ماذا يعني بناء قاعدة عسكرية بحرية روسية في السودان؟

نشرت الجريدة الرسمية الروسية في 9 كانون الأول (ديسمبر) نص اتفاقية بين روسيا والسودان حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر بهدف “تعزيز السلام والأمن في المنطقة” ولا تستهدف أطرافاً أخرى حسبما جاء في مقدمة الاتفاقية. وستحصل الخرطوم مقابل ذلك على أسلحة ومعدات عسكرية روسية. وكان الرئيس فلاديمير بوتين وقّع في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت على الإتفاقية.

وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين: لم يطّلع على نسخة من اتفاقية القاعدة البحرية!

بقلم هاني مكارم*

بعد موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشهر الفائت على إنشاء قاعدة عسكرية بحرية جديدة على ساحل البحر الأحمر السوداني، وصفت تصريحات الكرملين الرسمية المَنشأة بأنها ستكون مركزاً لوجستياً دفاعياً بطبيعته – بشكل رئيس محطة إعادة إمداد للسفن الحربية الروسية. وعلى الرغم من هذه التأكيدات، فقد أفادت وسائل الإعلام الروسية بأن القاعدة ستكون بوّابة موسكو ومنفذها إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، الأمر الذي سيؤدي إلى توسيع نطاق ودائرة وصول قواتها البحرية. ويبدو أن شروط اتفاقية القاعدة، التي تم إصدارها في 8 كانون الأول (ديسمبر)، تدعم هذا الرأي الأخير: في مقابل المساعدات العسكرية من موسكو، سيسمح السودان لروسيا بالإحتفاظ بمنشأتها في بورتسودان لمدة 25 عاماً على الأقل، ما يسمح لها بتعزيز نفوذها في المسارح البحرية الرئيسة.

الواقع أن القاعدة العسكرية البحرية الجديدة هي تتويجٌ لعقودٍ من العلاقات الوثيقة بين موسكو والخرطوم. لقد أقام الديكتاتور السابق عمر البشير، الذي حكم السودان لما يقرب من ثلاثة عقود بعد الإطاحة برئيس الوزراء الصادق المهدي في انقلابٍ في العام 1989، علاقات أعمق مع روسيا. على الرغم من أن الأخيرة قد أيّدت حظر الأمم المتحدة لعام 2005 على صادرات الأسلحة إلى الأطراف المتقاتلة  في الحرب الأهلية الوحشية في دارفور، فقد شحنت موسكو دباباتٍ قتالية من طراز “تي-72” (T-72) وقاذفات قنابل يدوية وأسلحة صغيرة إلى السودان في العام 2008. في اجتماعٍ عقده في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 مع الرئيس بوتين، إتهم البشير الولايات المتحدة بدعم قوات المتمردين في دارفور وحثّ روسيا على حماية السودان من العدوان الأميركي المُفتَرَض، زاعماً أن السودان يمكن أن يكون “مفتاح روسيا لأفريقيا”. نتج عن هذا الإجتماع مفاوضاتٍ أوّلية حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان.

ولكن، تعرّضت طموحات موسكو وتطلعاتها إلى القاعدة والشراكة الروسية-السودانية الأوسع للخطر بسبب الإنتفاضة الشعبية في السودان في العام 2019، والتي بلغت ذروتها بإطاحة الجيش بالبشير في نيسان (إبريل). كانت روسيا قد نشرت أصلاً مرتزقة في السودان من مجموعة “فاغنر”، وهي شركة أمنية خاصة لها علاقات مع الكرملين، في العام 2018. وتمّ تكليف هؤلاء العملاء في البداية بدعم جهود التنقيب عن الذهب لشركة “أم-إنفاست” (M-Invest)، وهي شركة يملكها رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوزين. بعد الإطاحة بالبشير، دعموا جهود الجيش السوداني للحفاظ على السيطرة على البلاد.

على الرغم من ذلك تعرّضت القوة الناعمة لروسيا في السودان لضربة عندما عارضت قراراً للأمم المتحدة يُدين مذبحة الحكومة العسكرية الإنتقالية التي راح ضحيتها 128 متظاهراً في الخرطوم في حزيران (يونيو) 2019، كما تضررت بشكل أكبر بسبب التقارير الإعلامية التي تُفيد بأن المتعاقدين العسكريين الروس قد شجّعوا القوات السودانية على استخدام القوة وقمع الإحتجاجات، حتى لو أسفرت عن “خسائر ضئيلة في الأرواح ولكن مقبولة”. لإعادة العلاقات مع روسيا، إلتقى رئيس المجلس السيادي في السودان، عبد الفتاح البرهان، مع بوتين في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 في القمة الروسية-الأفريقية التاريخية في سوتشي، والتي وضعت الأسس لإحياء المفاوضات بشأن قاعدة عسكرية بحرية روسية في السودان.

نظراً إلى أن التغييرات السياسية في الخرطوم يُمكن أن تتسبّب في تذبذب العلاقة، فإن الكرملين ينظر إلى قاعدته في البحر الأحمر على أنها وسيلة للحفاظ على شراكته الأمنية مع السودان. على وجه الخصوص، تريد روسيا ضمان استمرار السودان في كونه عميلاً مخلصاً لمعدّاته العسكرية. إن السودان هو ثالث أكبر سوق للأسلحة الروسية في أفريقيا بعد الجزائر ومصر. كما تُقدّ الخرطوم دعما ديبلوماسيا داخل جامعة الدول العربية للرئيس السوري بشار الأسد، وهو حليفٌ رئيس لروسيا. في كانون الأول (ديسمبر) 2018، كان البشير أول زعيم عربي يزور دمشق منذ اندلاع الحرب الأهلية هناك في العام 2011.

علاوة على ذلك، ستستخدم روسيا قاعدتها العسكرية البحرية في البحر الأحمر لتعزيز علاقتها مع البرهان وحلفائه داخل الجيش السوداني. قال وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين لـ”بلومبيرغ نيوز” في أوائل كانون الأول (ديسمبر) إنه لم يرَ أو يطّلع على نسخة من اتفاقية القاعدة البحرية، ما يعني أن روسيا قد تجاوزت بشكل فعال القيادة المدنية للبلاد في إبرام الإتفاقية. تماشياً مع مقاربتها الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تنظر روسيا إلى الجيش على أنه حارس استقرار السودان. في حزيران (يونيو) 2019، حث نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الحكومة الإنتقالية على قمع “المتطرفين”، في إشارة غير مباشرة إلى قوى الحرية والتغيير، المجموعة الجامعة التي تمثل المحتجين المؤيدين للديموقراطية في البلاد. كما تستشهد وسائل الإعلام الحكومية الروسية بانتظام بانتقال السودان الديموقراطي الفاشل من العام 1985 إلى العام 1989، والذي شابته الإنقسامات والخلافات حول تطبيق الشريعة، كدليلٍ على عدم الإستقرار الجوهري للحكم المدني.

ومع ذلك، أدى دعم موسكو القوي للجيش السوداني إلى تعميق الإنقسامات في السودان، ما أدّى إلى تأجيج المشاعر المُعادية لروسيا بين داعمي الثورة المؤيدة للديموقراطية، بمَن فيهم العديد من قادة المتمرّدين الذين قاتلوا ضد البشير في دارفور. تعتقد شخصيات المعارضة أن الجيش السوداني قد قبل المساعدة الروسية كقوة موازنة للولايات المتحدة، نظراً إلى احتمال أن يدعم الرئيس الأميركي المُنتَخب جو بايدن إنتقال السودان إلى الحكم المدني والضغط من أجل محاكمة حلفاء البشير في المحكمة الجنائية الدولية. إذا ترافقت القاعدة البحرية الجديدة مع توسّعٍ للوجود الروسي في السودان، فقد تزوّد موسكو الجيش السوداني بعقودٍ تجارية مُربحة وأسلحة تُعزّز قدرته على قمع المظاهرات المستقبلية. وقد حذّر كمال بولاد، الناشط المعارض البارز، من أن قرار السودان السماح بقاعدة عسكرية بحرية روسية على سواحله قد يُعطّل استراتيجية التوازن التي ترتكز عليها سياسة البلاد الخارجية. نظراً إلى المشاعر المُعادية لروسيا على الجانب المدني من الحكومة الإنتقالية في الخرطوم، ترى موسكو أن الأولوية السياسية للجيش السوداني هي أن يكون المستفيد والمُهيمن وله اليد الطولى في البلاد.

بالإضافة إلى الحفاظ على نفوذها الطويل الأمد في السودان، تنظر روسيا إلى منشآتها البحرية على أنها آلية لتوسيع عرض قوتها على البحر الأحمر والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. قبل انهياره، كان الإتحاد السوفياتي يمتلك قواعد بحرية في ميناء عدن اليمني وأرخبيل دهلك في إريتريا، لذا فإن المنشأة الجديدة في السودان تعمل على إحياء ذكريات وضع موسكو كقوة عظمى. في الواقع، بدأ بحث روسيا الحديث عن قاعدة عسكرية على البحر الأحمر لأول مرة بزيارة استكشافية إلى اليمن في تشرين الأول (أكتوبر) 2008 قام بها سيرغي ميرونوف، الذي كان وقتئذٍ رئيس مجلس الإتحاد، المجلس الأعلى في البرلمان الروسي. وبالتالي، فإن المنشأة المُخَطَّط لها في السودان تُتوِّج 12 عاماً من الجهد، وستسمح لروسيا بلعب دورٍ أمني متزايد في الممرات المائية القريبة. من بينها مضيق باب المندب، الذي يربط البحر الأحمر بخليجِ عدن، ويعمل كنقطة إعادة شحن لـ 4.7 ملايين برميل من النفط يومياً.

كما ستُمكّن منشأة بورتسودان الروسية موسكو من توسيع مشاركتها في عمليات مكافحة القرصنة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهي منطقة نادرة للتعاون الأمني ​​المستمر بين روسيا والغرب. إن البحرية الروسية لها تاريخ من التعاون مع القوات البريطانية ضد القراصنة الصوماليين في خليج عدن، وفي شباط (فبراير) المقبل، من المقرر أن تجري روسيا أول مناورات عسكرية مشتركة مع قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ 2011، قبالة السواحل الباكستانية. بمرور الوقت، قد تؤدي المشاركة الروسية المُوَسَّعة في حملات مكافحة القرصنة إلى إزاحة وإنهاء مهمة “أتلانتا” للقوات البحرية التابعة للإتحاد الأوروبي قبالة الساحل الصومالي، والتي من المقرر أن تنتهي صلاحيتها في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2020، وتتحدّى النفوذ الأميركي في المحيط الهندي.

قد تستخدم روسيا أيضاً منشآتها في بورتسودان لتوسيع نفوذها على البحر الأبيض المتوسط. لقد جادل خبير الدفاع الروسي يوري لامين أخيراً بأن القاعدة البحرية في السودان يُمكن أن تُخفّف أعباء إعادة الإمداد للقاعدة الروسية السورية في طرطوس. قد يسمح هذا لمنشأة طرطوس تولّي القدرات الهجومية والدفاعية لقاعدة بحرية تقليدية، بمجرد اكتمال التجديدات المُخَطّط لها، من خلال توفير الدعم اللوجستي والمادي للتدريبات والمناورات العسكرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط ​​وتسهيل نقل الأفراد والمعدات من سوريا إلى ليبيا.

في نهاية المطاف، ستُعزز القاعدة البحرية في السودان جهود روسيا لضمان بقاء شراكتها مع الخرطوم على قيد الحياة في انتقال البلاد المضطرب إلى الديموقراطية. وعلى نطاق أوسع، فإنها تُشير إلى عودة ظهور روسيا كقوة عظمى في إفريقيا، والبناء على الزخم الذي ولّدته قمة تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مع القادة الأفارقة في سوتشي. لا شك أن القوى البحرية الراسخة الأخرى، سواء من المنطقة أو من خارجها، تلاحظ وتراقب هذه الخطوة، لأنها تعني أنها ستواجه قريباً منافسة متزايدة من روسيا على البحر الأحمر.

  • هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى