النُخبة في بيروت لا تَعرف ماذا تفعل بلبنان غير نَهبِهِ

بقلم مايكل يونغ*

لم يكن لدى لبنان حكومة تعمل بكامل طاقتها منذ أوائل آب (أغسطس)، عندما قدّم رئيس الوزراء حسان دياب استقالته في أعقاب الإنفجار المُروّع في مرفأ بيروت. ومنذ ذلك الحين، عمل في منصبه بشكل مؤقت لتصريف الأعمال. في غضون ذلك، حاول سعد الحريري، رئيس الوزراء الأسبق، تشكيل حكومة بعدما كلّفته بذلك غالبية برلمانية في 22 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت.

لم يُحرز الحريري أي تقدم منذ ذلك الحين، ويرجع ذلك أساساً إلى الخلافات مع الرئيس ميشال عون وصهره الوزير السابق جبران باسيل، حول عدد من الحقائب الوزارية، وحجم الحكومة ومَن سيُعَيِّن الوزراء المسيحيين. يبدو أن غرق لبنان في كارثةٍ إقتصادية بشكل أعمق من أي وقت مضى لا يُقلق السياسيين إلّا قليلاً لأنهم يواصلون التمسّك بشدة بمطالبهم السياسية.

على أساس هذا السلوك وحده، فإن اعتبار ووصف العديد من القادة السياسيين والماليين في لبنان بأنهم “كارتل” وعصابة من المجرمين لن يكون بعيداً من الحقيقة. بعدما أفلسوا البلاد خلال عقودٍ من الفساد، وبالتالي حرموا ملايين المواطنين من مُدّخرات حياتهم، إستمروا في التأخير ووضع العراقيل أمام جميع الجهود التي يجب أن تُبذَل لإدخال الإصلاحات اللازمة لتأمين المساعدة المالية من صندوق النقد الدولي.

هناك جَدَلٌ مُستَمرّ حول سبب عدم قدرة الحريري على تشكيل حكومة. يصر البعض على أن المشاكل خارجية. يُزعَم أن “حزب الله” المُتشدّد، الطرف الأقوى في لبنان، غير مُستعد لدفع الرئيس عون وباسيل لتقديم تنازلات لأنه ينتظر ليرى كيف ستتعامل إدارة الرئيس الأميركي المُنتَخب جو بايدن مع لبنان بمجرد تولّيه منصبه. لذلك يُفضّل الحفاظ على تحالفه مع الرجلين بتجنّب الضغط عليهما.

روايةٌ أخرى هي أن باسيل يسعى إلى الحصول على ثلث الوزراء في أي حكومة جديدة، ما يمنحه نفوذاً لعرقلة جميع الإجراءات الحكومية عند نهاية ولاية عون. من خلال قيامه بذلك، يُمكنه زيادة ضغطه على الكتل البرلمانية لانتخابه رئيساً لخلافة عمّه. الرئيس الحريري يرفض ذلك.

قد تكون هذه التفسيرات صحيحة جزئياً، لكنها لا تُخبرنا لماذا ينهار النظام اللبناني بشكلٍ مُخزٍ. التفسير الأكثر واقعية: كان الكارتل السياسي في البلاد قادراً على العمل بشكلٍ مُتماسك في الماضي لأن أعضاءه جميعاً تعاونوا في نهب الدولة. والآن بعدما انهار الإقتصاد، إنقسم السياسيون وصاروا في حالة من الفوضى.

في هذا الجو العام من الإتهامات، لا أحد، ولا حتى “حزب الله”، قادرٌ حقاً على توحيد السياسيين وإقناعهم على الإجماع. يُمكن للإنقسام أن يخدم “حزب الله” من بعض النواحي، لأنه من السهل عليه السيطرة على طبقة سياسية متخاصمة. لكن هذا يعني أيضاً الخراب في طريقة إدارة الدولة، وما يعني أيضاً أن الحزب المُتشدّد لا يمكنه الدخول في صراع مع إسرائيل إلّا إذا خاطر بمواجهة خطر داخلي جسيم ضده. سيكون من الصعب احتواء ردّ الفعل العنيف ضد مثل هذه الحرب من قبل اللبنانيين الذين يُعانون ويُقاسون إذا كان القادة السياسيون الطائفيون في البلاد مُعاديين لبعضهم البعض.

بالنظر إلى التوترات المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، الراعي الأجنبي الرئيس ل”حزب الله”، في أعقاب مقتل عالم نووي إيراني في الأسبوع الفائت، لا يستطيع “حزب الله” أن يأخذ هذا الاحتمال بخفة. الجو السياسي الفوضوي في لبنان يجعل دخول الحزب إلى الحرب غير مواتٍ للغاية. لكن محاولة وضع حدّ لهذا الوضع من خلال الضغط من أجل التوصّل إلى حلٍّ وسط بشأن الحكومة قد يؤدي إلى تنفير الفاعلين السياسيين البارزين، مثل الرئيس عون، الذي سيحتاج “حزب الله” إلى دعمه في حالة نشوب صراع.

بعيداً من الإعتبارات الإقليمية، ماذا يعني أن لبنان يبدو غير قادر على إيجاد قيادة مُتماسكة عندما تكون النخب السياسية غير قادرة على تقسيم الفطيرة الوطنية؟ إنه يعني ضمناً أنه خارج سياق السرقة الرسمية، فإنه ليست لدى السياسيين فكرة عن كيفية إدارة الدولة.

هذا ليس مفاجئاً. عندما انتهت الحرب الأهلية في لبنان في العام 1990، تمّ بناء نظام ما بعد الحرب بين قادة الميليشيات الطائفية في زمن الحرب، الذين تزعّمهم رجل الأعمال البراغماتي رفيق الحريري، والد سعد الحريري، كرئيس للوزراء. تم تنسيق هذا الأمر إلى حد كبير من قبل سوريا، التي نهبت مع حلفائها السياسيين عائدات النظام. أدرك الحريري الأكبر أن الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها المضي قُدماً في مشروعه لإعادة بناء البلد هي مواكبة هذا الإعداد والتأكد من استفادة الجميع.

سارت الأمور بشكل جيد طالما كان الجميع يكسبون المال. ومع ذلك، بحلول العام 2019، أصبحت الضغوط على هذا النظام واضحة، حيث بدأت سنوات من التراجع في تدفقات رأس المال إلى لبنان تُقوِّض القطاع المالي الذي لم يعد قادراً على سداد الديون والنفقات الحكومية. في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، بدأ النظام ينهار، بينما كافح أعضاء الطبقة السياسية للحفاظ على حصصهم فيه.

قادهم هذا الوضع إلى الإنقلاب على بعضهم البعض. لقد فهموا أن الإصلاح ضروري للحفاظ على النظام الفاسد الذي بنوه. لكنهم، على الدوام، أرادوا أن يُقدّم أعداؤهم السياسيون التضحيات، وليس أنفسهم. فجأة، صار السياسيون يتهمون منافسيهم بالفساد، ويُصوّرون أنفسهم على أنهم نموذج مثالي للفضيلة، ما أدى إلى انهيار وحدة الكارتل.

هذا هو وضع لبنان اليوم. كيف يُمكن للبلاد الخروج من مأزقها المميت لا يزال لغزاً. قد يرى البعض مزايا في نهاية شيفرة صمت السياسيين. لكن المشكلة أن هذا أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر عندما يكون لبنان سفينة عائمة تقترب من الشعاب المرجانية. كانت سنوات الحرب الأهلية في لبنان فصلاً مرعباً في تاريخه، لكن المدهش أن العديد من اللبنانيين يجدون أنفسهم الآن يقولون إنهم كانوا أقل سوءاً واعتراضاً مما يسود اليوم.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كَتَبَ الكاتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى