لبنان: المأساة من عدم فعل أي شيء

بقلم عامر بساط*

قبل عام تقريباً، قامت مجموعة منّا بكتابة “خطة عمل من عشر نقاط لتجنّب عقدٍ ضائع”. لقد حذّرنا في تلك الوثيقة من أن “النهج الُخاص الحالي لصنع السياسات سيقود لبنان إلى طريق الإنهيار والتفكّك السياسي”. بعد عام، للأسف، أصبحت أسوأ مخاوفنا حقيقة.

كان الإنهيار الإقتصادي اللبناني مُتَوَقّعاً تماماً. فراغات السياسة تُوَلِّد نتائج خبيثة. الإقتصاد هو كائن حي، إذا لم يتم علاجه فإن جهازه المناعي يُحارب العدوى. الحمى، أو الحرارة، هي أعراض هذا التفاعل. في بعض الحالات، يسود الجسم، ولكن في حالات أخرى، خصوصاً إذا كانت العدوى قوية أو كانت مناعة الكائن الحي مُنخفضة، يستسلم الجسم. الحمى هي التي تقتل الكائن الحي وليس العدوى.

لبنان اليوم يقع بشكلٍ قاطع في المعسكر الأخير. كانت الصدمات في العام الفائت شديدة، وأوجه الضعف حادة، لكن لم تُدَر الأزمة بشكل صحيح. نتيجة لذلك، يتكيّف الإقتصاد عضوياً مع الوضع الجديد. إن عواقب هذا التعديل “الداخلي” خطيرة. إن الإنهيار الإقتصادي يبدو واضحاً بالفعل، وستُثبت الندوب أنها طويلة الأمد.

ولكن قبل الخوض في اقتصاديات هذا التعديل التلقائي والهبوط الصعب، فإن الشذوذ المُذهل هو أنه بعد مرور عام على الأزمة لم تفعل الطبقة السياسية الكثير لاحتوائها. هناك ثلاثة تفسيرات مُحتَملة لهذه اللامبالاة. أولاً، عدم الكفاءة المُطلَقة. ثانياً، بيئة سياسية مُستعصية تجعل صنع القرار الجماعي صعباً للغاية، لا سيما بالنظر إلى حجم الخسائر التي تحتاج إلى تقسيم وتوزيع. وثالثاً، قرار نشط من الطبقة السياسية بعدم القيام بأي شيء، حيث أن الإنهيار الداخلي يُحمّل الخسائر للسكان وبالتالي تُحمى المصالح الخاصة للسياسيين. بغض النظر عن التفسير الصحيح، فإن إهمال السياسة، للمفارقة، يُهدّد بتحوّلاتٍ سياسية زلزالية التي من المُحتمل أن تؤثر في الطبقة السياسية نفسها. قد تعكس المحاولة الحالية من قبل السياسيين لتشكيل حكومة بشكلٍ عاجل إدراكاً بأن الإنهيار الإقتصادي من شأنه أن يُقوّض بقاءهم السياسي.

لفهم كيف يتكيّف الإقتصاد تلقائياً، دعونا نتذكر العناصر الأربعة للأزمات الإقتصادية. بحلول أواخر العام 2019، كان لبنان يواجه اختلالاتٍ كبيرة بين العرض والطلب بالدولار الأميركي؛ وعبءَ ديون لا يُمكن تحمّله؛ وقطاعاً مصرفياً مُتضخّماً ومُفلساً؛ وقطاعاً عاماً غير فعّال ويُولّد عجزاً. بعد مرور عام على هذه الأزمات، تم التعامل مع كل هذه المشاكل الأربع – ولكن بالتخفّي والسرية. ومع ذلك، فإن الروافع التلقائية التي تسمح بهذا التعديل ماكرة ومُضِرّة بآفاق البلد في المدى الطويل.

أبدأ أولاً بميزان المدفوعات. بلغ صافي الإحتياجات التجارية للبلاد بالدولار الأميركي 12 ملياراً في العام 2019. وفي العام 2020، إنخفضت هذه الإحتياجات إلى ما يُقَدَّر بنحو 4 مليارات دولار. هذا في حدّ ذاته شيءٌ جيد. ومع ذلك، يوجد تحت التعديل انخفاض كبير بنسبة 50 في المئة في قيمة الواردات، والذي حدث بدوره بسبب الإنهيار الهائل للعملة والركود العميق الذي حرم السكان من الدخل اللازم لاستيراد السلع. بعبارة أخرى، فإن ميزان المدفوعات يتكيّف بالفعل، لكن فقط لأن دخل المجتمع وثروته أخذا في الإختفاء.

العنصر الثاني للأزمة هو عبء الديون العامة والخاصة الهائل الذي أصبح من المستحيل تمويله وخدمته. ستُوصي جميع مخططات التعافي بالتأكيد بتخفيض الديون إلى مستوى يستطيع الإقتصاد تحمّله. ومع ذلك، كان الهدف من إلغاء المديونية دائماً إتباع نهج مُنَظَّم من شأنه أن يوازن بين مصالح المُقرضين – لتعظيم قيمة استرداد قروضهم – مُقابل تلك الخاصة بالمدينين – لتقليل عبء الدين بشكل كافٍ لجعله مُستداماً. بدلاً من ذلك، في ظل عدم وجود إدارة نشطة للأزمة، يتم حلّ مشكلة الديون المتراكمة “عضوياً” من خلال حالات التخلّف عن السداد والإفلاس غير المُنَظَّمة.

القطاع المصرفي هو العنصر الثالث في الأزمة الإقتصادية. أدّت عقود من اجتذاب الودائع وإعادة إقراضها للدولة إلى جعل القطاع المصرفي عملاقاً. علاوة على ذلك، أدّى التخلف عن سداد الديون والركود الشديد إلى إفلاس القطاع. منذ ذلك الحين، كان القطاع يتقلص عضوياً ويُنظِّف نفسه. ومن المُسَلَّم به أن جزءاً من هذه العملية صحّي: يقوم المُقترضون ببيع أصولهم العقارية لمُودعين آخرين واستخدام هذه الأموال لإطفاء الديون.

ومع ذلك، فإن أجزاءً أخرى من عمليات الدمج في القطاع المصرفي غير صحّية. أولاً، هناك ظاهرة سحب الودائع الكبيرة بالتحايل على ضوابط رأس المال. يتم تمويل هذه الودائع من الإحتياطات الأجنبية المُستَنفَدة للبنك المركزي. والظاهرة الثانية هي أن المُودعين يقومون ب”القص”، أو ما يُسمّى ال”هيركات”، بأنفسهم طواعية من طريق سحب ودائعهم بالدولار الأميركي بالليرة اللبنانية بسعر صرف مُصطَنَع القيمة. وتتسبّب هذه “اللّيرَلة” الفعلية في تضخّم قيمة الودائع. يتم فعلياً تنظيف البنوك، لكن المودعين والإحتياطات الأجنبية للبنك المركزي هما اللذان يمتصّان الخسائر، وليس المساهمون في المصارف.

العنصر الرابع للأزمة هو القطاع العام. لقد عجزت الدولة اللبنانية على الدوام عن توليد الإيرادات أو السيطرة على الإنفاق. بينما انهارت الإيرادات خلال العام الفائت، فقد تحسّن جانب الإنفاق في المعادلة بشكل مُتناقِض. وأدى التضخم – الذي يعكس في حد ذاته سياسة نقدية فضفاضة غير مسؤولة – إلى انخفاضٍ كبير في القيمة الحقيقية لأجور ومعاشات التقاعد لموظفي الخدمة المدنية، وبشكل أوسع، الإنفاق العام على السلع والخدمات. هنا مرة أخرى، يتم التعامل مع الخطيئة الأصلية بالتخفّي والسرّية، ولكن بطريقة تؤدي إلى إفقار الطبقة الوسطى والمجتمع ككل.

في العام 2020 وحده، من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنسبة 25 في المئة، وهو رقم يعادل ذلك الذي شهدته الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس للكساد الكبير. عند قياسها بالدولار، فإن القوة الشرائية للإقتصاد اللبناني مُهيَّأة للإنهيار بمقدار الثلثين. والتضخّم، الذي ينخر بشكل مطرد في الدخل الحقيقي للمجتمع، آخذٌ في الإرتفاع بمعدّل يُنذر بالخطر حيث يبلغ 120 في المئة. والفقر متفشٍ، مع ما يقرب من مليوني شخص غير قادرين على شراء المواد الأساسية.

لكن ما لا تكشفه هذه الأرقام هي الندوب الهيكلية التي سيكون تأثيرها طويل الأمد. يشهد رأس المال البشري تآكلاً سريعاً بسبب هجرة الأدمغة الهائلة للشباب الذين يُغادرون لبنان أو يحاولون ذلك. ومما يثير القلق بالقدر عينه هو فقدان القدرة الإنتاجية المادية الناتج عن إغلاق الأعمال على نطاق واسع. والأمر الأكثر إثارة للقلق هي العواقب الأمنية للإنهيار الإقتصادي. إن تاريخ لبنان الطائفي مليء بالصراعات، وانهيارٌ إقتصادي يوفّر بيئة مثالية لعودة العنف.

هل هناك طريقة أفضل للتعامل مع الأزمة؟ بالتأكيد هناك. إن خريطة الطريق المُثلى للتعافي مفهومة جيداً وكُتب الكثير عنها. ومع ذلك، هذا ليس المكان المناسب لتناول هذا الموضوع. الهدف، بدلاً، هو التأكيد على أن الكيان اللبناني هو أضعف من أن يتعامل مع الإهمال والشلل الحاليين. إذا استمر الفراغ السياسي، فإن العواقب الوخيمة تنتظرنا بالتأكيد.

  • عامر بساط هو رئيس الأسواق السيادية والناشئة (ألفا) في “بلاك روك”، وخبير اقتصادي كبير سابق في صندوق النقد الدولي. وهذا المقال كتبه بصفته الشخصية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى