المهاجرون في دول الغرب بين الإندماج والعزلة

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

في ظل العَولَمة، ومع ازدياد أعداد المهاجرين والإنتقال الكثيف لليد العاملة بين الدول، بدأت تُطرَحُ أسئلة كبرى حول اندماج الوافدين بالمجتمعات المُضيفة، وحول مستقبل هذه المجتمعات في ظلّ أزماتٍ وتحوّلاتٍ ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تعيشها. وجاءت الأحداث المؤلمة الأخيرة التي شهدتها بعض الدول الأوروبية، والتي سقط فيها عدد من الأبرياء، لتفتح نقاشاً واسعاً حول العلاقة بين المُهاجرين وسكان هذه الدول. هل على المهاجرين أن يتخلّوا عن عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وسلوكياتهم وأن يتأقلموا مع المجتمعات التي قصدوها للإقامة والعمل؟ أم يجب على هذه المجتمعات أن تُقدّم تنازلات في إطار سعيها لاستيعاب ودمج هؤلاء المهاجرين في نظمها القِيميّة وفي عاداتها وتقاليدها؟

1 – إن ظاهرة الهجرة ليست جديدة وهي رافقت نشوء المجتمعات البشرية. وانتقال الأفراد والعائلات من مُجتمعٍ للعيش في مجتمع آخر كانت له دائماً أسبابه الأمنية والدينية والإقتصادية والسياسية وغير ذلك. وكل هجرة مهما كان نوعها تحتاج إلى أسباب طاردة تدفع الإنسان للتفكير في تغيير مكان سكنه والتخلي عن أهلٍ وقرابة وعلاقات عمل وعن استقرار نفسي وجسدي. كما تحتاج إلى أسباب جاذبة تتمثل بفُرصٍ أفضل للعمل والسكن والإقامة وإلى خدمات اجتماعية وصحية تُقدّمها المجتمعات المستقبِلة. وبقدر ما تتكوّن وتبرز حاجة المهاجرين للتخلي عن أوطانهم، هناك حاجة عند المجتمعات المستقبِلة للاستعانة بهؤلاء المهاجرين لنموها وتطورها. الحاجة متبادلة بين الطرفين وتقوم على حاجات ومصالح ومكتسبات ولا يُمكن بتاتاً قراءتها من منظارٍ أخلاقي وتعاطفي وإنساني. فلو لم يكن المهاجرون بحاجة ماسة إلى مغادرة أوطانهم لما غادروها. ولو لم تكن المجتمعات التي تستقبل المُهاجرين بحاجة أيضاً إلى قوة عملهم وإلى قوة عمل أولادهم لما فتحت لهم أبوابها. وهذه المجتمعات تختار عادةً أنواعاً من المهاجرين لديهم كفاءات ومؤهلات وقدرات تُساهم في تطوير اقتصاداتها وصناعاتها ومختلف قطاعاتها الإنتاجية. إذن هي عملية تقوم على مصالح مُتبادَلة وليس على عطف وحب وسلوك إنساني.

2 – إن المراقبة والدراسة الدقيقة لواقع المهاجرين في الدول المعروفة باستقبالها لأعدادٍ كبيرة منهم تظهر مؤشرات تتميز بالخطورة على المديين القريب والبعيد. فغالبية هذه الدول لم تضع سياسات واضحة وطويلة الأجل لاستقبال ودمج هؤلاء المهاجرين، مما أفرز ظواهر نافرة ومُقلقة. فالمهاجرون الذين يصلون إلى المجتمعات الجديدة يبحثون عن الأمان النفسي فيلجأون إلى حيث يُقيم مواطنوهم الذين سبقوهم من جهة وإلى دور العبادة التابعة للمذاهب الدينية التي ينتمون إليها من جهة أخرى. ففي هذين المكانين يشعر المهاجر بالإطمئنان والأمان خصوصاً في الفترة الأولى التي تعقب وصوله. بعض المهاجرين يقوم بتغيير أماكن سكنه ويبتعد إلى حدٍ ما عن دور العبادة ويذهب إلى أماكن وانتماءات أخرى، أما الآخرون فيتمسّكون بعنصري الأمان السالفَين ويتقوقعون على ذواتهم. هكذا نشأت في الكثير من المدن الكبرى أحياءً تحمل بصمات وسمات المهاجرين بحيث تشعر وكأنك في بلدان المهاجرين الأصلية. وهذه الظاهرة موجودة بشكل ظاهر ونافر في أغلب المدن الأوروبية والأميركية والكندية والأوسترالية ولو بدرجات مختلفة. وقد أدّى ذلك إلى بروز ممارسات شاذة وسلوكيات وتقاليد نافرة لا علاقة لها بقوانين وأنظمة وقيم المجتمعات المضيفة، كما ارتفعت بعض الأصوات تطالب بتعديل القوانين النافذة والمُطَبّقة في هذه المجتمعات لتعترف بعادات وتقاليد المهاجرين في الزواج والطلاق والتربية والأكل وغير ذلك.

3 – المهاجر هو إنسان له ثقافته وحضارته وقِيمه وعاداته وتقاليده وهو تربّى في بيئةٍ لها خصائصها ومُميزاتها ومعتقداتها. وهو عندما يصل إلى المجتمعات المستقبِلة يحمل معه كل هذه المنظومة التي جُبلت بها شخصيته، ومن المستحيل الطلب منه التخلي عنها ونزعها عنه. كذلك فإن هذه المجتمعات لها عاداتها وتقاليدها وقيمها التي بُنيت وتبلورت على مَرِّ السنين ومن المستحيل أيضاً أن تتخلى عنها. فبعض هذه المبادىء والقيم كانت نتيجة ثورات عميقة كلّفت عشرات آلاف الضحايا. من هنا يُطرح السؤال: هل يجب على المهاجر أن يُقدّم التنازلات ليعيش في المجتمع الذي قصده بكامل وعيه وإرادته؟ أم على هذا المجتمع أن يحترم مشاعر المهاجرين وعاداتهم وتقاليدهم ليؤمّن لهم مناخات مطمئنة؟ وما هي حدود التنازلات المُتبادَلة من الفريقين وكيف يُمكن أن تُترجَم؟ من الطبيعي أن يُطبِّق المهاجرون القوانين والأنظمة، وأن يتقيّدوا بما تفرض هذه القوانين من سلوكيات في حياتهم اليومية. ومن المُمكن أن يتأقلموا مع بعض العادات والتقاليد التي يصادفونها في المجتمعات التي استقبلتهم. ولكن ماذا بالنسبة إلى المقدسات المرتبطة بالإنتماء الديني وبالأيمان؟ هل يمكن التخلي عنها أو إجراء تسويات وتنازلات بشأنها؟ من الصعب جداً وهنا جوهر المشكلة أو الأزمة. وإذا كانت المجتمعات التي تستقبل المهاجرين بأعداد كبيرة تُراهن على اندماج أبناء وأحفاد هؤلاء المهاجرين، بعد سنوات طويلة، وعلى تخلّيهم حتى عن تعصّبهم للمُقدّسات الدينية، فكيف يُمكن أن يتحقّق ذلك عندما يعيش هؤلاء في أحياءٍ شبه مُغلَقة تُعاني الفقر والبطالة والحرمان وتفشّي المُخدّرات والأزمات الإجتماعية المختلفة. وإذا كانت الأنظمة الرأسمالية وبعض قطاعاتها الإنتاجية تخطط عمداً لإبقاء مناطق إقامة وتجمّع المهاجرين مناطق فقيرة ومُهمَلة كي تبقى ينابيع ومصادر لتوفير اليد العاملة الرخيصة، فإنها لا تُدرك أنها بذلك تُحضّر قنابل موقوتة لا يعرف أحدٌ متى ستنفجر.

المجتمعات الغربية التي استقبلت أعداداً كبيرة من المهاجرين في العقود الخمسة الماضية تعيش مجموعة متداخلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتشكّل أزمة المهاجرين أخطرها. وإذا لم تضع هذه المجتمعات خططاً عاجلة لمعالجة هذه الأزمة، على قاعدة التعددية الثقافية، فإن الصدام واقعٌ لا محالة ويُمكن أن يذهب باتجاه حروب أهلية مُدمّرة، خصوصاً مع زيادة قوة ونفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة. فهل ستعي حكومات الدول الغربية خطورة الوضع أم ستنتظر الإنفجار الكبير لتبدأ المعالجة؟

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى