بكين تُرسِّخُ مَوقِعَها في المغرب العربي

يتّسع نفوذ الصين في منطقة شمال أفريقيا بثبات. وهناك دول فيها، بينها المغرب، الجزائر ومصر، شهدت زيادة كبيرة في التعاملات معها، ما أدى بالبعض إلى التساؤل حول ما إذا كانت تلك الدول على وشك أن تصبح دولاً تابعة للصين. وفي الآونة الأخيرة، زادت بكين بقوة وبشكل ظاهر مساعداتها إلى عدد من بلدان المنطقة استجابة لانتشار جائحة كوفيد.

الوزير الجزائري سيد علي خالدي يستقبل السفير الصيني، لي ليانه: نحو إبرام مذكرة تفاهم للتعاون بين الجزائر والصين في مجال الشباب والرياضة

بقلم عادل عبدالغفار وآنّا جاكوبس*

خلال استقباله رئيسَ الوزراء المغربي، سعد الدين العثماني، في بكين في 5 أيلول (سبتمبر) 2018 بمناسبة الذكرى السبعين على بدء العلاقات بين الصين والمغرب، شدّد الرئيس الصيني شي جين بينغ على أنّ بلاده “تعتبر المملكة المغربية شريكاً مُهماً لتنفيذ مبادرة الحزام والطريق”، وهي التسمية التي أطلقتها الحكومة الصينية على مشروعها “طرق الحرير الجديدة”.

وبعد بضعة أشهر، في شباط (فبراير) 2019، تزيّنت مدينة شفشاون السياحية الواقعة في شمال المغرب بألف وخمسمئة مصباح أحمر للإحتفال بمهرجان الربيع الصيني، وهذا حدثٌ لا سابق له. على إثر ذلك، لم تتوانَ الصحافة المحلية، التي أدركت تماماً هذا الأمر، عن التركيز على تزايد الحضور الصيني التدريجي في المغرب الأوسط، وبشكل عام في شمال أفريقيا.

ومع أنّ المشاريع الجارية لا تزال قليلة، بات عددٌ من البلدان مثل مصر والجزائر والمغرب يُشكل جزءاً من استراتيجية الصين للإنتشار في المنطقة التي تُعتبر استراتيجية نظراً إلى تموضعها على التقاطع بين الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب أوروبا وحوض المتوسط. ومن بين القطاعات الرئيسة التي تعكس هذا الحضور المتزايد: التجارة، وتطوير البنية التحتية وبناء الجسور، وإطلاق جهات وصل بحرية جديدة، والتعاون المالي والسياحة والتصنيع.

وتستند بكين إلى حجتَين رئيستَين لكي تتميّز عن منافسيها الغربيين. الحجّة الأولى هي السياسة الرسمية بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية الخاصة بشركائها الذين يجدون في هذا الأمر منفذاً جذاباً من الإلتزامات التي يفرضها التعاون مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، فتعتبر الرباط وتونس والقاهرة أحياناً أنّ معاهدات الشراكة الموقّعة مع الإتحاد الأوروبي مُقَيِّدة للغاية. أما الحجّة الثانية، فتكمن في البراغماتية والإنتهازية اللتين تتّصف بهما السياسة الصينية. ففيما يتم اتخاذ القرارات في الصين عبر تسلسل قيادة شديد الترتيب، مّا يُسرّع عملية اتخاذ قرارات الإستثمار، غالباً ما تأخذ الموافقة على قرارات من هذا النوع الكثير من الوقت في العواصم الغربية. بالإضافة إلى ذلك، تتميز الصين بقدرة فريدة على تقديم تمويل ويد عاملة رخيصين لتطوير البنى التحتية، وهو مجال تعجز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المنافسة فيه. وحدث هذا الأمر مثلاً عند بناء آلاف المساكن في الجزائر بين العامَين 2002 و2010. فمن كانون الثاني (يناير) 2005 حتى حزيران (يونيو) 2006، أبرمت الصين مع الجزائر 29 عقداً كبيراً لقاء قيمة إجمالية تبلغ 22,22 مليار دولار أميركي.

وتعود علاقات بكين مع بلدان شمال أفريقيا، ولا سيّما الجزائر ومصر، إلى أواخر فترة الإستعمار، وقد أتت نتيجة دعم إيديولوجي لحركات التحرير الوطني. وكانت الصين البلدَ غير العربي الأول الذي اعترف بالحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر (بين العامَين 1958 و1962)، وقدّمت دعماً ديبلوماسياً مُهمّاً لحرب الإستقلال التي شنّتها جبهة التحرير الوطني (بين العامَين 1954 و1962). وكان جمال عبد الناصر، من جهته، القائد العربي والأفريقي الأول الذي اعترف في العام 1956 بجمهورية الصين الشعبية. بالتالي، من دون أن تضطلع جمهورية الصين الشعبية بدور دامغ يوازي دور الاتحاد السوفياتي، فقد شكّلت دعماً متيناً لنظام الرئيس المصري في مواجهاته ومناوشاته الكثيرة مع الغرب.

لكن في بداية الألفية، حوّلت الصين اهتمامها في هذه المنطقة لأسبابٍ إقتصادية. وتُشكّل مبادرة الحزام والطريق تعبيراً عن هذا التحوّل. بالطبع، ما زال جنوب آسيا المُستفيد من غالبية المشاريع الناجمة عن هذه المبادرة، غير أنّ التوسع نحو الغرب باتجاه أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا جارٍ على قدم وساق. فقد أنشأت بكين شراكة استراتيجية شاملة مع الجزائر ومع مصر في العام 2014، وشراكة استراتيجية مع المغرب في العام 2016. أما مصر، فتحظى بأكبر قدر من التبادل التجاري، إذ تتخطى المبيعات الصينية في مصر 8 مليارات دولار أميركي سنوياً. وتستمر تدفقات رأس المال بالتزايد. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، أشار الأمين العام لاتحاد المصارف العربية وسام فتوح إلى أنّ الإستثمارات بلغت 15 مليار دولار أميركي، وهي مُخصّصة رسمياً لتمويل المشاريع العقارية ومشاريع البنى التحتية من أجل العاصمة الإدارية الجديدة في شمال شرق القاهرة، ولمصنع بتروكيميائي، ومحطة مُحتملة لتكرير الماء وتخزينه، ومحطة عاملة على الفحم لتوليد الكهرباء.

أما الجزائر، فهي تُشكّل أحد الشركاء الاقتصاديين الأقدم والأبرز لبكين التي تهتم باحتياطها الهائل من النفط والغاز. ففي العام 2013، انتزعت الصين المرتبة الأولى من فرنسا، وفي العام 2018، وصلت صادرات الصين إلى 7,85 مليار دولار أميركي، وهو رقم قياسي للتجارة الصينية في المغرب العربي. وتنشط الشركات في المقام الأول في قطاعات البناء والإسكان والطاقة. وفي الجزائر، تهتمّ الشركات الصينية في المقام الأول بقطاعات البناء والإسكان والطاقة. فتبرز في الجزائر مشاريع بناء مهمة، مثل دار أوبرا الجزائر وفندق شيراتون وجامع الجزائر والطريق السيار شرق-غرب. بفعل هذه المشاريع، قدم آلاف العمال والتجار الصينيين الذين بنوا “حيّاً صينياً” في قلب حي بوسحاقي في الضاحية الشرقية لمدينة الجزائر. وقد نشبت مشاجرات عدة مرات مع السكان المحليين، ولا سيّما في صيف 2009 وصيف 2016. ويبقى هذا الحضور سبباً للتوتر المتكرر.

وفي المغرب، منذ أن زار الملك محمد السادس الصينَ في العام 2016، إزدادت الإستثمارات والتبادلات التجارية أيضاً. وأضحت المنصّةُ الأولى لميناء طنجة المتوسط في الشمال الميناءَ الأكبر للحاويات في أفريقيا، متجاوزاً منافسَيه بورسعيد (في مصر) وميناء ديربان (في جنوب أفريقيا). وتخطّط شركات مثل شركة الاتصالات العملاقة “هواوي” لتشييد مراكز لوجستية محلية في الميناء. وفي مناسبة الذكرى العاشرة على تدشين الميناء، أعلنت الرباط عن مشروع استثماري بقيمة 10 مليارات دولار أميركي يحمل اسم “مدينة محمد السادس طنجة تيك”، ومن المفترض أن يضم مئتَي مصنع في السنين العشر المقبلة، ليصبح المغرب بذلك المقر الصناعي الصيني الأكبر في القارة.

وتسعى الصين أيضاً إلى توطيد علاقاتها التجارية مع تونس وليبيا. ففي العام 2018، وقّعت مذكرات تفاهم في إطار مبادرة الحزام والطريق مع هذين البلدَين. ومع تونس، بلغت المبيعات الصينية متوسطاً سنوياً قدره 1,85 مليار دولار أميركي منذ العام 2016، مما يضعها في المرتبة الثالثة بعد فرنسا وإيطاليا. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا في العام 2011، إضطرت بكين إلى إجلاء مواطنيها والإنسحاب من مشاريع واستثمارات مهمة. غير أنّ وارداتها من النفط الليبي ازدادت أكثر من ضعفين منذ العام 2017. وقد ذكرت الحكومة الصينية مرّات عدّة أنهّا جاهزة للمشاركة في إعادة البناء متى عاد السلام إلى الأراضي الليبية.

ونظراً إلى اهتمام الصين بالسيطرة على الطرق البحرية، إستثمرت من خلال شركة كوسكو الصينية للملاحة البحرية في موانئ طنجة وشرشال (في الجزائر) وبورسعيد والإسكندرية، بالإضافة إلى ميناء بيرايوس (في اليونان)، وموانئ في إسرائيل وتركيا وإيطاليا. وتخصّصت الصين أيضاً في مدّ الكابلات البحرية، وهو عنصر مهم في استراتيجيتها لتطوير الاتصالات. فقد صمّمت شركة شبكات “هواوي” البحرية كابل “حنبعل”، الذي يربط تونس بإيطاليا، ومَدَّته في العام 2009، بالإضافة إلى مدّها كابلاً مهماً آخر يربط ليبيا باليونان في العام 2010. وقد ولّد هذا الأمر هواجس في أوروبا التي تخشى أن تستفيد بكين من هذا المشروع لجمع معلومات حساسة. وازدادت هذه الهواجس عندما أكّد مسؤولون سريلانكيون أنّ الصين شدّدت على مكوّن جمع المعلومات الاستخباراتية الذي يرصد كامل حركة الملاحة عبر ميناء هامبانتوتا الذي سيطرت عليه بالكامل في العام 2017، مقابل إلغائها لدين قدره 1,2 مليار دولار أميركي.

وتسعى الصين أيضاً إلى زيادة نفوذها في المنطقة من خلال انخراط ثقافي أكبر. ففي إطار مذكرات التفاهم الموقعة بين ملك المغرب والرئيس الصيني في العام 2016، تمّ تدشين مركز ثقافي صيني في الرباط في كانون الأول (ديسمبر) 2018. وتضمّ مصر معهدَي كونفوشيوس واقعَين في جامعة القاهرة وجامعة قناة السويس، بالإضافة إلى أنّها تضمّ مركزاً ثقافياً صينياً في العاصمة. وفي تونس، افتُتح معهد كونفوشيوس الأول في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018. وفي خلال قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني-الأفريقي في أيلول (سبتمبر) 2018، قررت الحكومة الصينية أيضاً أن تزيد من عدد المنح للطلاب الأفريقيين، بمَن فيهم الطلاب في شمال القارة، لكي يتمكنوا من متابعة دراساتهم العليا في الصين، فوعدت بتقديم 50 ألف منحة و50 ألف مساعدة أخرى للتعليم. وبالنسبة إلى الطلاب الأفريقيين، باتت تشكل الصين الوجهةَ الثانية بعد فرنسا، فقد ارتفع عددهم من 2000 في العام 2003 إلى قرابة 50 ألف في العام 2015، أي بازدياد قدره 25 ضعفاً.

ولكي تُرسّخ بكين نفوذها، أسّست منظمات إقليمية مثل منتدى التعاون الصيني-الأفريقي ومنتدى التعاون بين الصين والدول العربية، على الرغم من أنّها تتعامل حالياً مع كل بلد شمال أفريقي بشكلٍ أساس ضمن إطار ثنائي. ويعكس هذا الإنخراط الديبلوماسي مبدأ “نوع جديد من علاقات القوة المهمة”، الذي تسعى الصين بموجبه إلى أن تنخرط مع بلدان أصغر متى تضافرت ضمن منتديات إقليمية مهمة.  ولا تُعتبر هذه البلدان قوية بما يكفي لتتيح تعاوناً عالي المستوى إلّا عندما تبلغ هذا المستوى من التعاون.

أمّا العمليات العسكرية، فقد بدأت أوّلها في العام 2011، عندما ساعد جيش التحرير الشعبي الصيني على إجلاء آلاف العمال الصينيين من ليبيا قبل أن تباشر منظمة حلف شمال الأطلسي بشنّ الغارات الجوية ضد نظام معمّر القذّافي. بعد ذلك جرت مناورة عسكرية صينية-روسية مشتركة في العام 2015 في المتوسط. وبشكل خاص، إفتتحت بكين أوّل قاعدة عسكرية لها في جيبوتي في العام 2017، مما يضع الساحل الغربي من المتوسط ضمن نطاق قواتها البحرية والجوية. وفي كانون الثاني (يناير) 2018، توقفت سفينتان حربيتان من مجموعة الحراسة البحرية الصينية السابعة والعشرين في مدينة الجزائر للقيام “بزيارة ودية” امتدت على أربعة أيام كجزء من جولة مدتها أربعة أشهر.

وفي غضون عقدَين فقط، عزّزت الصين موقعها في شمال أفريقيا. لكن لا يزال من المُبكر إستخلاص نتيجة نهائية من هذا التمركز. فما زال ينبغي تقييم تداعيات حضورها الزائد الذي قد يترك في المدى البعيد آثاراً سلبية في الحسابات العامة، ولا سيّما في حال كانت المشاريع المموَّلة غير ضرورية. بالمثل، لا تنفك الإستثمارات الاستراتيجية، ولا سيّما في الموانئ، تزيد من قلق البلدان الغربية المُدركة لإمكانية استخدام هذه البنى التحتية لغايات عسكرية وأمنية.

  • عادل عبد الغفار هو زميل في مركز بروكنغز الدوحة. وهو متخصّص في الاقتصاد السياسي وتشمل اهتماماته البحثية العلاقات بين الدولة والمجتمع، والتنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @AdelAGhafar. وآنّا جاكوبس هي باحثة في معهد بروكنغز الدوحة. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @AnnaLeaJacobs

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى