عنها.

لقد مكّن مثل هذا التصوّر أردوغان من التصرّف من دون عقاب: تهديد الحلفاء مثل اليونان بشأن النزاعات الإقليمية في بحر إيجه، واستخدام اللاجئين السوريين كسلاح بالسماح لهم بالتدفّق إلى أوروبا، وتقويض حلفاء أميركا الأكراد في شمال سوريا الذين يقاتلون تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتفكيك آخر بقايا الديموقراطية في البلاد.

ومع ذلك، فإن الحصول على صواريخ “أس-400” قد أثر بشكل سلبي أعمق من أي تصوّر في النهاية. البنتاغون، الذي يمكن الإعتماد عليه دائماً للدفاع عن أنقرة، انقلب الآن عليها. الكونغرس، أيضاً، لديه ما يكفي من الأسباب. لم تعد هناك أصوات في واشنطن مستعدة لإنقاذ تركيا. كان الرئيس دونالد ترامب الإستثناء النادر بسبب العلاقة الشخصية التي طوّرها أردوغان معه. ويجادل البعض بأن ترامب ربما خدع أردوغان ليعتقد أنه سيحمي أنقرة من العقوبات وسط كارثة “أف-35”.

لقد فُرضت عقوبات هذا الشهر بموجب قانون “مكافحة أعداء أميركا بواسطة العقوبات” (Countering America’s Adversaries Through Sanctions Act)، وهو قانون صدر في العام 2017 حيث بموجبه تُفرَضُ عقوبات على أيّ كيان ينخرط في “معاملات مهمة” مع وكالات الجيش أو المخابرات الروسية. تم فرض العقوبة الحقيقية ضد تركيا بالفعل برفض بيعها مقاتلة “أف-35″، لذا فإن هذه العقوبات الجديدة هي في الأساس إجراءات رمزية معتدلة، مصممة لزعزعة أقل عدد ممكن من الريش في أنقرة، وفي الوقت عينه بعث رسالة إلى الحلفاء والشركاء الآخرين الذين يُفكّرون في شراءٍ مماثلٍ من موسكو.

ومن الجدير بالذكر أنه من خلال فرض العقوبات، منح وزير الخارجية مايك بومبيو الرئيس المنتخب جو بايدن مُتنَفَّساً في ما كان يمكن أن يكون أول اختبار له مع أنقرة. مع الكرة في ملعب أردوغان، سيتمكّن فريق السياسة الخارجية لبايدن من الصمود والتحلّي بالصبر. إن الوقت ليس في صالح أنقرة. سيكون لزاماً على الأتراك إيجاد حلٍّ مقبول لواشنطن من دون تصعيد الأمر أكثر. ومع ذلك، ليس من الواضح على الإطلاق كيف سيبدو هذا الحلّ. من غير المرجح أن يُعيد الأتراك نظام “أس-400” إلى روسيا أو شحنه إلى دولة أخرى، مثل حليفتهم الوثيقة، أذربيجان، لأن موسكو لن توافق على مثل هذه الخطوة إلّا بتنازلات حادّة من أنقرة.

لإنقاذ الموقف واستئناف مشاركة تركيا في برنامج “أف-35″، إقترح البعض أن على أنقرة تعليق رادار “أس-400″، المُكَوَّن الأكثر إشكالية من منظور الناتو، وتقديم ضمانات بعدم نشره مُطلقاً. لكن الثقة بأردوغان بين حلفائه الغربيين تبخّرت. ليس هناك بينهم مَن يرغب في اغتنام الفرصة والإعتقاد بأن زعيم تركيا الزئبقي سيقوم بتنفيذ دوران 180 درجة وفك الرادار.

تُظهر الأزمة أن أنقرة أصبحت عضواً عنيداً بشكل متزايد في الناتو، الذي نما الآن ليشمل 30 عضواً. بالطبع، تركيا ليست العضو الوحيد الذي تراجع عن التزاماته الديموقراطية – أنظر إلى المجر وبولندا – لكنها تبدو عازمة على اتباع سياسة خارجية تتعارض مع بقية دول الحلف. قد تجادل أنقرة، مع بعض المبررات، بأن الجغرافيا تفرض عليها مجموعة من المتطلبات المختلفة للغاية. ومع ذلك، فإنها تتصرّف باعتبارها دولة حرة كلاسيكية، تستفيد من جميع وسائل الحماية التي يوفّرها التحالف بينما تتحدّى مصالحه كما تشاء. ليس لدى الناتو آلية لطرد أحد أعضائه، لكن كما اقترح بعض المحللين، يُمكن للولايات المتحدة سحب بعض قواتها من تركيا وتقليل اعتمادها على أنقرة. إن خطوات كهذه ستبعث رسالة واضحة مفادها أن هناك حدوداً لسلوكها الغريب.

  • ميشال مظلوم هو كاتب وصحافي لبناني من هيئة تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى