إنّه يومٌ للحزن … يومٌ للخجل

بقلم الدكتور فيليب سالم*

تأتي الذكرى السابعة والسبعون للاستقلال، واللبنانيون في ألَمٍ عميق ‏، وفي مرارة لم يعرفها هذا الشعب في تاريخه الطويل. وها هم في حالة “إقفال تام” بسبب وباءٍ فتك في الأرض كلها، وكذلك هم في حالة “إقفالٍ تام” من نوع آخر أشدّ وأدهى ألا وهو “الإقفال السياسي”. وبينما يكون الإقفال الأوّل مَرحلياً، ونشارك فيه مع العالم كله، يؤسّس الإقفال الثاني إلى أزمةٍ وجودية لهذا الوطن الصغير لا يشاركه فيها أي وطن آخر. أزمةٌ قد تجعل من الأرض ارضاً يابسة يهجرها أهلها وتهجرها الأحلام التي سكنت فيها.  وأمام هَول المصيبة واحتراماً للألم الذي يقبض علينا، نطلب من رجال الحكم عندنا احترام الحزن.  فنحنُ لا نُريدُ أن نسمعَ الكلام المُجوّف من المعنى والمجوّف من الالتزام ، كما لا نريد ان نسمع البيانات ‏الإنشائية وغيرها من مظاهر ثقافة الرياء التي يُتقنها رجال المدرسة السياسية التقليدية. ولكن إن تجرّأ أحدٌ منهم على الكلام، فليجرؤ على قول الحقيقة. من هنا، نتوجّه إلى رئيس البلاد، الرئيس ميشال عون، ونطلب منه وحده، وبكل احترام، أن يُخاطبَ شعبه ‏ويقول له بشجاعته وجرأته المعهودتين ” يا شعب لبنان العظيم، لم يبقَ شيءٌ من العظمة. ولم يبقَ شيءٌ من مجدِ لبنان الذي أعطي له. لقد خسرنا الاستقلال ‏وانهارت الدولة. لذا لن يكون هذا اليوم يوماً للعيد بل يوماً للحزن، يوماً للخجل، الحزن على وطننا والخجل من أنفسنا. لم نكن على قدر المسؤولية المُلقاة على عاتقنا وعلى قدر أحلامكم وطموحاتكم.  لستُ وحدي مسؤولاً عن هذا الفشل، ولكنني أتحمل مسؤوليتي الدستورية وأجرؤ على الاعتراف لكم بأنه حان الوقت لبناء لبنان جديد بسلطة جديدة. لقد ماتت الجمهورية التي أحكمها الآن، وحدك يا شعب لبنان قادر على تأسيس الجمهورية الجديدة”.

إن رئيس البلاد يعرف جيداً ان السبب الأول والأساس لانهيار الدولة هو القرارات السياسية التي وضعت لبنان في قبضة السياسة الإيرانية، ما جعل لبنان ساحة مواجهة بين دول الممانعة من جهة ودول العالم العربي والغربي من جهة أخرى.

 في اتفاق ” مار مخايل” أصرّ العماد عون على بندٍ مُهم وأساس. البند المُتعلق ببناء الدولة. لم يكن يعرف يومها أن إيران لن تسمح ببناء الدولة لأن ذلك سيُهدّد استراتيجيتها.

وماذا نقول للذين سيقومون بالزيارات التقليدية حاملين أكاليل الزهر إلى الرجال الذين جاهدوا وماتوا في سبيل استقلال لبنان وسيادته. هؤلاء الذين يرقدون اليوم في القبور على رجاء قيامة الوطن؟ هل يا ترى سيرتعدون خجلاً أمام هيبة الموت وصمت القبور، أم أنهم ‏سيكذبون على الموتى في الأرض كما يكذبون على الأحياء الذين يعيشون فوقها؟  لو تمكّن هؤلاء الموتى من الكلام لقالوا لزائريهم: “نحن في خيبة كبيرة منكم. بلّغوا أسيادكم لقد متنا مرتين. في المرة الأولى، متنا في سبيل حلم صنعناه لكم. في المرة الثانية متنا يوم قتلتم هذا الحلم”.

ونتوجّه الى الجيش اللبناني ونقول له: أيها الجيش جئنا ننحني أمامك. وجئنا لنقول لك إياك ان تكون لاعباً في لعبة الرياء التي يُتقنها السياسيون. نريدك ان تبقى طاهراً مثل الأرض المؤتمَن على الدفاع عنها. نود ان نسألك  أيها الجيش كيف كنت سترضى بعرض سلاحك لو كان أُقيم العرض في شوارع المدينة وفي المدينة نفسها سلاحٌ أكبر وأهم من سلاحك؟ وكيف تفتخر أيها الجيش بالسلاح الذي تمتلكه وانت لا تمتلك قرار الحرب والسلام في بلادك؟ 

إن الأزمة التي يواجهها لبنان اليوم هي أزمة وجودية لأنها تُهدّد حضارته وهويته الكيانية. فلبنان حضارة، إن زالت يزول. لقد عاش لبنان حروباً كثيرة وأزمات أكثر، ولكن هذه الأزمات كانت تُشكّل تهديداً للكيان السياسي لا تهديداً وجوديا لهوية لبنان وجوهره. إن لبنان اليوم في موقع خطير. إنه بين فكي الثورة الإسلامية الإيرانية. وليكن معلوماً ان استراتيجية هذه الثورة لا تقتصر فقط على تغيير الجغرافيا السياسية في الشرق، بل تتعداه الى تغيير الجغرافيا الحضارية فيه. إنها حضارة أحادية ترتكز على الدين. ومع احترامنا لجميع الحضارات، نحن نؤمن بأن الحضارة اللبنانية هي نموذجٌ للعالم كله؛ إذ ‏إن هذه الحضارة هي حضارة التعددية الثقافية والدينية واحترام الآخر المُختلِف، وحضارة الإنصهار الديني. قبل الحروب التي بدأت سنة 1975، كانت  الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام تعيش وتتعانق هنا. لم يكن هناك أي صراع بين هذه الديانات. فالمستقبل هو للإنسان الواحد. الإنسان الأكبر من أي شيء آخر. الأكبر من أي دين‏. فبينما يكون الدين الطريق الذي يأخذك الى الله، نرجو أن نتذكر أن الإنسان هو ابن الله. لذلك كان لبنان وطن الإنسان.

 وأعظم ما يُهدّد الكيان الحضاري هو هجرة الشباب والشابات، هجرة الأدمغة، هجرة الطاقات الواعدة. ولا نقول سراً إذا قلنا أن عظمة لبنان تكمن في شعبه، لا في أرزه ولا في جباله.  إذا هاجر الشعب، هاجرت العظمة. مأساة لبنان انه يرعى أولاده، يُعلّمهم ويغرقهم في المحبة، ثم يطردهم إلى العالم.  لقد ذهبوا الى العالم وبنوا بلدانه إلا أنهم لم يتمكّنوا من بناء بلادهم. والخوف الأكبر اليوم هو هذا الشرخ الذي حصل حديثاً بين لبنان المُنتشر ولبنان المقيم . لقد حاول هذا العهد تقليص الهوة  وبناء الجسور بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر، وعُقدت عشرات المؤتمرات لهذه الغاية، ولكن هذه الجهود كلها ذهبت سدى. وبدل أن تتقلص هذه الهوة ازدادت اتساعاً وخسر اللبناني المُنتشر ثقته في الدولة كما فقد ثقته بجميع مؤسساتها وبجميع القوى السياسية التي تعمل داخل الدولة وخارجها. أُصيب الإنتشار  اللبناني بخيبة أمل كبيرة من لبنان المقيم. من أجل ذلك جفّت ينابيع الموارد المالية التي كانت تصب عندنا كلما احتجنا اليها. لقد خرج لبنان من عائلته العربية وخرج من عائلته الدولية، وها هو يخرج الآن من أقرب عائلة إليه وهي الإنتشار اللبناني . لقد تبخّر نفط لبنان في العالم كما سيتبخر نفط لبنان في البحر الأبيض المتوسط. وبدل أن نُعيدَ بعضاً من الإنتشار إلى الوطن الأم، ذهب الإنتشار بعيداً من الوطن. ‏وها هم اللبنانيون المُقيمون اليوم يهرعون ويفتشون عن وطن جديد، عن وطن يكون أبعد ما يكون من وطنهم.  

 ها نحن هنا في هذا القعر من الخيبة واليأس. من ينشلنا من هذا القعر؟ من سيرفعنا إلى فوق؟ الثورة وحدها سترفعنا إلى فوق.  ليس لدينا بديل من الثورة. إنها الأمل الوحيد. ويُخطئ من يظن أن الثورة‏ تحتضر. فالثورة ليست فقط الضجيج الذي يملأ الساحات والشوارع بالشعارات والغضب، إن الثورة هي حالة في داخل الانسان.  حالةٌ من الرفض. الرفض للواقع، الرفض للذل والهوان، وأهم من الرفض هو التمرّد. التمرد اللاعنفي. التمرّد كل يوم . التمرّد على نفسك قبل التمرّد على غيرك. التمرّد على الخوف، على اليأس. الثورة تعيش في الداخل ولا يُمكن لأحدٍ أن ينتزعها منك ولا يمكن لقوى السلطة أن تقضي عليها. قد يتراجع عدد الثوار في الشوارع، ولكن عدد المتمردين على الواقع يزداد. يهاجر مَن يهاجر، سنكمل بمن تبقى. الثورة لن تموت. 

ولو تكلمت الأرض لقالت: كان الإستقلال “حلماً في خيالكم”. لقد أُعطي لكم سنة 1943 ولكنكم لم تكونوا أهلاً له. وجاءت سنة 2005 وأُعطيت لكم الفرصة مرة ثانية ولم ترتفعوا إليها. هذه المرة لا تُفَوِّتوا الفرصة. تعالوا لنحوِّل الحزن الذي نحن فيه إلى قوة تأخذنا الى الإستقلال الحقيقي. ويكون الإستقلال حقيقياً عندما نصنعه نحن لا غيرنا.  ولكن الإستقلال لا يتجذّر في الأرض إلّا عندما يصبح ولاؤنا مُقدَّسا لهذه الأرض. عند ذلك فقط قد نستحقه. عند ذلك فقط لن يكون الإستقلال “حلماً في خيالنا”. 

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيب ومفكّر لبناني وباحث في أمراض السرطان. وهو رئيس مركز سالم للأورام السرطانية في هيوستن.
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازياً مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى