اليمن: رِمالُ حربٍ مُتَحَرِّكة في مأرب

فيما تستمر المعارك في اليمن وتشتدّ المواجهات العسكرية في مأرب وتتوسّع رقعتها، تتكشّف معالم حرب استنزاف بلا نهاية.

حزب الإصلاح في اليمن: السعودية تريده ضعيفاً ولكن…

بقلم أحمد ناجي*

إن كانت هناك مواجهة في حرب اليمن صُمِّمَت بدقّة لالتهام أكبر عدد من المقاتلين، فهي معركة مأرب. ذلك أن المواجهات العسكرية التي تدور رحاها منذ خمس سنوات بين أنصار الله “الحوثيين” والتشكيلات العسكرية الموالية للحكومة المُعتَرَف بها دولياً، والتي زادت وتيرتها أخيراً، أدت إلى مقتل الآلاف من الطرفين، في معارك الهجوم والهجوم المضاد. لا هزيمة كاملة في هذه الجبهة ولا انتصار كامل أيضاً. يُقاتل الطرفان في مساحة من الصعوبة تجاوزها. وتبدو الحرب فيها عملية استنزاف واسعة، وظيفتها الرئيسة إنهاك الجميع. حتى وإن قادت المواجهات إلى انتصار أحد الأطراف، فسيكون المنتصر أمام معركة استنزاف جديدة.

محافظة مأرب الواقعة في شمال شرق اليمن، شهدت أولى معاركها في كانون الثاني (يناير) 2015 بعدما استولى الحوثيون على صنعاء التي تبعد حوالي 170 كيلومتراً عنها. وخلال تلك الفترة، عمل الحوثيون على إخضاع معظم المدن الواقعة في شمال البلاد. نتيجةً لذلك، فرّ الكثير من المناوئين لحركة الحوثيين إلى مأرب التي كانت القبائل المحلية تقف بقوّة في وجه هجماتها.

في آذار (مارس) 2015، ومع بداية العمليات العسكرية للتحالف العربي بقيادة السعودية، بدأ التحالف بتزويد جبهة مأرب بالدعم العسكري والأمني، ما عزّز وضع المنطقة كمركز مقاومة ضد الحوثيين وجلب الكثير من المناوئين لهم. شكّلت الحكومة اليمنية ألوية عسكرية تحت مسمى “الجيش الوطني” جمعت العسكريين الذين رفضوا الإنصياع للحوثيين، بالإضافة إلى القبائل المحلية ومقاتلي حزب التجمع اليمني للإصلاح. تقاتل هذه القوات اليوم تحت قيادة الحكومة المُعتَرَف بها دولياً، وقد ساعدها التحالف في البدء على استعادة بعض المناطق التي كان الحوثيين قد سيطروا عليها.

وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي شهدته جبهات مأرب خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، إلا أن القتال استُؤنف بشكل واسع ومُكثّف منذ مطلع العام الحالي. أدت المواجهات إلى سقوط بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها القوات الحكومية والقبائل، خصوصاً في محافظة الجوف ومديرية نهم المُتاخِمَتَين لمأرب. اليوم تدور المعارك في العديد من الجبهات العسكرية على امتداد أطراف محافظة مأرب الشمالية والشمالية الغربية. وتحصد هذه الجبهات العشرات من المقاتلين بصورة شبة يومية.

يُهاجم الحوثيون بضراوة من أجل الاستيلاء على مأرب، المنطقة النفطية الغنية، والمركز الأكبر لمناوئيهم. ولا يكترثون لأرقام القتلى الذين يسقطون في صفوفهم. إذ يعتبرون الإستيلاء على مأرب هدفاً استراتيجياً ذا بُعدين عسكري واقتصادي، فإن تسنّى لهم إسقاط هذه المحافظة الصحراوية مُترامية الأطراف، فيعني أنهم قضوا على الخطر الأكبر الذي كان يطرق ذات يوم أبواب صنعاء، حين استولت القوات المتواجدة فيها على مناطق واسعة من الجبال الواقعة ضمن نطاق محافظة صنعاء، وإذا ما تحقق الإنتصار فيعني أيضاً استكمال السيطرة على محافظات الشمال كافة.

باستثناء بعض الجيوب الحدودية والمديريات التي سيسهل إسقاطها لاحقاً، فاقتصاديًا، يعني الإستيلاء على مأرب الإستحواذ على منشأة صافر النفطية التي تمد العديد من مناطق اليمن باحتياجاتها من الوقود.

لكن الحوثيين يواجهون مقاومة شرسة من القوات المنضوية تحت مظلة الحكومة اليمنية، والتي صارت مأرب معقلاً لها. وبات الدفاع عن هذه المحافظة مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى هذه القوات، كما يتجلّى في كثافة وضراوة المواجهات العسكرية الدائرة، والقدرة البطيئة للحوثيين في احداث اختراقات تحوّلية في مسار المعارك رغم كثافة هجماتهم، على خلاف جبهات المحافظات الأخرى.

لذلك، يبدو المشهد في مأرب كمعركة صفرية، لا يرى طرفاها سوى مواصلة القتال مهما بلغت الأكلاف المادية والبشرية. الطرفان يُدركان أن هذه المعركة ستُحدّد مصير خارطة السيطرة، والتحالفات، وجزءاً كبيراً من المشهد العام في اليمن في مُقبل الأيام. فهي ليست معركة جزئية على الهامش، بل مواجهة مؤجلة ومُكثّفة تدحرجت منذ العام 2014 من الكثير من المناطق، واستقرت في جبال مأرب وصحرائها.

لكن ما سر التباطؤ السعودي في التعامل مع هذه المعركة في الفترة الأخيرة؟ وما السبب وراء الرغبة المتنامية لدى الحوثيين لاجتياح مأرب في هذا التوقيت؟ الإجابة عن هذه التساؤلات ستكشف عن عوامل مهمة في مسار هذه المواجهات في لحظتها الراهنة. ورغم وجود أسباب عدة، إلا أن تبدّل سياسة التحالف العربي الذي تقوده السعودية، تجاه حلفائه على الأرض، أعاد ترتيب المشهد بطريقة مختلفة.

منذ بدء التدخل العسكري في آذار (مارس) 2015، تحالفت السعودية مع حزب الإصلاح واعتمدت عليه في حربها البرية ضد الحوثيين. لكن الطرفين يبدوان كرفاق سلاح فقط، يُحاربان خصماً مُشتركاً (الحوثيين). ومع تبدل أولويات السياسة الخارجية السعودية في علاقتها مع الدول الإقليمية خلال العامين المُنصرمين، حلت تركيا في أعلى قائمة خصوم السعودية الجديدة، متجاوزة إيران، إذ لا تُشكل الأخيرة خطراً تنافسياً في أوساط المجتمع السني الذي تدعي السعودية قيادته. هذا الأمر جعل السعودية تنظر إلى الكيانات التي تتسق وجدانياً مع السياسات التركية بتوجّس أكبر، وتسعى إلى إضعافها. من هذه الكيانات حليفها المحلي في اليمن، أي “حزب الإصلاح” الذي ينتمي إيديولوجياً لجماعة “الإخوان المسلمين”، الحليف الشعبي الأبرز للأتراك في المنطقة العربية، والذي يُنظر إليه ككيان غير مرضي عنه.

وعلى الرغم من وجود تشكيلات عسكرية وقبلية أخرى، إلّا أن السعودية لا ترى في مأرب سوى مركز تأثير وحضور لحزب الإصلاح. وانعكست هذا الرؤية على الأرض من خلال منع وصول رواتب المقاتلين في العديد من جبهات مأرب، خفض مستوى الدعم العسكري واللوجستي، بالإضافة تنفيذ حملات إعلامية في الكثير من الصحف والمواقع السعودية أو المحسوبة عليها تستهدف حزب الإصلاح، أو تتهمه بالتقاعس في حربه مع الحوثيين، وفي بعض الأحيان تتهمه بعقد اتفاقات سرية مع الحوثيين. من جانب آخر، فرضت السعودية قيوداً على حركة بعض قيادات حزب الإصلاح المتواجدين في أراضيها، كما سعت إلى إقصاء الكثير من القادة العسكريين المحسوبين على الإصلاح والإعتماد على القيادات السلفية والقبلية الموالية لها في بعض الجبهات. هذا التوجه يتوافق مع رؤية الشريك الثاني في التحالف، “دولة الإمارات” التي ترى في حزب الإصلاح خصماً يجب القضاء عليه أولاً.

ترى السعودية أن الإضعاف السياسي والعسكري للإصلاح خطوة يتوجب تحقيقها، لتحويل الحزب إلى كيان لا يملك رفاهية الإعتراض على سياستها، وأن تُصبح المواجهة المُستميتة هي طريقه الإجباري الوحيد. من وجهة نظر السعوديين، سيُنهي إضعاف الإصلاح مطالب النديّة التي كان بعض قياداته ينادي بها، وسيتحول إلى التبعية الكاملة لها، بعد أن استحوذت الرياض على قرارات الحكومة اليمنية المُعترَف بها دولياً، والتي باتت غائبة كلياً عن مجريات الأحداث في الداخل اليمني. لكن، في المقابل، تدرك السعودية أنها مُجبَرة على تقديم بعض الدعم بما يحافظ على بقاء صمود مأرب، لأن سقوط المحافظة بيد الحوثيين هو السيناريو الأسوأ الذي ستواجهه.

لا يعني إضعاف السعودية للإصلاح تفضيلها الحوثيين. وفقاً للرؤية السعودية، ستؤدي المعارك المتواصلة في هذه الجبهات، إلى تآكل القدرات البشرية والعسكرية للحوثيين كما الإصلاح، وستحرف تركيزهم عن الجبهات الحدودية المتاخمة للسعودية إلى المعارك الداخلية. لذلك ترافقت هجمات الحوثيين على مأرب مع فقدانهم بعض المواقع العسكرية في محافظة الجوف، والتي سبق ان استولوا عليها في الأشهر الماضية. ترى السعودية في إبعاد الحوثيين من مناطق الحدود أولوية لذلك يزداد دعم الجبهات القتالية المتاخمة أو القريبة من الحدود ويقل في المناطق الداخلية. من ناحية أخرى، بدا القتال في مناطق مفتوحة كنقطة ضعف للحوثيين في معاركهم نظرًا إلى عدم امتلاكهم سلاح الجو النوعي الذي تمتلكه السعودية، والذي تتحكم فيه من دون الحاجة إلى شريك محلي.

في المقابل، أدّت قدرة الحوثيين على حشد المقاتلين إلى تكثيف هجماتهم على مأرب. هذا الإندفاع مسكونٌ بفكرة الإستفادة من سياسة السعودية المُتغيِّرة تجاه حلفائها على الأرض. خصوصاً في ظل التغييرات التي طرأت على الجانب العسكري السعودي بعد قرار عزل قائد قوات التحالف السابق الأمير فهد بن تركي نهاية الشهر المنصرم، وتعيين الفريق مُطلَق المزيمع، ورغم أن هذه التغييرات قد لا تُغيّر توجّه صانع القرار السعودي، إلّا أن هذا القرار قد ُيغيّر بعض التموضعات على الأرض، لذا يحاول الحوثيون استباقياً تكثيف الهجمات خلال هذه الفترة.

على وقع هذه المعارك الطاحنة، قد تتغيّر مُجريات الأحداث في محافظة مأرب خلال الفترة المقبلة. تبعاً لذلك، فإن مأرب مُقبلة على 3 سيناريوهات رئيسة. الأول وهو المرجح، أن تستطيع القوات الموالية للحكومة صد هجمات الحوثيين، وإبقاء المعارك في إطار المراوحة. وهذا السيناريو مُحتمَلٌ نظراً إلى الدفاع المُستميت الذي تُبديه هذه القوات، وحرص السعودية على عدم سقوط مأرب بشكل كامل في مثل هذا التوقيت. مع بعض الفوارق، يُشبه هذا السيناريو الوضع القائم في مدينة تعز التي تشهد مواجهات منذ بدء الحرب، ولم يستطع الحوثيون اقتحامها حتى اليوم. هذا يعني بقاء المعركة مفتوحة وحالة الإستنزاف مُستمرّة. لكن قد لا يطول هذا الوضع، خصوصاً إذا حدثت مُتغيّرات في مسار المفاوضات بين الحوثيين والسعودية، واستطاعت الرياض من خلالها ترتيب أمنها الحدودي. وقد يتبدّل الوضع في حال قدّمت السعودية دعماً نوعياً للقوات المناوئة للحوثيين ودفعت بفتح جبهات القتال الأخرى.

السيناريو الثاني: أن تسقط مأرب بيد الحوثيين، وعلى الرغم من صعوبة تحقق هذا الأمر، أقلّه خلال الفترة الحالية، إلّا أن حدوثه لن يتم بدون وقوع خسائر بشرية هائلة من طَرَفَي الصراع. وإن حدث، فسيفتح الباب على مصراعيه أمام حروب المحافظات الجنوبية الشرقية، خصوصاً محافظتي حضرموت والمهرة، واللتين لن يتوانى الحوثيون في التوجه صوبهما. هذا الأمر سيفقد السعودية نفوذها على الأرض في الداخل اليمني. لكنه في المقابل سيتحوّل إلى حرب استنزاف كبيرة بالنسبة إلى الحوثيين. فحيازة جغرافية واسعة قد تكون عامل ضعف لا قوة، خصوصاً أن هذه المناطق ليست حواضن أساسية للحوثيين.

ثمة سيناريو ثالث، لكنه مُستبعَد حتى الآن، وهو أن تحدث تفاهمات بين الأطراف المحلية، تتوقف بموجبها المعارك ويُعاد ترتيب المشهد في مأرب وفق التغييرات الجديدة التي فرضتها المواجهات العسكرية الأخيرة. ما يزيد من استبعاد هذا الخيار هو شدة الخصومة بين الطرفين، والتي عمقتها الخسائر البشرية المهولة. يُضاف إلى ذلك انعدام الثقة بالإتفاقات التي تُبرم في ساحات المعارك، والتي تنهار بصورة سريعة. كما لن تقبل السعودية بتاتاً بهذا الأمر إذ ترى في تسويةٍ كهذه، خروجاً عن إرادتها، وهو أمر لا تستطيع القوات الموالية للحكومة دفع ضريبته خلال هذه الفترة.

على وقع طبول الحرب، تبقى المأساة الإنسانية هي الجزء المُغَيَّب، إذ يُواجه مئات الآلاف من النازحين الذين يسكنون مأرب، والمنتشرين في مخيمات النزوح، كارثة حقيقية نتيجة اقتراب المعارك باتجاههم. يتزامن ذلك، مع غياب الموقف الدولي المسؤول لإيقاف هذه الكارثة.

  • أحمد ناجي باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركز أبحاثه على الشؤون اليمنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى