العراق قد يُواجِهُ انهياراً مالياً كلّياً في العامِ المُقبل!

ورث رئيس الوزراء العراقي، مُصطفى الكاظمي، سلسلة من الأزمات المالية. وفيما تكافح حكومته المؤقتة لمنع انهيارٍ إقتصادي كامل للدولة، قد تأتي تدابير التقشّف على حساب الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها.

علي علاوي: الإصلاحات التي دعا إليها هي الوحيدة التي ستكون خشبة الخلاص للعراق.

بقلم كيرك هـ. سويل*

منذ تولّيه منصبه، واجَهَ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي سلسلةً من الأزمات المالية والأمنية وسط انهيارٍ للخدمات العامة واحتجاجات شعبية. إن انهيارَ أسعار النفط العالمية بسبب جائحة فيروس كورونا وحرب أسعار النفط السعودية-الروسية تسبّب للعراق بأزمةِ ملاءة داخلية في حزيران (يونيو) الفائت. ولهذه الأزمة المالية آثارٌ قصيرة وطويلة الأمد. في المدى القصير، تُكافح بغداد باستمرار لدفع رواتب القطاع العام، الأمر الذي تطلّب من الدولة الإقتراض من البنك المركزي خلال الصيف. مع انخفاضِ عائدات النفط، تُغطّي الأرباح الشهرية للدولة ما يزيد قليلاً عن 50 في المئة من نفقاتها. في المدى الطويل، يُواجِهُ العراق انهياراً مالياً كلّياً وشيكاً للدولة – ربما خلال العام المقبل.

تُكافحُ الدولة منذ فترة لتغطية نفقاتها الشهرية. على مدى الحكومات المتعاقبة، نما حجم القطاع العام لدرجةٍ أن العراق يحتاج إلى إنفاق أكثر من إجمالي إيراداته على المدفوعات الأساسية – رواتب القطاع العام، والمعاشات التقاعدية، والمساعدات الغذائية، والرعاية الإجتماعية – لإبقاء غالبية السكان خارج العَوز. في العام 2019، بلغ متوسط عائدات النفط 6.5 مليارات دولار شهرياً، مع عائداتٍ غير نفطية متواضعة (معظمها من الجمارك، أقل بكثير من مليار دولار شهرياً)، حيث غطت هذه المبالغ المصروفات التشغيلية مع وجود مبلغ صغير مُتَبقٍّ للإنفاق الرأسمالي. منذ انتعاش أسعار النفط بعد انهيارها في آذار (مارس)، بلغ متوسط عائدات النفط الشهرية في العراق ما يزيد قليلاً عن 3 مليارات دولار في الشهر، لتصل إلى 3.52 مليارات دولار في آب (أغسطس). وفي شهادته أمام البرلمان في أيلول (سبتمبر)، كشف وزير المالية علي علاوي أنه مع وجود عائدات عند هذه المستويات، لا تزال الحكومة تقترض 3.5 تريليونات دينار عراقي – ما يزيد قليلاً عن 3 مليارات دولار – من البنك المركزي كل شهر.

في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر)، عندما أصبحت أزمة السيولة النقدية في العراق أكثر حدّة، أوضح علاوي أن تعويضات موظفي الدولة إرتفعت من 20 في المئة من عائدات النفط في 2005 إلى 120 في المئة اليوم. لمساعدة الجمهور على فهم سبب انهيار مالية حكومة في مثل هذا البلد الغني بالنفط، أوضح أن حكومة بهذا الحجم يجب أن يكون لديها ما لا يقل عن 15 إلى 20 مليار دولار من الأموال لدفع النفقات الشهرية بشكل مستمر، ولكن عندما وصلت هذه الحكومة إلى السلطة، كان مُتاحاً لديها فقط حوالي 1 مليار دولار. ويرجع ذلك جزئياً إلى ضعف الإيرادات نتيجة انخفاض أسعار النفط والتزام العراق بقيود منظمة أوبك على صادرات النفط. في الماضي، بلغت صادرات العراق النفطية 3.5 ملايين برميل يومياً، لكنها انخفضت إلى 2.5 مليوني برميل يومياً في الأشهر الأخيرة. وقد طالبت شخصيات بارزة، بمَن فيهم وزير النفط السابق إبراهيم بحر العلوم، لصالح الإنسحاب من اتفاق أوبك من جانب واحد. ومع ذلك، أوضح علاوي، مُتحدّثاً أمام البرلمان، أنه بينما يوافق على أن صيغة حصص أوبك غير عادلة، فإن العراق بحاجة إلى اتفاق أوبك لمنع أسعار النفط من الإنهيار. في الآونة الأخيرة، وفقاً لتقرير نفط العراق، أشارت الحكومة إلى أنها قد تحاول زيادة الصادرات بمقدار 250 ألف برميل يومياً لإرضاء النقاد – وهي كمية تزيد عن حصتها، ولكن لا يزال هناك حوالي 750 ألف برميل يومياً أقل من ذروة الإنتاج، وبالتالي “نأمل أن تكون الزيادة ضئيلة للغاية بحيث لا تتسبّب في انتقام سعودي”.

وانهارت عائدات النفط الشهرية للعراق من 6.2 مليارات دولار في كانون الثاني (يناير) إلى 1.4 مليار دولار فقط في نيسان (إبريل). وانتَعَش الرقم إلى 2.9 ملياري دولار في أيار (مايو) وتحسّن تدريجاً منذ ذلك الحين، ولكن في آب (أغسطس) كان لا يزال عند 3.5 مليارات دولار فقط. نظراً إلى أن الحكومة لم يكن لديها سوى حوالي 3 مليارات دولار من الإحتياطات القابلة للإستهلاك في أيار (مايو)، فقد أصبح من الواضح أن العراق لا يستطيع دفع رواتب موظفي الدولة في حزيران (يونيو). وقد تم دفع الرواتب خلال الصيف عندما أصبحت الأموال مُتاحة. وفي وقت متأخر من 28 تموز (يوليو)، إعترف المتحدث باسم رئيس الوزراء بأن الموظفين في وزارة الثقافة والآثار (على ما يبدو الأقل أولوية)، ما زالوا ينتظرون دفع رواتبهم.

أدركت الحكومة أن هذه الأزمة مُقبلة وبدأت إعداد الجمهور للتقشّف. وظهر وزير المالية علاوي عبر وسائل الإعلام مرات عدة، واصفاً الوضع العراقي بأنه مُريع وطالب بإصلاحٍ جذري. على وجه الخصوص، توقّع أن تقوم الحكومة، مع حماية الرواتب الأساسية، بإجراء تخفيضات كبيرة على مزايا الموظفين والتكاليف الأخرى. في 9 حزيران (يونيو)، اتبعت الحكومة ما قاله وزير المالية عندما صوّتت لتنفيذ سلسلة من إجراءات التقشف، بما فيها خفض الفوائد والمزايا، وخفض الإنفاق غير الضروري، وتقييد الدخل من مدفوعات “الراتب المزدوج”.  ووصف مستشار الكاظمي، هشام داود، السياسات الجديدة بأنها “ليست كافية ولكنها مجرد بداية” نحو الإصلاح.

الكاظمي، الذي لا يمتلك قاعدة انتخابية أو قاعدة سياسية خاصة به، واجه الأزمة المالية بيدٍ ضعيفة. أصبح هذا واضحاً عندما رفض البرلمان بغالبية ساحقة سياسات التقشّف الحكومية في 10 حزيران (يونيو). حتى أن النواب المؤيدين للحكومة وصفوا إجراءات الحكومة بأنها سابقة لأوانها، مُشيرين إلى ضرورة محاولة زيادة الإيرادات من خلال الجمارك أولاً. وأقرّ البرلمان في النهاية قانون الإقتراض في 24 حزيران (يونيو) للسماح للحكومة باقتراض ما يكفي فقط لسداد المدفوعات الأساسية. لكن هذا القانون يُحظّر على الحكومة خفض المزايا. في السابق، كانت لمجلس الوزراء سلطة خفض المزايا لأنه، على عكس الرواتب التي يُحدّدها القانون، كانت المزايا تُحَدَّد بموجب قرارات وزارية سابقة. وهكذا، جعل البرلمان المشكلة الطويلة الأمد أسوأ.

في تموز (يوليو)، عادت الإحتجاجات إلى الظهور في بغداد نتيجة الأزمة المالية. تسبّب نقص الأموال في تفاقم نقص الكهرباء في العراق بشكل كبير. وعزا وزير الكهرباء المنتهية ولايته لؤي الخطيب التراجع إلى عاملَين: قلّة الصيانة وتعليق مشاريع الكهرباء المُخَطّط لها.

لدى الحكومة عددٌ قليل من الحلول المُمكنة تحت تصرّفها، ولكنها صعبة سياسياً. يمكنها وقف وقطع الدعم الذي يقارب مليار دولار شهرياً لاستهلاك الكهرباء الخاص، وهو موجود لأن الوزارة لا تجمع سوى جزء بسيط من مدفوعات المستهلكين. وأشار وزير المالية علاوي إلى أن “الناس لا يدفعون فواتير الكهرباء” وأن “95 في المئة” من تكاليف الإستهلاك تم استيعابها من قبل الدولة، مؤكداً أن “الكهرباء ليست حقاً دستورياً”. إن هذا الجهد يُذكّر بتجربة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في محاولته استخراج وتحصيل مدفوعات الكهرباء في العام 2017، الأمر الذي عجّل بحركة احتجاجية قوية ضده. حتى الآن، لم يُظهِر الكاظمي أي علامة على أنه يريد دفع القضية قُدُماً. وركّزت تعليقاته المنشورة خلال اجتماع مجلس الوزراء المُكرَّس لقضية الكهرباء على “الحدّ من البيروقراطية” وتحسين الصيانة، وتجاهَلَ حقيقة وجوب دفع رواتب عمّال الصيانة.

تأتي الأزمة المالية في العراق في أعقاب الأزمة السياسية للحكومة المُنتهية ولايتها، والتي تركت البلاد بدون موازنة لمعظم العام 2020. وفي مثل هذه الحالات، يسمح القانون العراقي للحكومة بإنفاق واحد على اثني عشر (1/12) من الإنفاق الفعلي للعام السابق كل شهر. نظراً إلى أن إيرادات هذا العام كانت مُنخَفِضة، لم يكن لديها المال لإنفاق هذا القدر من المال، وببساطة أنفقت ما لديها على المدفوعات الأساسية. في أيلول (سبتمبر)، أصدرت الحكومة موازنة العام 2020، وكان العجز المُخَطَّط فيها كبيراً – أكثر من 100 في المئة – لذلك من المُحتمل ألّا يتم إنفاق جزء كبير من العجز كما في الموازنات السابقة. ويبلغ إجمالي الإيرادات المُتَوَقَّعة 67.4 تريليون دينار، أي ما يعادل 57 مليار دولار، مقابل مصروفات مُقتَرَحة قدرها 148.6 تريليون دينار، أي 125.7 مليار دولار. بلغت عائدات النفط في العام 2019 مبلغ 78.5 مليار دولار، لكن من المتوقع أن تكون 49.3 مليار دولار فقط في العام 2020. وقد سحبت الحكومة مشروع القانون بعد يومين فقط من وصوله إلى البرلمان.

في أيلول (سبتمبر)، نفدت أموال الحكومة، بعدما صرفت واستنفدت سلطة الإقتراض من مشروع قانون حزيران (يونيو).  وبالنظر إلى اعتماد السكان الكبير على رواتب الدولة، فقد أدّى ذلك إلى إبراز المشكلات المالية القصيرة الأجل ودفعها إلى المقدمة. علاوة على ذلك، رفض البرلمان تفويض سلطة اقتراض جديدة التي سعى إليها علاوي لأن الحكومة لم تُقدّم “خطة إصلاح”. وهكذا في أوائل تشرين الأول (أكتوبر)، أصدرت الحكومة “الكتاب الأبيض” لخطة الإصلاح. وترسم الخطة مساراً واسعاً وطويلاً للإصلاح لا يُعالج الأزمة الراهنة بشكل مباشر، إلا بالقدر الذي يُلبّي فيه نشرها رسمياً شرط البرلمان المُسبَق لاقتراضٍ جديد.

جزءٌ مُهم من جهود علاوي كانت دعوته إلى قبول العراق “إتفاقية الإستعداد” (Stand-By Agreement)  لصندوق النقد الدولي التي قد تكون الطريقة الوحيدة لمنع الإنهيار المالي في العام المقبل. وسيتطلب الإتفاق أيضاً تخفيضات في الإنفاق رفضها البرلمان بالفعل. وشدّد علاوي على أن صندوق النقد الدولي لن يطلب تخفيضات في برامج حماية الفقراء، بل في تعويضات القطاع العام التي يرى وزير المال أن العراق بحاجة إلى خفضها بأي حال.

مهّد هذا الأمر الطريق لهزيمةٍ جديدة حيث أرسلت الحكومة عندها قانوناً جديداً للإقتراض إلى البرلمان الذي رفضه وأدانه. وانتقد نائب في اللجنة المالية البرلمانية الأرقام الواردة في مشروع القانون ووصفها بأنها غير مسؤولة. بالنظر إلى دور البرلمان في تفاقم الأزمة، كان هذا مُدهشاً وغريباً. يبدو أن الإنتخابات البرلمانية الوشيكة، المُقرر إجراؤها في موعد لا يتجاوز 2022 وربما قبل ذلك، هي التي تقود المسرح السياسي. من المفترض أن يُمَرّر البرلمان نسخة مُعَدّلة من مشروع قانون الإقتراض الحكومي للسماح للحكومة بدفع الرواتب. في غضون ذلك، مع تأخّر دفع الرواتب، تقلّص الدخل المُتاح، الأمر الذي ألحق المزيد من الضرر بالإقتصاد الضعيف أصلاً. لكن العراق قد يواجه سيناريو أسوأ بكثير في العام 2021، حيث أشارت توقعات صندوق النقد الدولي المُحَدَّثة إلى أن أسعار نفط برنت ستكون بحدود 46.70 دولاراً للبرميل. يعتمد البنك المركزي العراقي، الذي أنقذ الحكومة خلال الصيف، على تدفق ثابت للدولارات من عائدات النفط، ونظراً إلى أن الأسعار الحالية تتراوح بين 40 دولاراً و 45 دولاراً، فإن الإحتياطات تتراجع تدريجاً. وطبقاً للمُحلّل المالي أحمد الطبقشلي، فبإمكان البنك المركزي، بأسعار النفط الحالية، الإستمرار في طباعة النقود لتمويل الحكومة “لمدة ثمانية أو تسعة أشهر”.

في ما يتعلق بالخطوات الفورية، كحدّ أدنى، يبدو أن تخفيض قيمة الدينار العراقي (المربوط منذ فترة طويلة عند 1,182 للدولار) أمرٌ مُحتَمل في العام 2021. وهذا من شأنه أن يُخفّف بعض الضغط عن البنك المركزي ويجعل نفقات الحكومة أرخص (حيث أن دخلها هو بالدولار)، ولكنه سيؤدي أيضاً إلى زيادة التضخّم بمرور الوقت. ويبدو أن التهديد الأكبر هو أنه بحلول منتصف العام 2021 إلى أواخره، لن يكون البنك المركزي قادراً على دعم الحكومة، مما يفرض التقشّف من خلال عدم دفع النفقات التشغيلية، بما في ذلك الرواتب.

من الواضح أن الحكومة كانت بحاجة إلى تبنّي سياسة خفض نفقات القطاع العام مع زيادة استثماراتها الرأسمالية في الزراعة والصناعة وتخصيص المزيد من الموارد للتعليم والصحة. كانت الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها الكاظمي في حزيران (يونيو) قليلة للغاية ومتأخّرة للغاية. ومع ذلك، فإن التقشّف الذي قاومه البرلمان سيكون حتمياً إذا لم ترتفع أسعار النفط بشكل كبير في الأشهر المقبلة. من الأولويات الرئيسة من وجهة النظر الدولية أن يفرض صندوق النقد الدولي، كشرط للحصول على قروضه، على العراق الإصلاحات التي دعا إليها علاوي والتي رفضها البرلمان. لا يبدو من المحتمل أن يأتي الإصلاح إلى العراق بأي وسيلة أخرى.

  • كيرك سويل هو ناشر النشرة الإخبارية التي تصدر كل أسبوعين “داخل السياسة العراقية” (www.insideiraqipolitics.com). يمكن متابعته عبر تويتر على: @uticarisk.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى