لماذا “سفراء بلا حدود”؟

بقلم السفير جان معكرون*

في العام 2014، عندما كنت سفيراً في كوبا، ووسط التفاعل مع سلكٍ ديبلوماسي أجنبي تخطّى المئة، أذكر كم كان غنياً التواصل مع السفراء المُعتَمَدين من النواحي السياسية والإقتصادية والفكرية.

أدّى هذا التبادل في الأفكار والمعلومات إلى أجواءٍ وديّة أفسحت لي المجال للتناقش حول إمكانية خلقِ شبكة تواصلٍ فكري بين الديبلوماسيين بهدفِ تعزيزِ السلام في العالم، الذي عانى وما زال يُعاني من آفات الحروب والفتن والكراهية…

بدا لي هذا التقارب والتعاون بين ديبلوماسيّي العالم مُمكناً خصوصاً في هذا الزمن المُتمايز بالعَولَمة وزوال الحدود بين الدول والشعوب. كما شعرنا نحن الديبلوماسيون بانحسار دورنا في ظلّ التطوّر التكنولوجي الذي مكّن رؤساء الدول ووزراء الخارجية من التواصل المباشر والسريع بينهم، ولا سيما بعد تضاؤل طابع السريّة في العلاقات الديبلوماسية.

تجاه هذا الواقع، بات لزاماً علينا أن نُفكّر باستعادة دورنا الديبلوماسي الأساسي وهو “التخفيف من التوتر وتعزيز التفاهم” كما أكّد رجل الدولة البريطاني أنطوني إيدن. ومن هذه المقاربة، تبادرت إلى ذهني فكرة إنشاء “سفراء بلا حدود” التي عمدتُ إلى تسجيلها في إحدى المؤسسات كملكية فكرية باسمي الشخصي.

وبعدما غادرتُ إلى أرمينيا لتسلّم  مهامي الديبلوماسية، قمتُ بإطلاق هذه الفكرة وتنفيذها على طريقتي الخاصة بانتظار أن تنضج وتتبلوَر وتنمو.

ما هو جوهر فكرة سفراء بلا حدود؟

عندما أطلقتُها أمام السلك الديبلوماسي في أرمينيا، قلتُ إننا نحن السفراء جئنا من بلدانٍ عدة ومن مختلف بقاع الأرض، وكلٌّ منا يعمل لمصلحة وطنه، وإذا كانت الجغرافيا والمصالح قد فرّقت بيننا فإنّ ما يجمعنا هو رسالة سامية لا يوجد أرقى منها رسالة، وهي نشر وتعزيز السلام في العالم. وإنّ الوسيلة الفُضلى للترويج للسلام هي الديبلوماسية. ولمّا كنا نحن سفراءها في العالم، فإنّ من أولى واجباتنا أن نتولّى هذه المهمة. كما أضفتُ أنه يترتّب على الديبلوماسيين في جميع أنحاء العالم أن يرفعوا أصواتهم للمناداة بالحوار لدى نشوء أي أزمة تُهدّد بالحرب بهدف تجنّبها علّها تُحَلّ من طريق تسوية مُعَيّنة وذلك في إطار ما يُسمّى بالديبلوماسية الوقائية، وإنّ على الديبلوماسيين أن يستغلّوا مواقعهم لكي يلفتوا نظر رؤسائهم ويضغطوا عبر الوسائل المتوافرة لهم، لا سيما لدى المنظمات الدولية وغير الحكومية، من أجل تنبيه الرأي العام إلى مخاطر الحروب والسعي إلى التفتيش عن بدائل للحروب، قبل اندلاعها والتي تُكلّف الطرفين العديد من القتلى والجرحى والدمار، والمؤدية حتماً إلى نشر روح الكراهية والإنتقام بين شعبيهما.

ولأنه ماذا ينفع الحوار بين الطرفين المُتنازعين بعد اندلاع الحرب وانتهائها إذا جلسا بعدها حول طاولة مستديرة للتفاهم على تسوية مُعَينة على حساب دم الشهداء ووجع الجرحى وفداحة الدمار.

لذلك، هدفت فكرة سفراء بلا حدود إلى لفت انتباه المجتمع الدولي إلى مساوئ الحروب، وتأمَل منه الضغط على أطراف النزاع لإيجاد حلٍّ في إطار تسوية مُسبَقة بدلاً من تسوية مُتأخّرة تكون ضحيتها الشعوب التي لا ناقة فيها ولا جمل.

بوحي هذه المُقاربات، وبهدف البدء بنشر الفكرة، نظّمتُ لقاءات حوار شهرية في دار السفارة في إطار غداء عمل، دعوتُ إليه أعضاء السلك الديبلوماسي والسياسيين للإستماع إلى محاضرة من قبل أحد السفراء أو أحد المؤثّرين في الرأي العام، وقد تلتها أسئلة وأجوبة حول موضوع المحاضرة. وتعاقب على الكلام تحت عنوان سفراء بلا حدود المحاضرون التالون:

تحدّث سفير روسيا عن أولويات السياسة الروسية الخارجية، كما تحدّث سفير الولايات المتحدة عن دور المجتمع المدني. أما وزيرة العدل فتطرّقت إلى كيفية مُحاربة الفساد، في حين عالج سفير فرنسا أولويات السياسة الفرنسية الخارجية. ثمّ ناقش سفير ألمانيا مع سفيرة بريطانيا موضوع “إنفصال المملكة المتحدة عن الإتحاد الأوروبي” (BREXIT). أما المحاضرة الأخيرة فقد ألقاها كاثوليكوس عموم الأرمن، وهو أعلى سلطة دينية أرمنية، حيث تحدّث عن دور الكنيسة الرسولية في نشر السلام.

ودأبتُ على نشر فكرة سفراء بلا حدود خلال مهمّتي الديبلوماسية في الكويت، فنظمت في دار السفارة، ودائماً بوحيٍ من هذه الفكرة، سلسلة لقاءات فكرية، فدعوت الشيخة انتصار السالم العالي الصباح، رئيسة مبادرة النوير للإيجابية، حيث تحدثت عن حق الجميع في السعادة والعدل. كما لبّى دعوتي مصرفيان كبيران، جورج ريشاني والدكتور سعاده الشامي، اللذان تحدّثا عن أسباب الأزمة المالية في لبنان وسُبُل حلّها. وحضر هاتين المناسبتين عددٌ كبير من أبناء الجالية اللبنانية والفاعليات الكويتية والسفراء المعتمدين.

لقد لاقى هذا النشاط الثقافي ترحيباً من قبل جميع السفراء والحاضرين لأنه جسّد فكرة جديدة من حيث الشكل والجوهر، ولأنه عزّز الحوار والتقارب بين السفراء، كما ألقى الضوء على أهمية دورهم في التفاعل الفكري، والأهم من ذلك أنّ هذا النشاط قد ساهم في إعطاء صورة مُشرقة للحاضرين عن لبنان بأنه وطن الثقافة والحوار وهذا ما عبّر عنه السفراء في رسائل الشكر.

لكنّ ما يحزّ في النفس أننا نبذل الجهود في بعثاتنا لإعطاء صورة جميلة عن لبنان في حين يسعى السياسيون في لبنان إلى تشويه هذه الصورة.

ما هي الإتجاهات الفكرية التي تدعم فكرة سفراء بلا حدود؟

الكاتب الأميركي “لورنس فريدمان” (Lawrence Freedman)، مؤلف كتاب “استراتيجيا” (STRATEGY)، أشار إلى أهمية الوصول إلى تسوية من طريق الديبلوماسية بين طرفَي النزاع أو التفتيش عن بديل آخر مثل استعمال وسائل الضغط الاقتصادي كما يتبين من المقتبس التالي: “إذا كان لا بدّ من أن ينتهي بحلٍّ وسط، فلماذا لا يتم تسوية الأمر بالديبلوماسية قبل إراقة الدماء، أو البحث عن أشكال إكراهٍ اقتصادية مُمكنة بديلة؟”.

وفي العام 1936، تساءل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت كيف أنّ عبقرية الإنسان التي اخترعت أسلحة الموت، قد فشلت في اكتشاف وسائل حفظ السلام.

كما أن كتاب “كيف تُدير العالم” (How to run the world)، للكاتب الهندي “باراغ خانا”، قد شرح كيف أنّ السفراء أصبحوا يتواصلون مع بعضهم أكثر من تواصلهم مع وزراء خارجيتهم، ما عزّز لديهم الشعور بأنه من أُولى مهامهم السعي إلى السلام: “عندما بدأ السفراء يقضون وقتاً مع بعضهم البعض أكثر مما يقضونه مع وزرائهم الوطنيين، كان هناك ديبلوماسيون يلمسون مهمة أعلى في واجبهم تجاه السلام مُقارنةً بأميرهم”.

وهكذا، نشأت فكرة سفراء بلا حدود وبدأت تنضج في عقولنا، وهي في حاجة إلى أن تنتشر وتتعمّق جذورها في الأوساط الديبلوماسية، وأن تجد لها مكاناً مميزاً تحت الشمس. ولما كانت الظروف التقنية ملائمة بفعل تطوّر وسائل التواصل الإجتماعي، فإننا نطمح إلى انتشار هذه الفكرة عبر (Digital Diplomats) أي “الديبلوماسيون الرقميون” لكي يتمكّن ديبلوماسيو العالم من إيصال صوتهم الداعي إلى السلام ونبذ الحرب، ولكي يكونوا قوّة ضاغطة على الحكّام والهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية للعمل من أجل تجنّب الحرب وتأمين الحوار لبلوغ التسوية قبل الحرب وليس بعدها.

إنّ الآمال مُعلّقة على “الديبلوماسيين الرقميين” للتواصل في ما بينهم، وبالتالي نشر فكرة “سفراء بلا حدود” ومبادئها عبر وسائل التواصل الإجتماعي وإنشاء موقع إلكتروني خاص بها. إنّ مقدرة السفراء في التأثير الإيجابي في الرأي العالمي للترويج للسلام هي كبيرة ومهمة.

وأخيراً، للدلالة على قوّة تأثير الديبلوماسيين، فقد أجرينا بحثاً حول عدد الديبلوماسيين في العالم، فلم نجد إحصاءً دقيقاً، لكن تبيّن لنا وجود 7,314 بعثة ديبلوماسية في 61 دولة. تعذّرت علينا معرفة عدد الديبلوماسيين في كل بعثة، أما الواضح لدينا أنه توجد 276 بعثة للصين في العالم، و273 بعثة للولايات المتحدة في العالم، وأنّ عدد ديبلوماسيّي هذه الأخيرة وحدها بلغ حوالى 13,770 ديبلوماسياً.

  • الدكتور جان معكرون هو باحث وسفير لبناني سابق، خدم في بلدان عدة بينها الولايات المتحدة، بريطانيا، كوبا، أرمينيا والكويت.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى