لماذا يحتاجُ لبنان إلى نموذجٍ إقتصاديٍّ جديد؟

لم تبدأ أزمة لبنان الإقتصادية في العام 2020، فأسبابها تعود إلى سنوات بعيدة وإلى نموذج إقتصادي فاشل، كما أن أسباب انهيار الليرة اللبنانية اليوم تعود إلى الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٧.

مصرف لبنان المركزي: فائدته العالية حرمت الإقتصاد المنتج من الإنتعاش

بقلم البروفسور محمد أحمد أبو هميا*

عندما وقعت الأزمة العالمية في العام ٢٠٠٧، كان لبنان لا يزال تحت تأثير عملية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥، التي قامت بدورها بزعزعة الثقة واستقرار الإقتصاد اللبناني، بالإضافة إلى حرب تموز (يوليو) ٢٠٠٦ التي دمّرت العديد من القرى والمدن والبنى التحتية. ونتيجة لذلك، انخفضت معدلات النمو من ٦.٧٪ في العام ٢٠٠٤ إلى ١.٥٪  في العام ٢٠٠٦. وساد خوفٌ آنذاك بين اللبنانيين بأنّ رياح الأزمة المالية العالمية ستُجهز على ما تبقّى من اقتصاد بلادهم، بالأخص وإنّ المعدلات السنوية للنمو الاقتصادي بين العامين ١٩٩٧ و٢٠٠٦ كانت بالكاد تُعادل المعدلات السنوية للنمو السكاني في الفترة عينها، ٢.٧٪ مقابل ٢.٨٪ على التوالي. ومن أجل تحقيق الإستقرار المالي والنقدي بعد الحرب الأهلية، فرضت السلطات النقدية مستويات عالية من الفائدة لسنواتٍ عدة حققت من خلالها الهدف المرجو منها، ولكنها في الوقت نفسه أثّرت بشكل كبير في فُرَص اقتراض القطاعات الإنتاجية ومساهمتها في نموٍ اقتصادي يتناسب مع معدلات النمو السكاني. ومن أجل احتواء الأثار السلبية للأزمة التي كانت تعصف بالإقتصاد العالمي، عمدت غالبية دول العالم إلى خفض معدلات الفائدة، حتى وصلت المعدلات الحقيقية إلى ما دون الصفر في عدد من الدول المتقدمة. أما في لبنان، فقد أبقت السلطات النقدية الفائدة على مستوياتها العالية. ونتيجة للتباين الكبير بين أسعار الفائدة اللبنانية والعالمية، شهد لبنان تدفقات مالية كبيرة قُدّرت بحوالي ٣٠ مليار دولار. نتيجة لذلك، وبعكس كل التوقّعات، شهد الإقتصاد اللبناني معدلات نمو كانت بين الأعلى في العالم حيث لامست حدود ١٠٪ في السنوات الثلاث التي تلت الأزمة العالمية.

نسب النمو السنوية للناتج المحلي الإجمالي في لبنان، الفترة الزمنية ١٩٩٧ – ٢٠١٩

في العشر سنين التي سبقت الأزمة المالية العالمية، بلغ المعدل السنوي للناتج المحلي الإجمالي اللبناني ٢.٦٩٪ في حين أنّه بلغ ٤.٨٠٪ في العشر سنين بعد الأزمة (المصدر: البنك الدولي).

ولكن هذا النمو لم يَدُم طويلاً وسرعان ما انخفض ابتداءً من العام ٢٠١١ حيث لم يتجاوز معدل النمو ٠.٥١٪ سنوياً في الفترة الزمنية ٢٠١١ – ٢٠١٩. ليس هذا فقط، فكما سنُبيّن أدناه، لم تُحسن السلطات المالية والإقتصادية اللبنانية توظيف هذا الكم من رؤوس الأموال، والتي ساهمت بدورها أيضا وبشكل كبير في الكارثة المالية التي عصفت بلبنان ابتداءً من مطلع العام الحالي. لقد ساد يقينٌ راسخ لدى عموم الشعب اللبناني وساسته آنذاك بأن تلك الأموال هي نعمة مالية أنقذت لبنان من براثن أزمة ٢٠٠٧. والذي تبيّن لنا اليوم إنّ هذه الأموال لم تكن إلّا نقمة اقتصادية منعت الإقتصاد اللبناني من فرصة التنمية الإقتصادية الحقيقية، ودَفَع ثمنها كل أطياف الشعب اللبناني. والسؤال الذي يُطرَح هنا: أين وُظّفت هذه الأموال ولماذا لم يُحسن لبنان توظيفها؟ تُظهر البيانات الصادرة عن البنك الدولي إنّ المعدل السنوي لإنفاق الأُسَر والدولة اللبنانية بلغ ٥.٨٪ في العشر سنين التي تلت الأزمة المالية العالمية (أي الفترة الزمنية: من العام ٢٠٠٧ إلى العام ٢٠١٦)، مُقارنةً بمعدل سنوي بلغ ١.٨٪ في العشر سنين التي سبقت الأزمة (بالتحديد الفترة الزمنية ١٩٩٧ – ٢٠٠٦). كما تُظهر بيانات المصدر ذاته، إنّ المعدل السنوي لعجز التجارة الخارجية قد زاد من ٢٢.٩٪ من مجمل الناتج القومي في الفترة ١٩٩٧ – ٢٠٠٦ إلى ٢٧.٨٪ في الفترة ٢٠٠٧ – ٢٠١٦. وما لم تُبيِّنه بيانات البنك الدولي ويعرفه اللبنانيون جيداً هي المشاريع الإسكانية التي عمّت العاصمة والمدن الرئيسة الأخرى، وحصرُها بأيدي عددٍ قليل من المقاولين. ومن ثم قيام البنوك الخاصة والتابعة للدولة بمنح قروض سكنية على نطاق واسع، ما زاد الطلب على الشقق السكنية، ومن ثم ارتفاع أسعارها بنحو خمسة أضعاف بين العامين ٢٠٠٥ و٢٠١٠ حسب الموسوعة العلمية ويكيبيديا.  

النمو السنوي لإنفاق الأسر والحكومة اللبنانية، الفترة الزمنية ١٩٩٧ – ٢٠١٩

في العشر سنين التي سبقت الأزمة المالية العالمية، بلغ المعدل السنوي لإنفاق الأُسَر والدولة اللبنانية ١.٨٠٪ في حين إنّه بلغ ٥.٨٢٪ في العشر سنين التي تلت الأزمة (المصدر: البنك الدولي).

النمو السنوي لعجز التجارة الخارجية اللبنانية، الفترة الزمنية ١٩٩٧ – ٢٠١٩

في العشر سنين التي سبقت الأزمة المالية العالمية، بلغ المعدل السنوي لعجز التجارة الخارجية اللبنانية ٢٢.٩٪ من مجمل الناتج المحلي الإجمالي في حين إنّه بلغ ٢٧.٨٪ في العشر سنين التي تلت الأزمة (المصدر: البنك الدولي).

كان لرؤوس الأموال، التي جذبها الإقتصاد اللبناني خلال وبعد الأزمة العالمية والتي تم استخدامها في استهلاك الأُسَر والدولة اللبنانية والإستيراد ومشاريع الإسكان، بالغ الأثر في زيادة أسعار السلع والخدمات وأجور اليد العاملة والمحال التجارية والشقق السكانية. وهذا ما أدى إلى دخول الإقتصاد اللبناني بموجات متتالية من ارتفاع الأسعار طالت كل القطاعات الإقتصادية اللبنانية. وقد استمرت موجات ارتفاع الأسعار لسنوات عديدة، ولم تكن محصورة بالفترة الزمنية التي تلت الأزمة المالية. ففي العشر سنين التي سبقت الأزمة المالية العالمية، بلغ معدل التضخّم السنوي في لبنان ١.٨٪. في حين إنّه بلغ ٣.٨٪ في العشر سنين التي تلت الأزمة. كان واضحاً إنّ هناك فقاعة أسعار تتكوّن وتُساهم بشكل كبير بانخفاض القيمة الحقيقية للأجور والمستوى المعيشي لفئات لا يُستهان بها من أطياف الشعب اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت وتيرة ارتفاع الأسعار في الأسواق اللبنانية أكبر من وتيرة ارتفاع الأسعار في الأسواق الأميركية بعد العام ٢٠٠٧. فكان المعدل السنوي للتضخم في لبنان أعلاه يقابله معدل سنوي بلغ ٢.٤٪ في الولايات المتحدة الأميركية. ونتيجة ذلك، فقد ارتفعت القيمة الفعلية لليرة اللبنانية مقابل الدولار بينما استمرت القيمة الإسمية ثابتة (وهي ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد)، ما أدّى إلى زيادة الواردات ومنع نمو الصادرات وإمكانية وصولها للأسواق العالمية، وانحصرت الإنتاجية على السوق المحلية مما زاد من عجز الميزان التجاري، وأدّى إلى ضعف مُعدّلات النمو، وفُرَص استدامتها لفترات طويلة وقدرتها على خلق فرص عمل.

نسب التضخم السنوية في لبنان. الفترة الزمنية: ١٩٩٥ – ٢٠١٩

في العشر سنين التي سبقت الأزمة المالية العالمية، بلغ معدل التضخم السنوي في لبنان ١.٨٢٪ في حين بلغ ٣.٠٨٪ في العشر سننين التي تلت الأزمة (المصدر: الصندوق النقد الدولي).

وكان على السلطات النقدية اللبنانية تصحيح مسار الأسعار على ثلاثة محاور: تقليل حجم القروض ذات الطابع الإستهلاكي للحدّ من مُعدّلات التضخم، تخفيض القيمة الإسمية للعملة الوطنية لتصحيح العجز في الميزان التجاري، وتقليل القروض العقارية بشكل كبير لمنع ولجم فقاعة الأسعار في القطاع الإسكاني. على العكس تماماً، كان البنك المركزي يلجأ دائماً إلى الإستدانة التي وُظِّفَت بشكل كبير لتمويل القروض الإستهلاكية (للقطاعين العام والخاص) والقروض العقارية ومدّ الأسواق بأي كمية من الدولار لبقاء سعر الصرف مُجَمّد عند مستوى ١٥٠٠ ليرة للدولار. وفي الوقت عينه، حُرِمَت القطاعات الإنتاجية من أي تمويل حقيقي، وتُركت لسنوات تواجه مصيرها المحتوم، وهو الإقفال وتسريح عدد كبير من اليد العاملة. وعلى أثر ذلك تراكم الدين العام، وكانت معدلات النمو مُنخفضة للغاية حيث بلغ المعدل السنوي للنمو حوالي ٠.٥١٪ في الفترة الزمنية ما بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٩، ولم تكن كافية لخدمة الدين، ونتيجة لذلك أُجبِرَت الدولة اللبنانية أخيراً على التخلّف عن دفع ما هو مستحق عليها من ديون. وكان من الطبيعي أن تُحجِم المؤسسات المالية المحلية والأجنبية وصندوق النقد الدولي عن تقديم أي قروض إضافية للدولة اللبنانية، وكان انهيار العملة الوطنية أمرٌ محتوم ولا مفرّ منه في بداية هذا العام.

إنّ النموذج الإقتصادي الذي تبنّته الدولة اللبنانية بعد الحرب الأهلية كان سيدفع بلبنان إلى المصير المشؤوم نفسه، بغض النظر عن وجود انقسامٍ سياسي من عدمه، وإنّ ما ركن إليه بعض الساسة وصنّاع القرار اللبنانيين من أن الخلافات السياسية الحادة كانت السبب الرئيس للكارثة المالية الحالية هو أمر في غير محله، فحقيقة الأمر قامت الطبقة السياسية اللبنانية، بغض النظر عن انتمائها الطائفي، باستغلال الإنقسامات السياسية وطرحها أمام وسائل الإعلام، التي هي أصلاً تحت سيطرتهم، لتغطية فشلهم الإقتصادي، والحيلولة دون محاسبتهم وضمان استمرارهم في الحكم.

 فما هو النموذج الذي طبّقته الدولة اللبنانية بعد الحرب الأهلية؟ تزامن انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية مع تغيّرٍ جذري لنموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية بعد عقود من السياسات الاشتراكية التي خلّفت فساداً إدارياً ومعدلات تضخم عالية أرهقت كاهل العديد من الدول النامية والفقيرة، ما دعت الحاجة إلى الحدّ من الفساد في القطاع العام، واستقرار الأسعار، وتشجيع الإستثمارات الخاصة لاستدامة النمو وخلق فرص العمل وتقليص معدلات الفقر. ولذلك فقد عمدت غالبية الدول النامية، بإيعازٍ من المنظمات الدولية، إلى تقليص دور القطاع الحكومي في إدارة النشاط الاقتصادي من خلال بيع الأصول الحكومية للقطاع الخاص وذلك من أجل الحدّ من الفساد الإداري، وعدم الكفاءة والفعالية التي بالعادة تعم الإدارات العامة. فمن المفترض إنّ القطاع الخاص يمتلك حافزاً أكبر لإدارة هذه الأصول بكفاءة أعلى من القطاع العام. ومن جهة أخرى، ربطت معظم الدول عملتها بالدولار الأميركي كوسيلة للحدّ من لجوء الحكومات إلى التمويل التضخمي وبالتالي تنخفض معدلات التضخم. وكان الإعتقاد إنّ استقرار الأسعار عند مستويات مُنخفضة سيُساهم في تشجيع استثمارات القطاع الخاص الضرورية لاستدامة النمو وتنمية القطاعات المحلية والخارجية وخلق فرص عمل لائقة في المدى البعيد.

 وكان لبنان من بين الدول النامية التي طبّقت هذا النموذج الإقتصادي، حيث جرى إشراك القطاع الخاص في إدارة العديد من القطاعات الإقتصادية التي كانت تملكها الدولة كقطاعات الإعلام المرئي والمسموع والتعليم والنقل والمواصلات والاتصالات والنفط والكهرباء والصحة والأشغال العامة والمياه والبريد. وللحد من معدلات التضخم وانهيار العملة الوطنية، فقد رفع مصرف لبنان المركزي الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية بشكل كبير، وقامت الدول الخليجية بإيداع مبالغ مالية كبيرة فيه مكّنته من التدخل بحزمٍ في الأسواق لتثبيت الليرة اللبنانية على سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد. وبالفعل، فقد انخفضت معدلات التضخم من ٩.٣٪ في العام ١٩٩٥ إلى أقل من صفر في المئة في العام ٢٠٠٠، وظهر بذلك جلياً أن السلطات المالية نجحت في كبح جماح الأسعار واستقرارها تماماً وفق ما خططت له. وساد تفاؤل بين اللبنانيين بأنّ الازدهار الاقتصادي في انتظارهم وذلك قبل اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وكذلك بعد الأزمة المالية في العام ٢٠٠٧، ونجاح لبنان بجذب كميات كبيرة من الأموال. ولكن الإزدهار الإقتصادي لم يتحقّق، وكانت المستويات المعيشية للشعب اللبناني تنحدر بشكل ملحوظ عاماً بعد عام. فلماذا لم يقدر الاقتصاد اللبناني باستغلال استقرار الأسعار والأموال المتدفقة وتحويلها لنمو مستدام وفُرَص عمل لائقة؟ ولماذا فشل النموذج الإقتصادي الذي طبّقته الدولة اللبنانية بعد الحرب الأهلية؟

هناك عوامل عديدة وراء هذا الفشل يُمكن تلخيصها بالآتي:

أولاً، إنّ القطاعات التي كانت تُسيطر عليها الدولة وتمت خصخصتها بعد انتهاء الحرب الأهلية هي قطاعات خدمات تلبي حاجة السوق المحلية، ولا يمكنها وحدها إحداث نمو مستدام في المدى البعيد من دون مؤازرة حقيقية من قطاعات التجارة الخارجية.

ثانياً، خلا النموذج الإقتصادي الذي طبّقته الدولة اللبنانية بعد الحرب الأهلية من أي استراتيجيات أو سياسات مُتناسقة لتنمية قطاعاتٍ إنتاجية جديدة قادرة للوصول والمنافسة في الأسواق العالمية. فعانت قطاعات التجارة الخارجية من ضعف بنيوي، وتركت لمصيرها المشؤوم وهو الإقفال وتسريح العاملين بها، مما حرم الاقتصاد اللبناني من أهم مصدر للعملة الأجنبية وهي التجارة الخارجية.

ثالثاً، أجهز ارتفاع القيمة الحقيقية للعملة الوطنية مقابل الدولار، الذي بيناه أعلاه، على ما تبقّى من قطاعات إنتاجية وإمكانية وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، ما حرم لبنان من فرصة أن يكون له قطاع تجارة خارجية داعم لقطاع الخدمات المحلي ولاستدامة النمو الضروري لخلق فرص العمل.

رابعاً، كان قرار السلطات المالية استثمار الأموال التي تدفّقت إلى لبنان جرّاء الأزمة المالية العالمية في تمويل استهلاك الأسر والقطاع العام وقروض الإسكان (بدل استثمارها في قطاعات إنتاجية) هو خطيئة اقتصادية. حيث زادت من معدلات التضخم، كما بيّنا أعلاه، الأمر الذي تسبّب بانخفاض كبير في القيمة الحقيقية لرواتب شرائح عريضة من المجتمع اللبناني وقربه عام بعد عام من خطوط الفقر.

خامساً، أثبت القطاع الخاص اللبناني عدم كفاءته وقدرته لتحمّل المسؤوليات الاقتصادية التي أُنيطت به. فتحوّلت القطاعات التي وضعت تحت إدارته إمّا لقطاعات محتكرة كقطاع الاتصالات، أو لقطاعات فاشلة وغير قادرة على تأمين الحد الأدنى من الخدمات كقطاعي الكهرباء والمياه. لذلك، فقد ساهمت الخصخصة بازدياد معدلات التضخم وتدهور المستوى المعيشي للشعب اللبناني وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض معدلات النمو.

سادساً، في تسعينات القرن الفائت، شهد العالم أفول عصر الثورة الصناعية وبزوغ عصر جديد قائم على المعلومات والذي يتطلب استثمارات رزينة وطويلة المدى في نقل المعرفة وتوليدها محلياً. وهذه المتطلبات تفوق قدرات أي قطاع خاص في الدول النامية بما فيها لبنان. ومن أجل ذلك، كان وجود قطاع عام فعال ونشط أمراً ضرورياً لإيجاد البنى التحتية المَعرفية المُناسبة، وتقديم الدعم لتنمية قطاعات إنتاجية. ولكن للأسف لم يكن للدولة أي دور اقتصادي حقيقي في النموذج الذي أشرنا إلية أعلاه، وتُركت القطاعات الإنتاجية في عجز معرفي كبير ومن دون أي إنفاق جدي على البحث العلمي. وكان لذلك بالغ الأثر في قدرة الصناعات اللبنانية من إمكانية وصولها إلى الأسواق العالمية والمنافسة فيها. وأخيراً، يتطلب عصر المعلومات الجديد وجود رأس مال بشري حديث ومختلف عما عهدته الدول النامية من قبل، فكانت هناك حاجة ملحة إلى إعادة النظر بشكل جذري بالرؤية التعليمية ونُظمها ومناهجها لكافة المراحل للوصول إلى رأس المال البشري المبدع والخلاق الذي يساند ويدعم القطاعات الانتاجية. على العكس تماماً، فقد ظل التعليم في لبنان، بشقيه الخاص والعام، يتبع النظام التقليدي ولم يتم تطويره بشكلٍ يتلاءم مع متطلبات عصر المعلومات الجدي،د مما يُفسّر معدلات البطالة العالية بين متخرجي الجامعات الخاصة والحكومية على حدٍّ سواء.

إنّ الإصلاح الإقتصادي الذي تسعى إليه القوى السياسية اللبنانية اليوم لا يزال ينحصر في ذات النموذج الذي أنهك الإقتصاد اللبناني وحال دون تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية وشاملة ومستدامة. وإنّ أي مساعدات مالية عربية أو دولية مُحتملة يجب أن تقترن برؤية اقتصادية وطنية جديدة تهدف إلى تحويل المجتمع والاقتصاد اللبناني نحو الإنتاجية ووضع الاستراتيجيات والسياسات الاقتصادية الطويلة المدى، لتمكين القطاعات الإنتاجية للوصول والمنافسة المستدامة في الأسواق العالمية وتفعيل دور الدولة الاقتصادي. إنّ أي دعم مالي جديد للبنان مهما كان مصدره وكميته من دون مراجعة للسياسات الاقتصادية بشكل جذري، سيبقي لبنان في المسار نفسه الذي سلكه ابتداء من العام ١٩٩٥، ولن يساهم في استدامة النمو في المدى البعيد. فلبنان اليوم لا يتمتع بالبنى التحتية الحديثة، والإستقرار المالي والنظام المصرفي الرصين والمدخرات المالية، والإستقرار السياسي في المنطقة والعالم، التي كانت سائدة بعد الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٧. ولا أظن إنّ أي مساعدات مالية اليوم ستكون أكبر من التدفقات المالية التي سبق وأن تلقاها الاقتصاد اللبناني حينذاك. وعلى الرغم من ذلك، لم يساهم النموذج الاقتصادي والتدفقات المالية الكبيرة في تجنيب اللبنانيين الكارثة المالية التي يمرون بها اليوم. لذلك، فإنّ حاجة لبنان إلى نموذج اقتصادي جديد هو أكبر من حاجته إلى مساعدات مالية. إنّ الإصلاح الاقتصادي الحقيقي كفيلٌ بجذب تحويلات من المهاجرين اللبنانيين حول العالم تفوق ما سبق وأن تلقاه لبنان من تدفقات مالية في العام ٢٠٠٧، ومن مساعدات مالية متوقعة اليوم.

  • البروفسور محمد أحمد أبو هميا هو مستشار وباحث إقتصادي في المعهد العالي للدراسات الدولية والإنمائية في جنيف. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: abouhamia@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى