أهمية أن يكون مصرف لبنان مُستَقلاً

بقلم كابي طبراني*

في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، كانت ذكرى استقلال لبنان مُناسبة مُهمّة لتذكير الشعب اللبناني بأهمية الإستقلال بالنسبة إلى سلامة ونزاهة سياسة البلد.

لا تزال الفضائح تتكشّف، وتكشف عن فساد النخبة السياسية ومشاكل البلاد، بما فيها في الآونة الأخيرة في مصرف لبنان المركزي.

أنهت “ألفاريز ومارسال”، الشركة الإستشارية المُكَلّفة بالتدقيق الجنائي في سجلات البنك، عَقدَها في الأسبوع الفائت. وقال وزير المالية اللبناني، غازي وزني، المُنتهية ولايته: “إن سبب الذي حدث هو أن الشركة لم تحصل على الوثائق التي تحتاجها”. وينظر الكثيرون إلى ذلك على أنه محاولة لحماية مجموعة فاسدة في الطبقة السياسية اللبنانية.

إنها ضربةٌ أخرى لتعافي البلاد بعد عامٍ مُدَمِّر. إن تدقيقَ طرفٍ ثالث في المصرف المركزي الذي كان مشهوراً سابقاً باستقلاليته وشفافيته، هو شرطٌ لكي يستطيع لبنان تأمين مساعدة مالية دولية تمسّ الحاجة إليها.

وبعيداً من الحاجة الفورية للمساعدة، إن وجودَ مصرفٍ مركزي غير مُسيَّس مُهمٌّ لاستقرار أي دولة. في الإقتصادات الحديثة، مثل لبنان، يجب أن تضمّ خبراءً مُستقلّين يضعون السياسة النقدية للبلاد. في حين أن السياسيين يقومون بتصميم الإتجاه العام للخطة الإقتصادية، فإن البنوك المركزية المستقلة هي التي تُقرّر وتُنفّذ سياسات مُحَدّدة.

فضّلت الإقتصادات الحديثة البنوك المركزية المُستقلة منذ أواخر القرن العشرين. لقد منع إخراجها وابتعادها من السياسة القادة من التلاعب بالسياسة النقدية، والتي كانت مُزَعزِعة للإستقرار وغير أخلاقية، لا سيما في الفترة التي كانت تسبق الإنتخابات.

لم يتم اختبار استقلالية البنوك المركزية في لبنان فقط. بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان البنك المركزي لبلاده بمثابة كبش فداء لفشل الحكومة، لا سيما في الوقت الذي يُكافح اليوم في بيئة اقتصادية صعبة ويُعاني من تأثيرات سوء الإدارة الإقتصادية. لجعله متوافقاً مع أهدافه، أصدر أردوغان مرسوماً في العام 2018 يسمح له تعيين مسؤولي البنك المركزي. والأمر الذي لا يثير الدهشة أنه، قبل الانتخابات في العام 2019، وافق البنك على حزمةٍ بقيمة 2 ملياري دولار في الوقت المناسب للحفاظ على ثبات الليرة التركية وعدم تدهورها أكثر.

في بريطانيا، وصف السياسي من حزب المحافظين المؤيد لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، جاكوب ريس- موغ، المحافظ السابق لبنك إنكلترا المركزي، مارك كارني، الكندي الجنسية، بـ”عدو خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي” و”سياسي كندي فاشل من الدرجة الثانية”، وذلك بعد أن حذّر كارني أن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي قد يتسبّب في ركود تقني.

في الولايات المتحدة، اعتاد العالم على إطلاق الرئيس دونالد ترامب تغريدات تنتقد توقعات مجلس الإحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، وسياساته وموظفيه، لا بل طالب رئيسه، جيروم باول، بعدم رفع الفائدة، وهو أمرٌ ليس من صلاحيات رئيس الجمهورية.

في الهند، وجّه سياسيون مُعارضون اتهامات إلى الحكومة بأنها ضغطت على البنك المركزي في نيودلهي للحصول على أموالٍ لتشجيع الهنود الفقراء في الريف على التصويت لصالحها.

في جنوب إفريقيا، يتعرّض البنك المركزي لضغوط سياسية شديدة لزيادة تخفيضات أسعار الفائدة استجابةً للوباء.

حتى في الديموقراطية الليبرالية المزدهرة في نيوزيلندا، يؤكد بعض السياسيين أنفسهم ويتدخّل في قضايا كانت محصورة بالكامل في السابق بالبنك المركزي، وذلك مع تصاعد الضغط بالنسبة إلى استجابة البلاد بعد الوباء.

لم يكن سجل البنوك المركزية مثالياً. كانت سياستها في بعض الأحيان شديدة الحذر، الأمر الذي أعاق وتيرة النمو. كانت التوقعات، في بعض الأحيان، مُتشائمة للغاية، وبالطبع لم تَقُم بما يجب أو تعمل ما يكفي لمنع الأزمة المالية لعام 2008.

لكن تسييسها التدريجي في المدى الطويل لا يُفيد سوى القليل. حتى في تركيا، تتبنّى شخصيات في البلاد الآن مثل وزير المالية الجديد، لطفي ألوان، خطاً ليّناً بشكل لافت، حيث أمر المسؤولين في البنك المركزي بفعل “ما ينصّ عليه القانون”.

ربما بدأ التخلي عن استقلال البنوك المركزية يأتي بنتائج عكسية. لا يُساعد بأن تظهر آثار السياسة النقدية غير المسؤولة بعد سنوات، لأنه بعد تلك الفترة، هناك خطرٌ أن يكون قد فات الأوان للتراجع عن الضرر أو مواجهة تداعياته.

إن البنوك المركزية المُستقِرة والواثقة والشفافة هي عنصرٌ من عناصر الدول المستقرة والواثقة. إنها أحد المكوّنات غير الموجودة في لبنان، ولذلك لم يكن مفاجئاً أن الجو هناك خلال عيد الاستقلال لهذا العام كان أقل من احتفالي. يجب على صانعي السياسات في بيروت، وفي أماكن أخرى حول العالم، أن يكونوا حذرين من أن الإستقلال لا ينطبق فقط على القادة الذين يُحرّرون أنفسهم من المُساءلة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير “أسواق العرب”. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى