زيارةُ بومبيو للمستوطنات الإسرائيلية تُتَوِّجٌ جهوداً استمرّت أربع سنوات لتدمير حلّ الدولتين

منذ وصولها إلى السلطة قبل أربع سنوات وإدارة دونالد ترامب تحاول تدمير حلّ الدولتين، تارةً بإعلان “السلام من أجل الرخاء” أو “صفقة القرن”، أو بالعمل على الدوران حول خطة السلام العربية القائمة على الأرض مقابل السلام لإجهاضها.

المستوطنات الإسرائيلية: كل ما تصنعه صار حسب بومبيو “صُنِعَ في إسرائيل” حتى لو كان فلسطينياً!

بقلم خالد الجندي*

لا شك أن زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في الأسبوع الفائت لمستوطنتين إسرائيليتين كانت تاريخية، حيث زار خلالها مصنع نبيذ في مستعمرة “بساغوت” الواقعة في ضواحي رام الله في قلب الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، ومدينة داوود الواقعة في حي سلوان الفلسطيني خارج مدينة القدس القديمة، وهي أول زيارة من نوعها لوزير خارجية أميركي حالي. من الواضح أن الزيارة كانت تهدف إلى إضفاء الشرعية على المشروع الاستيطاني الإسرائيلي وتطبيعه، والذي يُعتَبَر غير قانوني بموجب القانون الدولي، وذلك تماشياً مع نهج الإدارة الأميركية في السنوات الثلاث الماضية.

أدان المسؤولون الفلسطينيون بشدة زيارة بومبيو، التي قالوا عنها بأنها “تنتهك بشكلٍ صارخ القانون الدولي” – وهذا بالطبع هو بيت القصيد. منذ اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل في كانون الأول (ديسمبر) 2017، وانقلاباً على عقودٍ من السياسة الأميركية والإجماع الدولي الواسع، عملت إدارة دونالد ترامب بجدٍ لإزالة وتجاوز الأعراف الدولية، بما فيها مبدأ عدم جواز الإستيلاء على الأراضي بالقوة، وتدمير أي بقايا أخيرة من حلّ الدولتين.

ومع ذلك، فإن لفتة بومبيو الأخيرة ذهبت إلى أبعد من أي شيء رأيناه حتى الآن، وقد لا يُمكن التراجع عنها بسهولة. ما لم تكن إدارة جو بايدن المُقبلة مُستعدة لإعادة التأكيد على مركزية القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين بشكل صارم وصريح كما سعى ترامب إلى إلغائهما وتجاوزهما، وكل ذلك ينطوي على تكلفة سياسية، فإن سياسات الأرض المحروقة التي اتبعها ترامب يمكن أن تنجح.

في الواقع، تُعدّ جولة بومبيو الإستيطانية هدية رئيسة أخرى لرئيس الوزراء الإسرائيلي المُحاصَر بنيامين نتنياهو، الذي ابتُلِيَ باحتجاجات دورية، ومُحاكمة فساد تلوح في الأفق من المقرر أن تبدأ في أوائل العام 2021، وإمكانية إجراء انتخابات أخرى – الإنتخابات الإسرائيلية الرابعة في أقل من سنتين. وتكهّن البعض بأن بومبيو قد يكون يضع الأساس لترشحه للرئاسة الأميركية في العام 2024. ومهما كانت طموحاته السياسية، فإن لفتة بومبيو تتوافق مع الإجراءات الأخرى التي اتّخذتها إدارة ترامب، مثل الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإعلان وزارة الخارجية قبل عام عن عدم اعتبار المستوطنات غير شرعية، وكلها مصممة لقلب الأعراف الدولية ومحو حقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم السياسية، وتعزيز سيطرة إسرائيل الدائمة على جميع الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

مع مصنع النبيذ في “بسلغوت” كخلفية، استغل بومبيو الزيارة كفرصة للإعلان عن تحوّلات أكثر جذرية في سياسة الولايات المتحدة. أولاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي أن المنتجات الآتية من مناطق خاضعة لسيطرة إسرائيل وحدها، والمعروفة باسم “المنطقة ج”، يجب اعتبارها من الآن فصاعداً “صنع في إسرائيل”، بما في ذلك البضائع التي ينتجها الفلسطينيون. في الواقع، يرقى هذا إلى اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على كل “المنطقة ج”، والتي تشكل حوالي 60 في المئة من الضفة الغربية.

في الوقت عينه، ضاعف بومبيو من موقف الإدارة بأن “مُعاداةَ الصهيونية هي معاداةٌ للسامية”، بالإعلان عن أن الحكومة الأميركية ستُدرِج المنظمات، التي تُشارك في المقاطعات المُوجَّهة ضد إسرائيل أو المستوطنات الإسرائيلية أو تدعمها، على القائمة السوداء. وبعبارة أخرى، فإن المنظمات – بما فيها منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية – التي تختار الإلتزام بالمتطلبات القانونية الدولية بعدم العمل مع المستوطنات الإسرائيلية أو إضفاء الشرعية عليها ستُعتَبر “مُعادية للسامية” وتُحرَم من التمويل الأميركي.

على هذا النحو، تكشف الزيارة أيضاً عن النية الحقيقية لخطة ترامب التي  تجاوزها الزمن الآن “السلام من أجل الرخاء”، والتي لم تكن أبداً تتعلّق بإنهاء الصراع بقدر ما تتعلق بتكريس الإحتلال الإسرائيلي الدائم وأجندة “إسرائيل الكبرى” التي من أجلها بومبيو، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان ورفاقهما في الإدارة يُخلصون شخصياً وإيديولوجياً.

وقد لا تكون هذه بالضرورة النهاية. بالنظر إلى التزام إدارة ترامب الإيديولوجي بإسرائيل الكبرى وكذلك إنكارها لنتائج الانتخابات الرئاسية، قد يكون لدى الإدارة المزيد من المفاجآت قبل انتهاء ولايتها في كانون الثاني (يناير) 2021. في الواقع، لقد شهدنا بالفعل ارتفاعاً كبيراً في عمليات الهدم الإسرائيلية، والإخلاء، وإعلانات المستوطنات أو “الحقائق على الأرض” منذ 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث يسعى نتنياهو وحلفاؤه في حركة الاستيطان إلى الاستفادة من الوقت المُتبقّي لترامب في منصبه.

الأسبوع الفائت فقط، فتحت وزارة الإسكان الإسرائيلية وسلطة الأراضي الإسرائيلية عملية تقديم العطاءات لـ 1,257 وحدة سكنية في “غفعات همتوس”، وهي مستوطنة إسرائيلية جديدة تقع في موقع استراتيجي بين بيت لحم والقدس الشرقية الفلسطينية. “غفعات همتوس”، التي وصفها البعض بأنها مستوطنة “يوم القيامة” لتأثيرها المُميت على احتمالية قيام دولة فلسطينية مُتّصلة وقابلة للحياة، ستفصل بشكل دائم حي بيت صفافا الفلسطيني عن باقي القدس الشرقية، وكذلك تمنع التواصل بين القدس وبيت لحم.

قبل 3 أساببيع، في يوم الانتخابات الأميركية، هَدَمَ الجيش الإسرائيلي مُجتمعاً فلسطينياً في خربة حمصة في غور الأردن، تاركاً 73 شخصاً، من بينهم 41 طفلاً، بلا مأوى، فيما وصف مسؤولو الأمم المتحدة الأمر بأنه “أكبر حادثة نزوح خلال أكثر من أربع سنوات”.

بصفته رئيساً ضعيفاً لديه القليل ليخسره، قد يمنح ترامب هدايا أكبر لرئيس الوزراء الإسرائيلي المُحاصَر وحلفائه في حركة الإستيطان. بعض القارير يفيد بأن نتنياهو يدفع الإدارة الأميركية إلى إعطاء الضوء الأخضر لمستوطنة “يوم القيامة” الأخرى، المعروفة باسم “عطروت”، الواقعة بين رام الله والأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية. علاوة على ذلك، بعد أن حصلت بالفعل على اعتراف أميركي فعّال بالسيادة الإسرائيلية على معظم الضفة الغربية، فليس من المستبعد أن يعود الضم الإسرائيلي الرسمي لأجزاء من الأراضي المحتلة إلى الطاولة في وقت ما قبل 20 كانون الثاني (يناير) المقبل.

لم يُعلّق الرئيس المُنتَخب جو بايدن على التحرّكات الأخيرة من قبل إدارة ترامب – ومن غير المرجح أن يفعل ذلك نظراً إلى تقليد رئيس واحد في وقت واحد. ومع ذلك، قال بايدن سابقاً إنه سيعكس معظم سياسات ترامب التي تتعارض مع هدف الدولتين ومع المعايير الدولية الراسخة، بما فيها، على الأرجح، من خلال إعادة السياسات الأميركية السابقة لترامب.

وهنا تكمن المشكلة. حتى قبل وصول ترامب، كانت السياسة الأميركية تجاه القدس والمستوطنات والقضايا الأساسية الأخرى للنزاع قد تآكلت بشدة من قبل الإدارات الأميركية السابقة. إن مجرد إعادة الوضع السابق الغامض أو المُتناقِض من غير المرجح أن يكون كافياً لإنقاذ حلّ الدولتين.

لمواجهة تبنّي ترامب للتطرف الإسرائيلي بشكل فعّال، سيحتاج بايدن إلى أن يكون واضحاً في إعادة تأكيد المعايير الدولية، بما في ذلك عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية، وشرعية التطلعات والحقوق السياسية الفلسطينية التي تجاهلتها إدارة ترامب وأزالتها.

قد يترتّب على ذلك تكلفة سياسية لبايدن، حيث أن العديد من أعضاء حزبه السياسي يؤيدون  جوانب من سياسة ترامب، مثل دمج المستوطنات الإسرائيلية مع إسرائيل وتجريم مقاطعة إسرائيل.

في غضون ذلك، فإن القرارات الأخيرة التي اتَّخذتها السلطة الفلسطينية لاستئناف التنسيق الأمني ​​مع إسرائيل وإصلاح سياستها المُتمثّلة في تقديم مدفوعات للفلسطينيين الذين قُتلوا أو سجنتهم إسرائيل وعائلاتهم – يُنظر إليها على أنها إيماءات إلى إدارة بايدن المُقبلة – يُمكن أن تلعب بشكل غير مقصود لصالح ترامب ونتنياهو. إن حقيقة قيام السلطة الفلسطينية بهذه الإيماءات حتى قبل أشهر عدة من تولي بايدن منصبه سوف تُقلل بشكل أكبر من الحوافز لبايدن لاتخاذ الخيارات الصعبة التي يتطلبها حل الدولتين الحقيقي. في هذه الحالة، قد تنجح محاولات ترامب وبومبيو لتدمير ما تبقّى من حل الدولتين.

Exit mobile version