ماذا يعني العَلَم؟

بقلم أوليفيا الشاب*

عادت ابنتنا إلى المنزل وقد رَسَمَت، وهي في الحضانة، عَلَمَ لبنان بمهاراتِ ابنة السنتيْن الفنية وإبداعها. فقد ألصقت قصاصات الورق الأحمر على شكلِ شريطٍ في أعلى الورقة وأسفلها، وطَلَت بريشتها بقعة خضراء تُمثّل الأرزة في الوسط، وذرّت فوقها الرقائق الذهبية البرّاقة.

أعجبتني للوهلة الأولى هذه التُحفة الفنّية النابعة من حسٍّ وطني فِطري، ولكن سرعان ما راودتني تساؤلات عن أيّ ولاءٍ تُظهره ابنتي وما حيثياته. ماذا يعني أن تُعلّم ابنتك حبّ الوطن في بلد لا يكنّ لمواطنيه حبّاً، ولا يفتح أفقاً أمام أطفال يكتفون بترديد نشيد وطني يُشوّهون كلماته في صفوف الروضة؟

في 22  تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، يتسلّح اللبنانيون بكل ما أوتوا به من سخرية وتهكّم ليستقبلوا، على مضض، عيد الإستقلال. ولكن هذه السنة تختلف عن غيرها. فما زال الجرح الغائر ينزف، وخيبات الأمل الكبيرة والمُتعاقبة لم تندمل، تُثقلها تُبعاتٌ تعجز آليات الدفاع السطحية عن معالجتها. وفيما انتُهك حقّنا في الحياة من جرّاء الإفلاس السياسي والمالي، والترهيب والغاز المسيل للدموع، وعمليات الإختطاف التعسّفية، والتهديدات بشبح الحرب الأهلية، وتأليب المدنيين بعضهم على بعض، وإفقار السكان، ما كان من انفجار الرابع من آب (أغسطس) إلّا أن وجّه الضربة القاضية. ففي زمن السلم المزعوم، عشنا وعملنا وتشاجرنا وطهَونا الطعام وأرسلنا أطفالنا إلى المدرسة ومارسنا الحب ودرسنا المشاريع فوق آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم تنتظر اللحظة المناسبة كي تنفجر وتُحَوِّلنا إلى أشلاء. وعندما حدث ما حدث ودمّر الإنفجار حياة من قضى ومن نجا على حدّ سواء، لم تقدّم لنا السلطات لا اعتذاراً ولا تفسيراً. فقد عوّل قادة لبنان على فقدان الذاكرة الجماعي لمحو ذكرى الكارثة، على غرار ما فعلوا مع ذكريات الحرب الأهلية بين العامَين 1975  و1990.

لقد اتضحت لدينا الصورة منذ زمن بعيد. تَجمَعُ بيننا، نحن اللبنانيين، وبين القادة المزعومين لدولتنا المُنهارة علاقةٌ مؤذية تُعرّض حياتنا للخطر في كل لحظة، نتيجة عجز هؤلاء عن الحكم أو المشاركة في الحوار. كيف يؤثر كل ذلك إذاً في معنى العلم اللبناني؟

هل هو رمز شاعري رومانسي يُجسّد العلاقة المُتوتّرة التي تجمع بين المواطنين والدولة؟ وهل يستمدّ بعضاً من رومانسيته من هذا التوتر، فنتمسّك به فيما يفلت الوطن من قبضتنا؟

هل هو إنكارٌ مُتعَنِّت للأساليب التي تُلطِّخ بها عصبياتنا العشائرية حسّنا الوطني، فيقضي ذلك على احتمال بروز قومية سليمة؟ هل هذا التصوّر مطروح حتى؟ أم هو بصيص أمل بأن يجسّد هذا الرمز في يوم من الأيام قومية سليمة قد ننعم بها في مستقبل غير مُحدّد المعالم؟

هل تستخدم الطبقة الحاكمة العَلَم كورقةِ توت تستر بذاءتها الأخلاقية وتُبرّر المحسوبية والفساد والإنتهازية والعنف والفوضى، وتمسّكها المُتعنِّت بالسلطة على الرغم من افتقارها إلى المؤهلات؟ وهل يشكّل العَلَم أداةً مألوفة تَظهرُ في خلفية كل خطابٍ سياسي أو مُقابلة تقريباً للتلاعب بالجمهور عندما يشعر بوطأة الحرمان من الخدمات والإضطهاد والإهانة؟

أم أن العَلَمَ ينتمي في الواقع إلى كلٍّ منا، قطعة قماش غير مُتناهية، نمدّ عليها سفرة أحلامنا، كطعام نتناوله في الهواء الطلق، نتشاركه بين بعضنا البعض، ونتذوّق ما يُقدّمه لنا مستقبلٌ أكثر إشراقاً، شاملٌ للجميع، سلاحه الوعي والضمير الحي، مستقبلٌ تتعزّز فيه المساءلة السياسية والإنسانية والبيئية، مستقبلٌ فائمٌ على الشفافية والتواضع، على أنظمة وخدمات عامة كفوءة، مستقبلٌ يكون فيه النفوذ مُكتسَباً لا يُباع أو يُتَوارث، مستقبلٌ يشجّع على حلّ المشاكل والإبتكار والإستثمار، مستقبلٌ جامعٌ عماده حماية الإنسان وثقافة الحوار، مستقبلٌ يشبهنا ويثرينا، مستقبلٌ يكرّم الحياة، يهتمّ بنا وبأطفالنا.

العَلَمُ هو كلّ شيء ولا شيء. هو رمزٌ، كغيره من الرموز التي يتشاركها أفراد المجتمع من أجل بناء ثقافة أكثر تعدّدية. وهذا تحديداً ما أنجزته ثورة اللبنانيين التي اندلعت في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 منذ عيد الاستقلال الأخير. فطوال العام الأخير، كان العَلَم رسالتنا وسلاحنا الوحيد هاتفين: “هذا العلم ملك الذين يتجرّؤون أن يحلموا ببناء وطن. وهكذا سيبقى، سواء تُرك ليُرفرف على شرفات البيوت أو استُخدم لترقيع قلوب المغتربين المكسورة.

علّقتُ عَلَمَ ابنتي على الثلاجة، وتوسّلتها أن تُحبّه حبّاً تُكرّم فيه كيانها وأحلامها ووطنها. حبٌّ يقبل المحاسبة لا حبٌّ يأسرها. توسّلتها أن تذرّ دائماً بريقها على كلّ ما يقع أمام ناظريها. فنحن بحاجة إلى روح كروحها لبناء الوطن.

  • أوليفيا الشاب هي اختصاصية لبنانية في علم النفس العيادي. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @OliviaShabb

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى