فيروس كورونا يدفع لبنان إلى حافة الهاوية

يعدما عانى من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة، ها هو لبنان يضم أزمة أُخرى إلى قائمته الطويلة تتمثّل بتفشّي وباء كورونا المستجد في البلاد الذي صار خارج نطاق السيطرة.

الدكتور فراس أبيض: الأيام الآتية صعبة جداً على لبنان

بقلم أنشال فوهرا*

على الرغم من غرقه في بحرٍ من الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية الخطيرة، فاجأ لبنان العالم في وقت سابق من هذا العام عندما بدا أنه نجح في درء الفوضى التي كان يُسبّبها انتشار فيروس كورونا في أماكن أخرى. ولكن منذ انفجار مرفأ بيروت الذي ضرب المدينة قبل شهرين وأوقع مئات الآلاف في براثن الفقر المدقع، عاد الفيروس مرة أخرى. وهذه المرة – مع بنية تحتية للرعاية الصحية على وشك الإنهيار، وأزمة سياسية أوسع جعلت الأطباء والممرضات يُفكرون بمغادرة البلاد نهائياً – سيكون من الصعب للغاية السيطرة على العدوى.

في شباط (فبراير)، بعد أيامٍ من تأكيد الحالة الأولى لفيروس كورونا في لبنان، أغلقت الشركات والمتاجر أبوابها بشكل استباقي. وعندما تمّ فرض الإغلاق في منتصف آذار (مارس)، كان الناس على استعداد للإمتثال للقواعد. وعلى الرغم من أنه كانت هناك انتفاضة سياسية جارية، فإن المُحتَجين فضّلوا وقف مظاهراتهم، مُدركين أنه إذا انتشر الفيروس فلن يُمكنهم الإعتماد على دولة يعتقدون أنها غير فعّالة وفاسدة. علماً أن أحد الأسباب التي أشعلت الإحتجاجات في المقام الأول كان نظام الرعاية الصحية الزبائني الذي يحتاج بشكلٍ مُلح وماس إلى الإصلاح. لذا كان يُنظَر إلى الإنضباط الذاتي على أنه العلاج الوحيد.

لكن الإنفجار أجبر الناس على توخّي الحذر من مهب الريح. لقد ترك أحياء بأكملها في حالة خراب وتطلّب الوضع استجابة طارئة. كانت الحكومة غائبة بشكل مُمَيَّز عن جهود الإغاثة، لذا تدفق الناس من مختلف أنحاء البلاد للمساعدة على انتشال الأحياء من تحت الأنقاض والركام، وحضور الجنازات، وكنس الشوارع. كان الأمر كما لو أن الكارثة تسبّبت في فقدان ذاكرة جماعي، ونسي الناس التهديد الذي يُمثّله فيروس كورونا.

وشهد لبنان زيادة بنسبة 220 في المئة في حالات الإصابة بفيروس كورونا منذ ذلك الحين. تجاوز العدد الإجمالي للإصابات 050,00 وتوفي أكثر من 450 شخصاً. قد تبدو هذه الأرقام صغيرة مُقارنةً بالدول الأخرى التي قضى فيها عددٌ أكبر من الناس، ولكن بالنسبة إلى بلد يبلغ عدد سكانه 4 ملايين فقط، والذي يتأرجح على حافة الفوضى، فإنها تُشكّل تهديداً وجودياً. وقد حذّر فراس أبيض، الجراح ومدير مستشفى رفيق الحريري، مركز الرعاية الصحية الحكومي الرئيس لمرضى فيروس كورونا، من أن “الأيام والأسابيع المقبلة ستكون صعبة”.

من جهتهم قال ثلاثة أطباء من ثلاثة مستشفيات مُنفصلة تُقدّم رعاية “كوفيد-19” على خط المواجهة، إن مستشفياتهم تعمل الآن بأقصى طاقتها وقدرتها. وهم قلقون من أن المرضى سيفوقون عدد الأسرة قريباً ومُعدّل الوفيات سيرتفع حتماً. وأضافوا أن معدل الإصابة الثابت الذي يزيد عن 1,000 حالة يومياً تجاوز معياراً وبائياً حاسماً، وكشفوا أن جهود الإحتواء قد فشلت حتى الآن.

علاوة على ذلك، شعر العديد من الأطباء والممرضات الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية بتعويضٍ ضعيف حيث انخفضت قيمة العملة بنسبة 80 في المئة خلال العام الماضي، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وليس الأجور. يُخطّط البعض الآن للهجرة والإنتقال إلى الغرب أو منطقة الخليج العربي حيث الأجور أعلى بكثير. وقد تلقى بعض اللبنانيين الفقراء من الطرف الآخر من الطيف الإجتماعي، وهم يحاولون الفرار من البلاد على متن قوارب المهاجرين إلى قبرص، دعاية واسعة في الشهر الماضي عندما توفي العديد من الأشخاص (بما في ذلك طفلان صغيران) على متن سفينة صيد عُثر عليهم عائمين في البحر. وهذا الحادث يعكس في الواقع اليأس المتزايد في المجتمع اللبناني، الذي لم يستثنِ الفئات الاجتماعية العليا مثل العاملين في مجال الرعاية الصحية.

قال اختصاصي رائد في أمراض الرئة والرعاية الحرجة في واحدة من أرقى المستشفيات في بيروت، والذي يهتم بالمرضى الذين يكافحون فيروس كورونا: “لقد تسبب الانفجار لي في ذلك.  لقد تم تخفيض راتبي إلى 20  في المئة مما كنت أقبضه من قبل، ولكن عندما علقت بناتي في الانفجار، إضطريت للسؤال:  ما هو المهم بالنسبة إلي؟ عندها قررنا المغادرة إلى الولايات المتحدة”.

كان أبيض أكثر قلقاً بشأن هروب الممرضات المُدَرَّبات واعتبره التحدّي الأكبر في المعركة ضد الوباء. قال: “ليس لدينا الكثير من الممرضات المُدَرَّبات في لبنان، وقد سمعنا أن العديد منهن يُخططن للمغادرة لأن رواتبهن انخفضت بشكل كبير. أعتقد أن نقص المهنيين المُدرَّبين سيكون أكبر مشكلة مع زيادة الإصابات، والتي تبدو وشيكة.”

وأدّى الإنفجار إلى توقف ثلاثة مستشفيات على الأقل عن العمل وألحق أضراراً بثلاثة مستشفيات أخرى، مما زاد من إجهاد توفير الخدمات الأساسية. وبحسب ما ورد في بعض التقارير، حاولت الحكومة اللبنانية إبرام صفقة مع بعض المستشفيات الخاصة لإتاحة الأسرّة لتلبية عدد متزايد من الحالات. لكن خبراء الصحة قالوا إن كل الجهود ستفشل إذا فشل الناس في محاكاة سلوك الإمتثال لقواعد الإحتواء التي أظهروها في آذار (مارس) الفائت.

في هذا الأسبوع فرضت الحكومة اللبنانية إغلاقاً محلياً في 111 قرية وبلدة. تهدف هذه الخطوة إلى السماح لغالبية الناس بالإستمرار في كسب معيشتهم مع محاولة تقليل فُرص حدوث كارثة شاملة لفيروس كورونا. لكن من غير المؤكد ما إذا كانت هذه الخطوة ستنجح. قال جون أنطون، صاحب مقهى في الجميزة، الذي لم يخضع للإغلاق بعد لأنه تضرّر بشكل قاتل في الانفجار، إنه لم يشعر بأمان أكثر في حالة الإغلاق الجزئي. “شخص ما من داخل إحدى تلك المناطق المئة المُغلَقة يُمكن أن يأتي إلى هنا، كيف ستحمينا؟. والعمال هنا، يكاد أن لا يضع أحد منهم قناع الوقاية”. وبحسب أبيض، يعتقد أن 50٪ فقط من اللبنانيين يرتدون أقنعة.

من جهتها دعت نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية والباتيسيري في لبنان إلى الإغلاق في شباط (فبراير) حتى قبل الحكومة، وذلك على الرغم من تكبّدها خسائر فادحة لصناعة كانت أصلاً في محنة. لكن الضرر الناجم عن الإنفجار أضعف عزيمتها. وقدرت النقابة أن تكلفة إعادة إعمار قطاع المطاعم لن تقل عن مليار دولار أميركي. في آب (أغسطس)، رفضت صراحة اتباع أمر إغلاق حكومي جديد لمدة أسبوعين. وقالت مايا بخعازي من النقابة: “كان ذلك بسبب بقاء القطاعات الأخرى مفتوحة”. عندما سُئلت عمّا إذا كانت النقابة ستُطيع أحدث القرارات والتعليمات، بدت في البداية غير مؤكدة لكنها دعمتها في ما بعد: “في ضوء العدد المتزايد من الحالات، يتعيّن علينا الالتزام بإجراءات الإغلاق والسماح للجنة فيروس كورونا بأداء عملها بشكل صحيح”.

رغم غرقهم في بحر من الأزمات، فقد تفاقمت معاناة اللبنانيين بسبب ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا. كان مبنى نبيل حداد على طراز “آرت ديكو” في قلب الجميزة عنواناً مرغوباً في الحي، حتى وقوع الإنفجار. لكنه الآن مليء بالحطام، ويحتاج إلى تجديد باهظ التكلفة قد يكلف نصف مليون دولار. لم تعرض عليه الدولة المساعدة، إلّا أنه منزعج أكثر من القيود الحالية على رأس المال – لا يسمح له مصرفه بسحب أكثر من 2500 دولار شهرياً. وقال: “الخشب والزجاج والبلاط والدهانات والخرسانة كلها نادرة ويجب دفع ثمنها نقداً بالدولار الأميركي. حتى الآن لم يتم عرض أو تلقي المساعدة من أي جانب”. علاوة على عبء شراء المواد، وفي منتصف السبعينات من عمره، أصيب حداد الآن بفيروس كورونا.

لم يؤدِّ انفجار مرفأ بيروت إلى تكبّد تكاليف مالية فحسب، بل سحق أيضاً وربما الأهم من ذلك الشعور اللبناني الشهير بالمرونة. يتحدث الكثيرون عن فقدان الأمل. يبدو الأمر كما لو أن اللبنانيين قد وصلوا إلى عتبة غير مُحدَّدة من المعاناة وعبروا إلى اليأس. في الحقيقة، لا تلوح في الأفق نهاية لمحنتهم، حيث لا تزال النخبة السياسية مُتردّدة في إجراء إصلاحات، وهو شرطٌ مُسبَق لإنقاذ مالي دولي. منذ الإنفجار، إستقال كلّ من رئيس الوزراء، حسّان دياب، ورئيس الوزراء البديل المُكلَّف، مصطفى أديب، ومع ذلك، يواصل الزعماء السياسيون، أمراء الحرب في حقبة الحرب الأهلية، التمسّك بالسلطة ومواصلة سياساتهم القائمة على الطائفية مع القليل من الندم على ما يبدو.

قال عبد الرحمن البزري، أخصائي الأمراض المعدية وعضو لجنة الطوارئ المعنية بفيروس كورونا، إن الحكومة أعادت فتح البلاد في منتصف الصيف بطريقة غير مُنتَظمة بدلاً من الخروج بخطة عمل متعددة التخصّصات. ولكن مع تدهور الوضع الإقتصادي، يقول: “كان السؤال هو ما الذي يجب أن تُعطى له الأولوية: العمل أم الصحة؟”. بين وضع الطعام على المائدة لأحبائهم واحتمال الإصابة بـ”كوفيد-19″، يبدو أن المزيد من اللبنانيين اختاروا العمل على الصحّة غير آبهين بالفيروس.

  • أنشال فوهرا هي مراسلة مستقلة لقناة “الجزيرة” وتكتب بانتظام في مجلة فورين بوليسي. وهي صحافية مقيمة في بيروت تغطي منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @anchalvohra
  • كتبت الكاتبة الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى