إِيرِينا أَنطونوڤـا غابت قبل خطوتَين

يوم كرَّمها الرئيس فلاديمير بوتين

بقلم هنري زغيب*

كان لها من قوة الشخصية أَنْ جَرُؤت على الحلم ببلوغ المئة والاحتفال بها. غير أَنَّ جرثومة الكورونا غدرَت بها وتغلغلَت إِلى قلبها ورئَتيها فخطفَتْها على بُعد خطوتَين من المئة.

المولودة في موسكو سنة 1922 توفيَت الأُسبوع الماضي عن 98 سنة، ملأَت منها النصف الآخر من القرن العشرين، عملًا يوميًّا متواصلًا ضاجًّا بأَنشطة دائمة جعلَتْها، سنًّا، أَكبر حافظة متحف في العالم، والأَطوَل عهدًا في هذه المسؤُولية الكبرى.

إِيرِينا أَنطونوڤـا امرأَة فريدة: ظاهرةً وشخصيةً وأَثرًا لن يمحى من الذاكرة الروسية.

يوم انتقلَت إِلى التقاعُد

من باب الجامعة إِلى باب المتحف

ما إِن تخرَّجت من جامعة موسكو سنة 1945 حاملةً إِجازة في تاريخ الفن، مع تخصص في فن النهضة الإِيطالية، حتى انتسبَت إِلى وظيفة في مكان تُحبُّه: “متحف ﭘـوشكين الوطني للفنون”. وزادها حبًّا المكانَ وقيمتَه تتلمُذُها في الجامعة على بوريس ڤـيْـپّـر Vipper (1888 – 1967) مؤَرخ الفن والناقد الفني وعضو الأَكاديميا السوڤـياتية للفنون. غذاها برقيّ هذا الاختصاص فخرجَت من باب الجامعة لتدخل باب المتحف.

باشرت عملها إِبان حكم الديكتاتور السوڤـياتي جوزف ستالين الذي، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، جعلَ جيشه الأَحمر يستردُّ من النازيين الأَلمان آثارًا فنية كانوا سلبوها من بلاده.

يوم تسلَّمَت إِدارة المتحف

من موظَّفة إِلى مديرة

مع وصول نيكيتا خروتشيـڤ إِلى الحكْم، وكان يتابع عملها الدؤُوب، عيَّنها في شباط (فبراير) سنة 1961 مديرة متحف ﭘـوشكين، وأَعطاها الحرية الكاملة في وضع خطة عمل لتنشيط المتحف، فلم تتردَّد. وبديناميتها الفائقة وضعَت برنامجَ عملٍ غنيًّا لم يعُد معه المتحف مجرد مكان يزار بل بات محجة فنية تضج بالأَنشطة الثقافية.

من ذاك النشاط، تأْسيسها في حرَم المتحف ظاهرة “ليالي ديسمبر”: خصصَت سنويًّا في هذا الشهر، بدءًا من 1961، سلسلة محاضرات لأُستاذها بوريس ڤـيــﭙـر، وأُمسياتٍ موسيقية لعازف الـﭙـيانو الشهير سْـڤِـياتوسْلاڤ ريـخْتِر (1915 – 1997)، وسلسلةَ لقاءات طوال العام مع خبراء في الفنون ومؤَرخي الفن حول مواضيع فنية ومسائل تاريخية كانت تدعو إِليها عددًا من مدراء المتاحف الروس والأَجانب.   

ولأَنها كانت تمتلك لغات عدَّة، لم تكتفِ بالنشاط المحلي. نظَّمَت في حرم المتحف معارض مشتركة جوالة، منها: معرض موسكو – ﭘـاريس (أَعمال بين 1900 و1931)، معرض موسكو – برلين (أَعمال بين 1900 و1950)، معرض روسيا – إِيطاليا، معرض استعاديّ للرسام الإِيطالي آميديو موديلياني (1884 – 1920)، معرض استعاديّ للرسام الإِنكليزي وليام تورنر (1875 – 1951)، معرض استعاديّ للرسام الإِسباني ﭘـابلو ﭘـيكاسو (1881 – 1973)، وخصَّصت سنة 2007 معرضًا عامًّا جمع أَعمالًا رئيسةً من الفن الأَميركي المعاصر، ومعارض شبيهة أُخرى لاقت رواجًا كبيرًا وجعلَت متحف ﭘـوشكين في صدارة المتاحف العالمية الناشطة.      كما استقبلت في حرم المتحف شخصيات ثقافية كبرى، منها سنة 1973 الرسام الشهير مارك شاغال (1887 – 1985).

وتقديرًا أَعلامَ بلادها، نسَّقت في المتحف احتفالية خاصّةً بالكاتب الروسي الشهير أَلكسندر سولجينيتسِن (كانون الأَوَّل/ديسمبر 2013-  شباط/فبراير 2014).

وحتى بعد تقاعدها حقَّقَت معرض “أَصوات المتحف الافتراضي” تكريمًا ذكرى أَندريه مالرو (الأَول من كانون الأَوَّل/ديسمبر 2016 حتى 12 شباط/ فبراير 2017).

يوم افتتحَت معرض موسكو – ﭘـاريس

حفاظها على التراث

لأَنها تحب الفن الانطباعي، سعَت لدى الرئيس ﭘـوتين إِلى جمع قطع فنية مبعثرة كان البولشيـڤـيون صادروها قبل الثورة، منها أَعمال الرسام الروسي أَندريه موروزوڤ (1901 – 1972)، ومجموعة هاوي اللوحات الانطباعية سيرغاي شوكين (1854 – 1936). طلبت من ﭘـوتين نقْلها جميعها إِلى متحف ﭘـوشكين بعدما كانت موزَّعة بينه وبين متحف الإِرميتاج في سانت ﭘـيترسبورغ. وكان لها ما أَرادت.

حين قررت الدولة إِعادة الآثار الفنية الأَلمانية إِلى قواعدها في أَلمانيا – بعدما كانت منذ أَيام الاتحاد السوڤـياتي كرهائن حرب محتجزة في موسكو منذ 1945 – صرحت إِيرِينا أَن “روسيا لا تَدين لأَحد، وهي احتفظَت بهذه الأَعمال تعويضًا عن الآثار الفنية التي دمرتْها أَلمانيا النازية في الاتحاد السوڤـياتي السابق وما خلَّفتْه من أَضرار لاحقة”. هكذا جُمعِت تلك الأَعمال، بعد بقائها عشْر سنوات في مستودع متحف ﭘـوشكين، وعادت سنة 1955 إِلى دريسدن (عاصمة ولاية ساكسونيا)، عدا منحوتات “الملك ﭘْــريام” (أَو “ذهب طروادة”)، أَصرَّت إِيرِينا على إِبقائها في متحف ﭘـوشكين. والمعروضة منها اليوم في متحف برلين ليست الأَصلية بل نسخ عنها.

ولم تكتفِ إِيرِينا بالعمل في موسكو، بل سافرَت تُلقي محاضرات عن الفن الروسي في بلادها، أَخيرتُها، وبعد تقاعدها، محاضرتُها في مركز ﭘـومـﭙـيدو (ﭘـاريس) سنة 2019 (وكانت في السابعة والتسعين) خلال معرض استعاديّ في الذكرى الأَربعين لإِقامتها معرض ﭘـاريس – موسكو سنة 1979.

دينامية التسعين

وقبَيْل أَن تغادر المتحف إِلى سن التقاعد سنة 2013، ظلَّت تأْتي يوميًّا إِلى المتحف، وتسافر وتحاضر، حتى جاءت الجائحة  فتوارَت عن المشهد العام بسبب الحجْر العام مع الموجة الكورونية الأُولى. ثم ظهرَت للمرة الأَخيرة قبل أَسابيع، أَواخر تشرين الأَول/ أُكتوبر في افتتاحية مسرحية حول ميخائيل غورباتشيـڤ، وظهرت لها في الصحف صورةٌ وهي تتحدث مع الزعيم السوڤـياتي السابق في “مسرح موسكو الأُممي”.

وهي ظلَّت حتى الأَشهر الأَخيرة من حياتها على دينامية لافتة، وهي تدخل في عامها الثامن والتسعين، كأَنها غير عابئة بالسنوات فيما كانت تقترب من سنتِها المئة. كانت فخورة بما حقَّقتْه لمتحفٍ تعتز أَنه يحمل اسم شاعر روسيا الأَكبر  أَلكسندر ﭘـوشكين (1899 – 1937).

أَكثرَ من مرة كرَّمها الرئيس ﭘـوتين. وعند تقاعُدها عيَّنها الرئيسةَ الفخرية للجنة المتحف، ومنحها أَعلى وسام للفنون والآداب، أُضيفَ إِلى أَوسمتها السابقة: وسام لجنة الشرف، وسام الاستحقاق من الجمهورية الإِيطالية، جائزة الدولة من اتحاد الروسيا.

غياب قبل خطوتَين

لدى وفاتها الأُسبوع الماضي، تناقلَت الصحف مقتطفات من محاضرتها في بيينال موسكو للفنون المعاصرة سنة 2017 (كانت في الخامسة والتسعين) كانت رؤْية لها فيها بحدسٍ وإِنذارٍ مسْبَقين لوضع الفن المحجور حاليًا بسبب كوڤـيد. ومما قالت يومها في تلك المحاضرة: “أَظن أَننا، بعد العقود الأُولى من القرن العشرين، عاينَّا غروب عصرٍ تاريخي عظيم من الفن، بما فيه الذي بدأَ مع النهضة. وإِننا اليوم، من جديد، مع العقدَين الأَوَّلين من هذا القرن الحادي والعشرين، نعاين أَزمة حقيقية كبرى في المشهد الفني، قد تمتدُّ قرنًا كاملًا. وهي حدَثَت من قبْل على حِقَب متتالية: من العصور السحيقة حتى العصور الوسطى، ومن هذه الأَخيرة إِلى عصر النهضة. اليوم، مع غُروب القرن العشرين، قد تمتدُّ الأَزمة طيلة الحادي والعشرين”.           

كان الرئيس ﭘـوتين أَول من عزَّى بها، تلتْه جميع الوجوه الثقافية في روسيا وخارجها، لما كان لها من دور غير عادي في عصرٍ كانت معه الثقافة ذاتَ حضور غير عادي.

ولعلَّها، وهي تنطفئ بهدوءٍ في المستشفى، لم تكن تَندم على أَمرٍ سوى أَن بُنْيتها القوية وإِرادتها العنيدة لم تسعفاها في تحقيق أُمنية كانت تراودها منذ جَرُؤت على الحلْم ببلوغ المئة والاحتفال بإِطفاء شمعتها مع الأَصدقاء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في أَسواق العرب تَوَازيًا مع صُدُوره لدى موقع النهار العربي في صحيفة النهار – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى