لماذا تَنخرِط وتَتَواصل السعودية أخيراً مع العراق؟

تدور منذ حكومة عادل عبد المهدي السابقة محادثات لتقارب عراقي-سعودي يتابعها الآن رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي الذي تربطه علاقة جيدة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. لماذا هذا التواصل الجديد بين الرياض وبغداد بعدما رفضته السعودية سابقاً؟

نوري المالكي: حاول التواصل مع السعودية فصدّه الملك عبدالله

بقلم بروس ريدل وكاثرين هارفي*

بعد عقود من عزل العراق، بدأت المملكة العربية السعودية أخيراً التواصل مع جارها الشمالي. كان السعوديون مُترَدّدين للغاية في قبول حكومة يقودها الشيعة في العراق. تمّ فتح المعبر الحدودي الرئيس في عرعر في الشهر الماضي بعد إغلاق دام 30 عاماً بسبب الغزو العراقي للكويت. وتعود جولة الإنخراط والتواصل الأخيرة للسعوديين إلى العام 2015، عندما أرسلوا مُتأخّرين سفيراً إلى بغداد، بعد قطع العلاقات قبل 25 عاماً. وقد زار وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، العاصمة العراقية في العام 2017، والتي كانت الأولى من نوعها لمسؤول كبير منذ زيارة السفير السعودي آنذاك لدى اواشنطن الأمير بندر بن سلطان في أوائل العام 1990. وافتتح السعوديون قنصلية في البصرة في العام 2019. ويُعتَبَر فتح معبر عرعر الحدودي هو الخطوة الأكبر نحو تطبيع العلاقات منذ سقوط صدام حسين.

لكن قبل العام 2015، أضاع السعوديون فُرصةً مهمة للتواصل مع العراقيين – وهي فرصة ضائعة أفادت إيران. في صيف العام 2006، قام رئيس الوزراء العراقي آنذاك، نوري المالكي، بعد بضعة أشهر على تولّيه منصبه، بزيارة المملكة والتقى بالملك عبد الله بن عبد العزيز. وخلص العاهل السعودي بعد الإجتماع الوحيد إلى أن المالكي وأفراد حكومته عملاء لإيران، ولا يُمكن الوثوق بهم. لذا قرر عدم الإنخراط أكثر. بفعله ذلك، فقد عزّز الملك عبد الله القرار الأميركي السيئ بغزو العراق بقرارٍ سعودي سيئ آخر بعدم المساعدة على استقرار جاره.

اليوم، يُنظَر إلى المالكي على نطاق واسع على أنه حليفٌ قوي لإيران. هذا الرأي مُضَلِّل. لم يكن المالكي نموذجاً للفضيلة – كرئيس للوزراء، كان سلطوياً وغالباً ما تولّى مناصب طائفية للغاية – لكنه كان ولا يزال، قبل كل شيء، قومياً عراقياً. علاوة على ذلك، كرئيسٍ للوزراء، سعى المالكي إلى إعادة دمج العراق مرة أخرى في الحظيرة العربية واتباعِ مسارٍ مُستقل عن إيران. في الواقع، كانت رحلة المالكي إلى المملكة العربية السعودية في العام 2006 – أول رحلة له إلى الخارج كرئيس للوزراء – إشارة إلى رغبته في إعادة ترسيخ مكانة العراق الحقيقية والصحيحة في العالم العربي.

لسنواتٍ بعد ذلك، حاول المالكي وكبار أعضاء حكومته فتح بابٍ للسعودية، لكن الملك عبد الله لم يُعِد النظر في قراره بعزلهم. في العام 2012 استضافت بغداد قمة عربية أرسلت إليها الرياض وفداً منخفض المستوى كصدٍّ وعدم اهتمامٍ ملكي. كما أرسلت دول عربية أخرى ممثلين مُنخفِضي المستوى. في أواخر العام 2013، بذل المالكي ومسؤولون عراقيون آخرون جهوداً للتواصل. كان موقف السعوديين من العراق مُختلفاً بشكل جوهري عن موقف جيران العراق العرب الآخرين. بدأت دولٌ عربية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والأردن في التعامل بشكل هادف مع العراق في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن بدون مشاركة السعودية، لم يكن للعرب الآخرين أهمية كبرى في بغداد.

فلماذا لم يثق العاهل السعودي الراحل بالمالكي بهذا الشكل العميق؟ مُعتقداتٌ قوية انتشرت داخل القيادة السعودية بشأن إيران والشيعة العرب عملت ضد العراقيين. لعقود من الزمن، كان السعوديون ينظرون إلى إيران على أنها توسّعية بطبيعتها، والرأي القائل بأن الشيعة في العالم العربي موالون لإيران هو صورة نمطية مُتأصّلة بعمق بين العرب السنّة، بما في ذلك السعوديين. علاوة على ذلك، فإن المذهب الوهابي السعودي يُحرّم الشيعة. بالنظر إلى هذه المعتقدات، خلص القادة السعوديون بمجرّد أن احتلت الولايات المتحدة العراق وبدأت تمكين الشيعة العراقيين إلى نتيجة من أن الأميركيين “سلّموا العراق إلى إيران على طبق من فضة”، كما كرروا ذلك السرد باستمرار منذ العام 2003.

لكن مُعتقدات السعودية بشأن إيران والشيعة العرب شوّهت فهمها ومعرفتها لما كان يجري في العراق، ودفعتها إلى استبعاد الإجراءات التي اتّخذها المالكي والتي قوّضت بالفعل النفوذ الإيراني في بلاده. كان أهم عمل من هذا القبيل قرار المالكي بإطلاق حملة “صَولَة الفرسان” ضد الصدريين العراقيين، الذين كانوا يُعتبرون الوكيل العراقي الرئيس لإيران، في ربيع العام 2008. وقد أكسبت “صولة الفرسان” المالكي استحساناً كبيراً من القادة العراقيين العرب السنة البارزين مثل- نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وكذلك احمد ابو ريشة زعيم صحوة الأنبار. في المقابل، ظل الملك عبد الله مُقتنعاً بأن المالكي ليس سوى دُمية إيرانية.

كان لقرار السعوديين بعدم التعامل مع العراق تداعيات هائلة. على المستوى الأساس، حرم السعوديون، برفضهم التواصل، العراق من ثقلٍ مُوازنٍ عربي كان من شأنه أن يساعده على موازنة علاقته بإيران. كونهم منبوذين من قبل أهم لاعب في العالم العربي، كافح العراقيون لإعادة دمج أنفسهم في الحظيرة العربية من دون نتيجة، ما جعلهم أكثر اعتماداً على إيران. لكن بالإضافة إلى ذلك، فسّر العراقيون القرار السعودي بعدم الإنخراط على أنه عداءٌ سعودي عميق تجاه النظام العراقي الجديد. بمرور الوقت، بدأ العراقيون يشعرون بالتهديد الكبير من أولئك الذين اعتقد الكثير من العراقيين أنهم سعوا إلى عكس اتجاه صعود الشيعة في العراق بعد العام 2003. لقد توافد سعوديون كثيرون للإنضمام إلى تنظيم “القاعدة” في العراق في العامين 2006 و2007، بتشجيعٍ من الوهابيين. إن الشعور بالتهديد الذي تَصَوَّرَه العراقيون من السعودية عزّز اعتمادهم على إيران.

إن قرار الرياض بعدم التعامل مع العراق يكشف أيضاً عن تناقضٍ جوهري يكمن في صميم قرار الولايات المتحدة بالسعي إلى تغيير النظام في العراق. لم تكن إدارة جورج دبليو بوش تهدف إلى تمكين الشيعة العراقيين على هذا النحو، لكن قرارها استبدال ديكتاتورية صدام حسين بالديموقراطية سمح بطبيعة الحال للغالبية الشيعية في العراق الوصول إلى السلطة. كان مشروعها، إذا كان سينجح، يتطلب قبول العراق الجديد من قبل جيرانه. تحقيقاً لهذه الغاية، مارس فريق بوش ضغوطاً كبيرة على السعوديين للتواصل والإنخراط مع العراق – جورج دبليو بوش نفسه ضغط على الملك عبد الله للإنخراط، ولكن من دون جدوى. رأى الملك عبد الله أن العراق بقيادة الشيعة يتعارض مع المصالح السعودية، ولا يُمكن لأي قدر من الضغط الأميركي أن يُغيّر رأيه، بغض النظر عن مدى عمق الصداقة الأميركية-السعودية. باختصار، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى دعم سعودي لتحقيق الإستقرار في العراق، لكنها سعت إلى تغيير النظام بطريقة صدّت السعوديين. وهكذا كان مشروع إدارة بوش مُعوّقاً ومُتعثّراً منذ البداية.

لكي نكون مُنصِفين للسعوديين، فقد شعروا بخيانة شديدة من قبل إدارة بوش. لقد ناشدهم السعوديون عدم غزو العراق، ثم لم يُصدَموا عندما لم تستجب الولايات المتحدة لهم فحسب، بل فعلت ذلك بطريقة سمحت لإيران بخرق احتوائها الإقليمي. لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن المملكة العربية السعودية رفضت الضغط الأميركي.

منذ وفاة الملك عبد الله في العام 2015، أدرك الملك سلمان بن عبد العزيز ونجله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أخيراً أن عدم التواصل والإنخراط مع العراق يُعتَبَر تنازلاً عن تلك البلاد لإيران. ومن المُفارقات أن التحوّل في سياستهم تجاه العراق جاء عندما كان السعوديون يُكرّرون الخطأ عينه على حدودهم الجنوبية في اليمن. وكما رأوا المالكي على أنه دُمية في يد إيران، كذلك نظر السعوديون إلى الحوثيين الشيعة الزيديين في شمال اليمن. نظر الحوثيون دائماً بإيجابية إلى الجمهورية الإسلامية، لكنهم لم يتلقّوا سوى القليل من المساعدة الفعلية من إيران إلى أن استولوا، في خضم الحرب الأهلية اليمنية التي أعقبت “الربيع العربي”، على العاصمة اليمنية صنعاء في العام 2015، وردّ السعوديون بشن حرب جوية عليهم. منذ ذلك الحين، تحوّل الحوثيون بشكل متزايد إلى طهران، لأنها كانت الدولة الرئيسة الوحيدة التي كانت ضد الحرب السعودية.

قبل العام 2015، كان السعوديون يُنَفِّرون العراقيين، ومنذ العام 2015 قاموا بعزل الحوثيين. في كلتا الحالتين، عادت السياسة السعودية بالفائدة على إيران. إن السعوديين بحاجة ماسة إلى تغييرٍ جذري في طريقة تعاملهم مع جيرانهم العرب الشيعة – الإنخراط والتواصل معهم بدلاً من عزلهم. لسوء الحظ، يبدو أن إعادة التقييم هذه غير مُرَجَّحة في المستقبل المنظور، على الرغم من التقدّم المحدود مع العراق. إن الشرط المُسبَق لتغيير حقيقي في السياسة سيكون إعادة تقييم أساسية من قبل السعوديين للدافع والباعث لرؤية الجماعات الشيعية العربية على أنها دُمى لإيران التوسّعية بطبيعتها.

  • بروس ريدل هو زميل كبير ومدير مشروع “برنامج بروكنز للإستخبارات” (Brookings Intelligence Project)، وهو جزء من مركز بروكينغز للأمن والإستخبارات في القرن الحادي والعشرين، وهو مسؤول سابق في الإستخبارات المركزية الأميركية. وكاثرين هارفي هي مؤلفة الكتاب المُقبل عن المملكة العربية السعودية والعراق وهي ضابطة استخبارات سابقة في البحرية الأميركية.
  • كُتِبَ هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى