دولةٌ تُزاول الإِحلال ودولةٌ تُمارس الإِذلال

بقلم هنري زغيب*

صادمًا مئاتٍ من الموظَّفين والعمَّال كان القرارُ الذي أَصدَرَتْه الثلثاء الماضي (29 أَيلول/ سبتمبر) وزيرةُ التحَوُّل البيئي الفرنسيةُ باربَرا ﭘُـومْـﭙِـلـي (Pompili) حول الحيوانات الأَليفة والبرية بوقف استيلادها واستيرادها، خطوةً متدرِّجةً لإِقفال الأَحواض البحرية في البلاد، ووقْفِ عروض السيرك المتنقِّلة على الأَراضي الفرنسية.

وحظَّر القرارُ استيلادَ أَجناس مَعْنيَّة كالدلفين على أَنواعه، ومزارع تربية الـمِنْكْ (الـڤـيزون) الأَميركي طمَعًا بسلْخ فَرْوِه الثمين. فولادةُ هذه الأَجناس في “الأَسر” ظُلمٌ إِيَّاها، وعرضُها للفُرجة إِهانةٌ حقوقَها في الحرية. وهو ما درجَت عليه 20 بلدًا أُوروﭘـيًّا أَوقَفَت عُروض الحيوانات، في السيرك أَو الأَحواض البحرية، أَمام جمهور يشاهدها محجورةً وراء القضبان في حدائق الحيوانات، أَو محصورةً في النوادي المائية مزاوِلةً أَلعابَها البهلوانية المائية.

هذا الإِجراء – بحجَّة إِعادة الحيوانات البرية الأَسيرة إِلى حياتها الطبيعية – هلَّل له العاملون على حقوق الحيوانات، وناهضَه العاملون في مؤَسسات تضم نحو 500 حيوان بين أَليف وبَـرّي، وتؤَمِّن 160 وظيفة ونحو 500 متعاقد في مواسم سياحة سجَّلَت سنة 2019 نحو 800 أَلف زائر وسائح. وأَعلَنَت الوزيرة عن تخصيص الدولة 8 ملايين يورو تعويضاتٍ لأُولئك العاملين.

هنا نحن أَمام نموذجَين من الدُوَل:

دولةٌ تُحرِّر الحيوانات من سجونها احترامًا حقوقَ الحيوان، ودولةٌ تُبقي مواطنيها في السُجون اغتصابًا حقوقَ الإِنسان.

دولةٌ تُزاول الإِحلال ودولةٌ تُمارس الإِذلال: الأُولى تَمنع الإِنسان من حجْر الحيوان البحري والبري، والأَخيرة تَمنع عن الإِنسان محاكمتَه دون فصلها بين مَن قد تُعلنه المحكمة مجرمًا فتحكُم عليه، ومَن تُوقِفُه دون أَن تحاكمَه أَو تحكُم له.

دولةٌ راحمة تُطْلق الحيوانات إِلى حريتها في الفلَوات الوسيعة، ودولةٌ ظالمة تأْسر مواطنيها في سجن كبير وسْع أَراضيها.

دولةٌ تَحكُم إِنصافًا بالعدل بين الحيوانات بسُلطةٍ متحلِّمة، ودولةٌ تتحكَّم إِجحافًا بسُلطة تتسلَّط على أَرزاق الناس وودائعهم ومستقبلهم ومصائرهم.

دولةُ مسؤُولين عليمين في بلادٍ موهوبة مرهوبة، ودولةُ مسؤُولين عديمين في بلادٍ منكوبة منهوبة.

دولةٌ تَفرض الضرائب إِنما تؤَمِّن لأَبنائها ضمانات الشيخوخة وفُرَص العمل والأَمن والأَمان، ودولةٌ تَفرض الضرائب إِنما تَحرم أَبناءَها من أَيِّ ضمان، بل تتركهم مشرَّدين أَذلَّاء عند محطات الوقود ونوافذ المصارف وأَبواب الأَفران ومداخل المستشفيات.

دولةٌ تُحاكم فاسديها أَمام القانون بَدءًا من رأْس الهرَم، ودولةٌ يَحكُمها فاسدون يتشدَّقون يوميًّا بمحاسبة الفاسدين ومحاربة الفساد، ولا “تُرضي” الرأْي العام ولو بواحدٍ مِن قراصنتها المجرمين داخل قفص المحكمة أَو قضبان السجن.

دولةُ رجالِ دولة يَخدمون دولتهم، ودولةُ طُغمة سياسيين فاسدين ما زالوا يَسْتَكْرون الدولة لخدمتهم.

دولةٌ غاضبةٌ كان لثوَّارها يومًا أَن يَقطعوا رأْس ملِكَتِها تحت شفرة المقصلة، ودولةٌ غاصبةٌ تعتقل ثوَّارها وأَحرارها وصحافييها بأَوامرِ مَن هُم جميعًا “امرأَةُ القيصر” فوق الشبُهات، فيما شبُهاتهم بيِّنة مكشوفة على العالم، غير مدركين أَن العالم لن يرحمهم.

وقريبًا سوف تدقُّ الساعة، وتَسقُط الأَقنعة، ويَندلِعُ النفير.                                                     

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى